الحجّ إلى مُونيخ (12) عُمرة في سُجون ما قبل الفيريس

Views: 349

محمّد خريّف*

 من سُجون الخدعة العلاماتيّة

في مُونيخ سُجون أخرى وجوهها تخفيها عن الأبصار علامات منها ما ترسّخ في الذاكرة الشّعبيّة عند العرب، ولا سيّما سكان شمال إفريقيا من ولع بتفخيم فضائل الغرب ومنه الألمان ، وخوفا من الوقوع في سُجون ما وقع فيه كتّاب الرّحلة العرب ممّن دوّنوا ما بدا لهم وجيها وذا بال ، فلم يخْفَ عن القرّاء النقاد الدّارسين ما طغي على نصوصهم من مظاهر الانبهار المفرط والإعجاب الشديد بما شاهدوه وأغراهم من خلال   ما عاينوه مباشرة من علامات الغرب ومعالمه ، ولا سيّما ما له ينحني ويركع حجيج البعثات الدّيبلوماسيّة  انحناء المغلوب الساجد الراكع أمام سُلطة الغالب ، فانخدعوا لما تراه العيون من مظاهر التمدّن في باريس عاصمة الأنوار، فنقلوا بطرقهم وأساليبهم في أدب الرحلة ما بدا لهم طريفا في الملبس والمأكل عند النساء والرجال، كما حاولوا أن يصلحوا ممالكهم عن طريق ما يصلح للاقتداء وأخذ العبرة من تعامل الملوك في فرنسا مع مواطنيهم، فتفاعلوا مع ثقافة التبشير بالعدل والمساواة تجسدها  ذهنيّة الصّراط المستقيم ، فتمثل مجسمةعلى مستوى هندسة المعمار ومظاهر السلوك  وما يدخل في حيّزهما من مبادئ الصّدق في القول والإخلاص في العمل وأساسهما المصداقية والحفاظ على المواعيد.

بهرج هذه الحضارة المبشرة بالأمن والسلام والتآخي كادت أن تصبح عندي عقيدة ترسّخت في الكيان الثقافي من دروس الحضارة، وأغلبها يعلي من شأن الفكر الإصلاحي التونسي ويحاول التوفيق بين الأصيل والدخيل وأخذ الصالح من حضارة الغرب وترك الطالح الذي لا يتماشي مع الحضارة العربية الإسلامية، على غرار ما يدعو إليه خير الدين باشا في كتابه” أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”.

وكدت أدين بدين كتب الإصلاح وما كتب الإصلاح إلا علامات مركبة تتضامن في معجمها ونحوها ومقامات تعبيرها، للقيام بمهمة التربية والتأديب الذي قد يغدو ضربا من حشر الأذهان بالقوانين والدساتير،  الموهمة باليقين، ولا يقين لعلامة سواء أكانت صورة أو نصا لكن   ولولا اطلاعي على ماكتبه امبرتوأيكو وغيره من فلاسفة العلامة المحدثين أمثال بارط ودريدا وغيرهما ،لظللت سجين ما رباني عليه فقهاء اللغة من شيوخنا ولما ينبهونا إلى خطر الخدعة  خدعة العلامات –والعلامة لاهي أساسيّة ولاهي ضروريّة- يقال في علاقتها بمدلولها ما قاله فرديناند دي سوسير في العلاقة بين العلامة ومدلولها ، وهي علاقة اعتباطية بعض مبادئ من مبادئ علم السيمياء تمكنت من الاطلاع عليها بارادتي المتواضعة كشفت لي أوكادت  زيف الاطمئنان الى يقين العلامة، فعدلت عن مجموعة من المسلمات منها مقولة الجزم بأنّ مونيخ بلد المصداقية والعدل الاجتماعي بلا منازع حيث العمل بمبدأ “أعط لقيصر ما لقيصر”.

 

لكن هيهات لعلّ ماخفي كان أعظم فالعلامات كالمعالم تخدع وتخون فيفنّد عندي ما جرى عندي مجرى التصديق والتسليم، وذلك  بسبب ما كنت أسمعه وأقرأه  عن الألمان قبل المجيء إلى مونيخ، فعن الاستغلال يهمس لك  البعض من الثقات فيروي لك صورا من حياة التعامل المستور مع الأعراف ومن لف لفهم من أصحاب العمارات والشقق المخصصة للكراء، وشتان بين من عاشر و اكتوى بنار الوجه الآخر للعلامات ومونيخ ومن زارمونيخ على جل مثلي في زمن الكورونا زمن التباعد والتنافر.

ويؤسفني ألا أتحدّث  مع الألمان في مونيخ كما كنت أفعل في الحمّامات زمن كنت مراسلا خاصا لجريدة الصباح في السبعينات من القرن الماضي، وفي مُونيخ هنا في زمن الكورونا لاشيء غير التحية من بعيد، إن كان لها أن تكون بالصدفة ودون ترتيب أو تدبير، وكل منا لاه في نوّاره، ولعلّ طبيعة الألمان في الجنوب غير طبيعة الألمان في الشمال- هذا أقوله تخمينا لا يقينا- ولا أدري ماذا وراء العلامات البارزة وسبل التأويل كثيرة معقّدة وقد  يخفي بريق الزّيف العلاماتيّ قتامة الوجوه الأخرى المفارقة ومنها الوجه والدعائيّ الامبريالي السلطويّ، ومن قرائنه هيمنة اللغة الألمانية على كل اللغات الأخرى، وماهيمنة لغة البلد دون غيرها الا من من دواعي فرض هيبة البلد المادّية والمعنويّة .

  ومن المُفارقات التي دقّت معانيها حضور ضمنيّ للديمقراطيّة  في بلاد الديمقراطية، وقد يحضر الظلم مسكوتا عنه في بلاد العدل والمساواة. وهل يسلم مجتمع يهيمن فيه رأس المال وتتحرّك دعوات التبشير قدر استمالة النفوس وإقناعها بأساليب مقنّعة لاعتناق الدين المسيحي،  وهو أمر من الامور الكثيرة التي قد لايدركها من أقام مثلي في مونيخ وغادرها سائحا على عجل ، فلم يعاين تصرفات بعض الجمعيّات المذهبيّة.

وقد لاتخلو بعض الشوارع والأنهج والساحات من إشارات التذكير والدعوة الى إحياء روح المسيح العائد المنتظربمناسبة عيد الفصح وغيرها من الأعياد الدّينية ، فالمهمّ وراء العلامات”البلايك”ما يدل على ما يطفو على السطح يخدع العين فينخدع معها العقل اللاسيميائي الساذج فينبهرانبهار كتاب الرحلة الى أوروبا في القرن التاسع عشر  بعلامات الحضارة الغربية البراقة وتجسدها أشكال  ملابس النساء وحركة الناس في مدينة الانوار مونيخ.

وقد أشار أحمد بن أبي الضياف في كتابه “الاتحاف” إلى مظاهر منها ولاسيما تلك التي تتعلق بحرية التعبير في نقد الملوك وليس للإعجاب المفرط والانبهار اللافت أن يكون كما كان في كتب الرحالة، لولا غياب علم السّيمياء الحديث، علم التفكير في العلامة لاعلم الانسياق والتسليم فالتصديق والعلامة لم تكن بضروريّة ولا أساسية.

لذا فان أمر الإخبار عن مُونيخ من خلال ظاهر العلامات فقط دون تحقيق علميّ مفارق يظل أمرا منقوصا لايعتدّ به، وان بدا بابا من أبواب الحقيقة واليقين الزائف لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب الكذب والزّيف، لذلك كان لابد من الاستعانة بفكر فلسفي علاماتيّ يساعدني على تجاوز ما كان من إسقاط مفاهيم اكتسبت عندي صفة اليقين بعوامل نفسية وثقافية موروثة بالطّبع والتطبّع.

ولم تكن العلامة الثقافية في مونيخ بمستقلة عن التأثر بتأثيرات الهويّة الألمانيّة بالجنوب وهي هوية التمسّك بالأصل ومنه الشوفينيّة، وقد تبدو على الوجوه الرافضة للداخل الدّخيل ولا بشاشة على وجوه المارة في الغالب، كما يخيّل لي وجودها في ايطاليا أو  في فرنسا وبقية بلدان البحر المتوسط ، وهل للمكان ومناخه تأثير في طبيعة السكان وأمزجتهم.

ولعلني أكون واقعا في تخوم إصدار الأحكام الموروثة بالسماع وقراءة كتب اللاّسيمياء كتب التراث العربي الاسلامي،  ولعلي أكون سجين تأويل التأويل على سبيل التّكهن و الافتراض، وقد حال طيلة إقامتي الممددة في مونيخ دون الاتصال بأهل مونيخ لمحاورتهم بسبب ما يفرضه قانون  التباعد القائم بالقانون الوضعيّ والضّمير الجمعيّ، طلبا للوقاية و تجنّبا  لما لا يحمد عقباه من الإصابة بوباء فيريس الكورونا ينضاف اليه فيروس عقبة اللغة، فيخيب الأمل ولا يتحقق حلم الحجّ إلى مُونيخ كما رغبت فيه  وأساسه الحوار الثقافيّ المختلف. وقد يأتي عليّ تحوّل ولا طهارة أجنيها تشبه طهارة من حجّ وزمزم 

( يتبع….)

***

(*) كاتب من تونس- مونيخ – مارس /أفريل 2020

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *