الحوكمة وسلوكيات التواصل الوظيفي

Views: 686

  فيصل طالب

(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)

يكتسب الحديث عن الإدارة العامة، في ضوء المبادئ الأساسية للحوكمة التي يشكّل الإصلاح الإداري رأس الحربة فيها، مفاهيم جديدة تقوم على اعتبار هذه الإدارة الوجه الأقرب للدولة إلى مواطنيها، على قاعدة تقديم الخدمة لهم، وتوفير مصالحهم،  وحفظ حقوقهم، وتأمين مقتضيات الصالح العام؛ وهو ما يستدعي أن ترسي هذه الإدارة علاقات جديدة بينها وبين المواطنين، أساسها الثقة والشفافية والعدالة؛ وذلك على نقيض ما تراكم في الذاكرة الجماعية من سيادة عقلية الإدارة الحاكمة وليس الإدارة الخادمة؛ فضلاً عن الانطباعات غير الإيجابية التي ألصقت بهذه الإدارة صفة الفساد عموماً ومن غير وجه حق؛ إذ إنّ الفاسدين فيها هم القلّة والصالحين هم الكثرة.

تنتظم الحوكمة أوالإدارة الرشيدة المتلازمة مع “الهندرة” (إعادة هندسة الإدارة باتجاه التطوير والتحديث) في أطر الأبعاد السياسية والقيمية والإجرائية الإصلاحية  والسلوكية التواصلية التي تحكم إدارة الدولة بكفاءة وفعالية، وتسمح لها أن تكون الحاضنة لخطط التنمية المستدامة في كل المجالات إعداداً وتنفيذاً وتقييماً؛ إذ لا يمكن للإدارة أن تقتصر أهدافها فقط على تسريع المعاملات وتبسيطها وتمكين أصحابها من تعقّبها وتبيّن مآلها، ووضع قواعد البيانات العائدة لكل إدارة في متناول الجمهور، والتعريف بمسؤوليات الموظفين  وواجباتهم، وبالقواعد والأصول المتبعة لإنجاز المعاملات،…

 أطر الحوكمة

أوّلاً – الإطار السياسي

لا بدّ لكل تطوير وإصلاح لتمكين الإدارة من بلوغ أهدافها من حاضنة سياسية توفّر لها سقف الحماية من التدخل والمحسوبية، وتنتشل المسار الإداري العام من أيدي السياسيين ليستقرّ في كنف المؤسسات ذات الصلة، ولتكون المصلحة العامة البوصلة والنبراس اللذين يُهتدى بهما وحدهما من دون أي اعتبار آخر. وهذا الأمر يحتاج إلى قرار وطني كبير يحصّن الإدارة، ويصونها من التدخّل والفساد، ويمدّها بأسباب الصمود في وجه كل محاولة تبتغي استباحتها والعبث بها، وذلك من خلال وضع استراتيجية للإصلاح الإداري على المدى القريب والمتوسط والبعيد، بعيداً من البرامج الطارئة أوالمؤقتة التي تستفيد من اقتناص الفرص العابرة التي تتوافر لها عناصر النجاح المحدود، إمّا لوجود الظرف السياسي المؤاتي، أو لتوافر  الإرادة لدى بعض المسؤولين؛ علماً أن هذه النجاحات لا تحظى دائماً بعاملي الثبات والاستمرار.

ثانياً – الإطار القيَمي

 وهو يتضمن منظومة القيم الأخلاقية والمهنية الأساسية التي تحكم قيام الموظف بأداء واجباته الوظيفية بإخلاص واجتهاد وفاعلية، متجرّداً من سوء القصد، ومتجنّباً إلحاق الضرر بالمصلحة العامة. ومن قواعده:

احترام القانون : الالتزام بالقواعد القانونية والتنظيمية المرعية الإجراء، دون تحريف أو إهمال أو مخالفة.

الأمانة : التزام الموظف بعدم تبديد المال العام أو إساءة استعماله، والحرص على ترشيد استخدام أدوات العمل وتجهيزاته والحفاظ عليها.

الحياديّة : التقيّد بما تمليه المعطيات الموضوعية للشأن الوظيفي، دون مراعاة أو تمييزعلى أساس الانتماء المناطقي أوالمعتقد الديني أو السياسي أو العرقي…

العدالة والمساواة : تكريس مبدأ تكافؤ الفرص بين المعنيين بالشأن الوظيفي، الموظفين منهم والمواطنين.

النزاهة : هي القدرة على التجرّد من أيّة مقاصد خاصة في أداء العمل الوظيفي.

الشفافية : العلانية والوضوح في الأعمال الوظيفية، وتمكين المواطنين من الحصول على المعلومات العائدة للمعاملات والإجراءات المرتبطة بمصالحهم وحقوقهم.

المصداقية : هي مطابقة الفعل للقول وجدارة الشخص باكتساب ثقة الآخرين بالاستناد إلى صدقيته.

ثالثاً – الإطار الإجرائي / الإصلاحي

وهو يتضمّن التدابير والإجراءات العملية المعنيّة بتسيير المرافق العامة بكفاءة وفعالية، وبآفاق التطوير والتحديث والإنماء الإداري المستمر، ورفع مستوى الخدمات التي تستجيب لحاجات المواطنين، بعيداً من أدبيات الخطاب الإصلاحي الظرفي أو الموسمي الذي يتحدّث نظرياً عن ضرورة انتشال الإدارة من حالات الضعف والترهّل والفساد. من قواعده:

الاستثمار الناجع لموارد الدولة البشرية والمادية والاقتصادية، وإغناؤها المستمر.

 تحديث القوانين والأنظمة الإدارية.

إعادة النظر في هيكليات الوزارات والإدارات وأجهزة الرقابة.

  تعزيز قدرات الرقابة والمحاسبة وتصويب المسارات، وتفعيل الأطر التسلسلية للرقابة الداخلية.

اعتماد التدقيق ( auditing) في الإدارات العامة لتشخيص أسباب النكوص والفشل في تحقيق الأهداف، ووضع الحلول الآيلة للتصحيح والتصويب.

تعزيزالبعد المؤسسي والعمل الفريقي وتوسيع قاعدة المشاركة في صناعة القرارات.

التحوّل من مفهوم الإدارة التنفيذية فقط إلى الإدارة القادرة على مواجهة المتغيّرات والمستجدات، وتطويرالعلاقة الطردية بين متطلبات العمل وتوجّهاته المستقبلية، وبين الموارد البشرية والمادية والفنية المناسبة.

اختيار الموظفين وتكليفهم المهمات والمراكز وفقاً لمعايير الجدارة والكفاءة، وإخضاعهم للتدريب المستمر.

 تحسين الأداء الوظيفي باعتماد التقييم المستمر للموظفين وللوحدات الإدارية، وجعله معياراً وحيداً للترقية والترفيع والمكافأة، واعتماد مؤشرات علمية لقياس مستوى الأداء والإنتاجية.

 توصيف وتصنيف الوظائف.

 إقرار مبدأ المداورة في المواقع الإدارية القيادية.

 ضمان جودة الخدمات المقدّمة للمواطنين بأيسر سبيل وأقل كلفة.

 ترسيخ مفاهيم الإفصاح، وتمكين المواطنين من الوصول إلى المعلومات.

 تعزيز الإنتاجية وصونها من كل أشكال الفساد والهدر، بسقف الأمن الثقافي الإداري الوطني الذي يحمي أي مشروع نهضوي من الفساد والسقوط، على قاعدة أنّ مسؤولية الإصلاح الإداري تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع وهيئاته وقواه الحيّة.

تسريع الخطوات التنفيذية لاعتماد الحكومة الإلكترونية.

  رابعاً – الإطار السلوكي / التواصلي:

تقاس جودة تلقّي المعلومات وفاعليتها بجودة المهارات التواصلية المكتسبة التي تشكّل جوهر الأداء الوظيفي، وهي على كل حال أهم المهارات الحياتية على الإطلاق، وخصوصاً لمن يكون مجال عمله بين الناس ويقتضي التعامل والتفاعل معهم. وأيّاً يكن نوع الاتصال، فإنّه يتطلّب شروطاً أساسية ليكون فعّالاً ومنتجاً، من بينها اكتمال عناصره والإيجاز والوضوح. ومن قواعده:

استخدام الصلاحية دون تجاوز أو إهمال أو تعسّف .

عدم استغلال الوظيفة العامة لغايات شخصيّة.

واجب التحفّظ والسرّية في عدم إفشاء المعلومات الشخصيّة والعامّة.

الحفاظ على كل ما من شأنه أن يصون الكرامة الشخصيّة والوظيفية للموظف.

التزام احترام الرؤساء والزملاء وحسن التوجّه إلى المواطنين.

استخدام وسائل الاتصال الحكومية لأغراض الوظيفة.

العناية بالمظهر اللائق.

١-عناصر التواصل :

المرسِل

الرسالة

المرسَل إليه

الوسيلة أو الأسلوب

ولا ريب أنّ العنصر الربع من هذه العناصر هو العنصر الأهم الذي يعوَّل عليه في إبلاغ مضمون المرسَلة بفعاليّة ونجاح وتركيز وجدوى. فكم من محامٍ استطاع بأسلوبه المتميّز أن يقنع القاضي الذي يترافع أمامه بصوابيّة دفاعه وبراءة موكّله، ولو كانت الأدلّة والبراهين التي تجمّعت لديه في هذا السياق غير مكتملة؟! وكم من سلعة أخطأ أصحابها في ترويجها فباءت بالفشل، وسلعة أخرى اعتمد في تسويقها على تقديمها للجمهور بطريقة مبتكرة وغير تقليدية، فانتشرت في الأسواق، وحقّق أصحابها الربح الوفير. ولقد قال سقراط: ” تكلّم حتّى أراك”، والمثل الإنكليزي يقول:  “يُعرف الطير من تغريده، والرجل من كلامه”، حتى أنّ الكاتب الفرنسي بوفون (Buffon) اختصرالإنسان بأسلوبه حين قال ” الأسلوب هو الإنسان”.

من عناصر الأسلوب الناجح لدى المرء الابتسامة التي تزيل الحواجز، واستخدام المفردات والصيغ الكلامية التي تتناسب ومقتضيات الحال، وإبداء الرأي في الآخر دون التقليل من شأنه، وتجنّب استخدام “الأنا” بصورة لافتة والحديث عن النفس في جميع المواقف، بل إفساح المجال للآخرين لإبداء آرائهم من خلال إظهار الاهتمام بهم، واعتماد النبرة المتفاوتة ارتفاعاً وانخفاضاً، فضلاً عن لغة الجسد المترافقة مع التعبير اللفظي في سعيه للوصول الى الآخر… قال نيتشه: كثيراً ما نرفض فكرة ما لمجرّد أنّ النبرة التي قيلت بها تثير النفور”.

٢-أنواع التواصل:

أ- التواصل الكتابي

يتصف هذا النوع من أنواع الاتصال بإتاحة الفرصة للكاتب للتفكير والتبصّر في ما يكتب، ومراجعته وتصحيحه وتسديده في الوجهة التي تضمن مناسبته وصوابيته وجدواه، في ضوء ما تقتضيه مسؤولية الكلام وتبعاته من جهة، وتوفّرللمتلقّي من جهة ثانية الوقت الكافي للقراءة المتمعّنة والفهم المتمكّن للموضوع. ومن مهاراته:

 استخدام الجمل القصيرة والإيجاز المحكم والتكثيف والتماسك والدقة.

الربط بين الفقرات، وسلامة اللغة وبساطتها، ومنحاها الإبلاغي لا البلاغي، وامتلاك قاعدة غنية من المفردات والمصطلحات الإدارية.

عدم إغفال علامات الوقف والإعراب خصوصاً في حال احتمال اللبس وتعدّد القراءات.

تحاشي الاستطراد والتكرار.

القدرة على التحليل والاستنتاج.

معرفة تقنيات الصياغة العائدة للتقارير والخطابات والمراسلات والمذكرات والتعاميم ومحاضر الاجتماعات.

الكتابة المنهجية المنظّمة وانسيابية تدرّج الأفكار.

استخدام الأفعال النشطة لتعزيز الاستجابة.

ب- التواصل الشفهي:

وهو يقوم على ركنين اثنين: الإنصات والتحدث، وهو يفترض أن يكون الكلام واضحاً في الذهن وقبل أن ينزلق على اللسان. ومن مهاراته:

الاستماع الجيّد.

التعبيربلغة مبسطة وبكلام موجز مكثف وواضح مرفق بمهارة التعبيرغير اللفظي.

التعبير عن الأفكاربدقة مدعّمة بالأدلة والشواهد.

إظهارالاهتمام والتفهّم والتعاطف والاستجابة واستفزاز ما يختزن المتلقّي من فطرة طيبة.

عدم الانشغال بما ليس له علاقة بالحديث( الهاتف مثلاً)

تضمين الردود كلماتٍ وجملاً وردت على لسان الطرف الآخر.

التحلّي بالاتزان والهدوء حتى في حالة الاستفزاز.

لا يجب التغافل عن أن ثمّة مسافة دائماً بين عربات القطار حتى لا تصطدم ببعضها.

حسن التقدير للحظة المناسبة لانطلاق الحديث أو للتوقف عنه.

عدم مقاطعة المرسل، وعدم التعليق على كلامه قبل انتهاء حديثه.

العناية بالتواصل البصري، وعدم الجلوس المترهّل على مقعد أثناء الحديث، وتحاشي نبرة الصوت الضعيفة والمتلكّئة.

ج- التواصل غير اللفظي

       وهو قسمان :

     – المستقل بذاته.

     – الداعم للتواصل الشفهي في حالتي الإصغاء والتكلّم.

في دراسة جادّة للمركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية ورد أن تأثير الكلمة في الحوار لا يتعدّى 7% ونبرة الصوت 38% والحركات والإشارات 55%،  ما يعني أن الاتصال غير اللفظي يتفوّق بتأثيره على الاتصال اللفظي بنسبة 93% ، وأن المحمول الفكري والشعوري والدلالي للغة الجسد يصل إلى المتلقّي بشكل أسرع وأنفذ وأوثق ، وعلى أساس مقولة ” البيان بلا لسان”، و”ربّ لحظ أنمّ من لفظ”. يقول الجاحظ في هذا المجال: “اللفظ والإشارة شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه”.

يشمل التواصل غير اللفظي التواصل البصري والوقفة والحركات ونبرة الصوت والمظهر بألوانه ورموزه، ويعمل على دعم التواصل اللفظي وتعويض النقص فيه.

د- التواصل الرقمي

لقد دخلت تقنية المعلومات والاتصال في كل نواحي الحياة، على الرغم من الفجوة الرقمية بين من يمتلكون مهارة استخدامها، وبين من يستخدمونها بشكل محدود أو لا يستخدمونها على الإطلاق، وذلك لأسباب متعدّدة…، ومع ذلك يفترض أن تنحو أية قفزة إصلاحية في عملية التنمية الإدارية نحو بناء مجتمع المعرفة، وهي إحدى أهم الخطوات التأسيسية لإحلال الحكومة الالكترونية مكان الإدارة التقليدية بكل مندرجاتها. ولعلّ أهم الإنجازات المطلوبة في هذا المجال إنشاء البوابة الحكومية  الإلكترونية التي هي الشبّاك الافتراضي الموحّد للإدارة العامة الذي يسمح  بتقديم خدماتها للمواطنين إلكترونياً بصورة جزئية أو كلية ، بالتزامن مع وضع الإطار التشريعي اللازم، من خلال إقرار قانون المعاملات الإلكترونية.

يشتمل الاتصال الرقمي على عدة أنواع من الاتصال : الشفهي والكتابي وغير الملفوظ (الرموز والصور والأشكال)، وذلك عبر قنوات الاتصال البصري أو السمعي. أمّا المهارات المطلوبة في هذا السياق فهي تقوم على إتقان تقنية المعلومات، وبوجه خاص الحواسيب الآلية وبرامجه المتعلقة بتحويل المعلومات وتخزينها وحمايتها ومعالجتها ونقلها واسترجاعها…

لا شك أن مفهوم التواصل القائم على الدور التبادلي أو الإبلاغي للآراء والأفكار والمعلومات في العمل الإداري هو الوسيلة الناجعة والوحيدة التي تفضي الى التأثير في العاملين وتعديل اتجاهاتهم وتحفيز هممهم وتنظم سير الأمور باتجاه الإنتاجية والجودة، بل يمكن القول إن الفشل الإداري يعزوه المختصون في العلم الإداري الى إخفاق عملية التواصل في تحقيق أهدافها، لأنها تمّت على أسس غير سليمة، فلم تلتفت بالقدر الكافي إلى تدريب الموظفين، رؤساء ومرؤوسين، على اكتساب المهارات والكفايات التواصلية اللازمة في فضاء التواصل الإنساني العام، وعلى أرض الواقع الإداري!

 إنّ الإدارة الفعّالة والمنتجة المنطلقة من قاعدة قانونية وتنظيمية متطوّرة وسليمة، والمتحلّلة من مثالب الفساد والبيروقراطية والترهّل، والمزوّدة بأفضل الموارد البشرية والمادية، تشكّل مجالاً حيويّاً لتسريع عملية النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وخلق فرص للاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية، وتوفيرالحيويّة اللازمة لقوى المجتمع الحيّة للانخراط في البناء الوطني بثقة وإيمان والتزام، وتأكيد ارتباط التنمية الإدارية بالتنمية الشاملة، بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والإدارية المتداخلة والمتفاعلة جدليّاً وطردياً.

***

(*)محاضرة ألقيت بدعوة من المفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي بتاريخ ٢٧-٥-٢٠٢١، في إطار تدريب المفتشين التربويين الجدد.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *