في رحاب البوذا السعيد

Views: 850

المحامي رجا ابو علوان

 

 في حمأة صراع النظم والمذاهب، وانحدار العالم والشرق خاصة الى دوامة النزاعات العقائدية وارتفاع حدة الخطاب التكفيري وانطلاق الفكر الظلامي وتفشي الجهل والخرافه على حساب الاتجاهات الديمقراطية والعلمانية والتلاقي الانساني والانفتاح الحضاري، وبما يناقض حركة التطور التاريخي ويعاكس مجرى التقدم التكنلوجي والعلمي الهائل، وفيما تغلق مصاريع الشرق في ظلامية الوهم والخرافة وتقديم القرابين لله، تحت الف مسمىً واجتهاد، في وسط ذلك الضجيج والخواء الفكري والروحي، حيث ترانا عالقين في شباك بعض عوائق الفكر التاريخية وغيومها وظلاميتها ما يناقض مسيرة الحياة والتطور ومنهجة الاخوة والبشرية في قاسمها الكوني الشامل، قُدر لي ان اعود الى مطلع القرن الخامس قبل الميلاد، اي ما يزيد عن الفين وستمئة عام الى عالم بوذا السعيد، لاشعر الحزن والرهبة مقارنةً مع الحاضر: اين حضارتنا المتهالكة؟ هل التطور يسير ايجاباً؟ هل اصبحنا ارقى في الفكر والسمو؟ لنرَ…

أن تعيش في رحاب تلك الشخصية النورانية الرائعة، التي نادت بالحب والسلام، بالعدل والمساواة، وطبقته دون تمييز بين إنسان وآخر بين رجل وامرأة بين طبقة واخرى، هو من نعم الحياة على الانسان.

عالم الحب والسلام

 بوذا هو ابن ملك من ملوك الهند وولي عهدهِ، دعته الحياة الى حقيقتها، الى الوجود الخالد، الذي يتخطى المكان والزمان ومغريات الدنيا واوهامها، تحرر من قيود الرغبات، فترك مملكته واوهام امجادها وزوجته وابنه – الذي اصبح في ما بعد من اهم تلاميذه – وكل المقتنيات التي تشده وتأسره، ليصبح حراً ويتغلب بل يقضي على الأنا- فيستنير وينير ويحب ويعطف، ليبني عالم الواقع المجرد عالم الحب والسلام في اروع تجلياته، فاذا بالذي لا يملك شيئاً، يمتلك الاشراق وعقول وقلوب اكبر تجمع فكري عقائدي في الكون (البوذية) .

 

في الأنا

 ادرك بوذا ان طريق الخلاص والسعادة هي في التحرر من الأنا التي هي مصدر كل شر – ورأى ان الانسان عندما يستطيع ان يتجرد من أناه يصبح سيد نفسه ممتلأ بالعطف بعيداً عن الاهواء سالكاً طريق الفضيلة والسعادة، مشعاً بالمحبة، وقد تجلت عظمة بوذا وتحرره عندما اهين وحقر رافضاً اي ردة فعل من اتباعه رغم القدرة على ذلك، متجاوزاً الانفعال لأن في ذلك احياء للانا المسببة لكل انواع النزاعات والتعصب والغيرة، ومصادر الألم والاطماع كافة.

في المساواة والتسامح

 ساوى بوذا في تعاليمه بين كل الفئات والطبقات وغمرهم بعطفه وهو قبل ضيافة احدى الغواني التي آمنت برسالته وتكرست للخير ورفض ادانتها، ولم يحجب عنها نعمة القداسة قائلاً لها عندما لمس صدقها واخلاصها: “ستتألقين على عرشك كما تتألق الملكات على عروشهن”، ما يذكرنا بقصة السيد المسيح والمجدلية. كذلك فهو قبل دعوة احد ابناء الفئات المهمشة الى حفل زفافه، حيث اجتمعت اعداد غفيرة من الناس لتمتلئ الصواني والطاولات بشتى انواع الطعام الذي لم ينقص منه شيئاً، ما يذكرنا ايضاً بالسيد المسيح من عرس قانا- الجليل – وفي احتضانه للمهمشين والمنسيين، وبذلك رفع وساوى بين الناس وخاصة في رحاب الفضيلة والخير الحق .

 

في الشعائر الاحتفالية

رأى بوذا ان الابتهالات والتسابيح والتوسلات والذبائح والاحتفالات الدينية لا تجدي نفعاً وانما الصالح هو الاستقامة والتخلص من الانانية والمحبة لكل المخلوقات لان في ذلك وحده سعادة الحياة والوصول الى الحقيقة والنيرفانا. (* النيرفانا: التخلص من تكرار الولادات عندما يصل الانسان الى الصفاء – والالتحاق بالذات الاسمى. عالم الخلود والسعادة).

في الوصايا

 وضع بوذا وصايا عشراً ودعا الى نبذها وسمّاها الخطايا، وهي: القتل –السرقة- الزنى- الكذب- الافتراء – الشتم – الكلام الباطل – الطمع – والكراهية – الظلال، مفصلاً اياها ومبيناً نتيجتها. ودعا بوذا الى الطريق الوسطى التي تؤدي الى الاستنارة والسلام الفكري والروحي والحكمة السامية، وقال ان التطرف في العبادة هو ضلال كالانغماس في الملذات. في التأمل

 في رحابة عالمه واعتباره ان الحب والعطف والشفقة هي طريق السلام علم المغبوط – بوذا التأملات الخمسة وهي: التأمل بالمحبة لجميع الكائنات -التأمل بالعطف على كل متألم -التأمل بالفرح والسعادة للآخرين- التأمل بالنجاسة وهي امعان النظر في نتائج الفساد الخطيرة – التأمل بطمأنية الفكر وصفائه وهدوئه والتي نرتفع بها فوق كل العواطف بصورة مجردة صافية وخالية من الانانية.

 

 في حقائق الوجود

(مصادر الألم – طريق السعادة)

 رأى بوذا ان سبب الالم هو ميل الانسان الى الشر والانانية والملذات الحسية، ورأى ان التخلص من ذلك هو في التخلص من الأنا وبذلك تتجاوز اغراءات العالم . وعلم بوذا ان طريق النور هي معرفة الحقيقة ذات الشعب الثمانية وهي- المفاهيم الصالحة –القرارات الصالحة – الكلمات الصالحة – الاعمال الصالحة – طريقة العيش الصالحة – الكفاح الصالح – الافكار الصالحة – التأملات الصالحة . ورأى ان نتيجة الاعمال ستنعكس حتماً ايجاباً ام سلباً على الحياة الحاضرة وكذلك في الحيوات الاخرى (الكارما)، وان الفضيلة الخالصة هي الطريق للتخلص من تكرار الولادات والالتحاق بالذات الاسمى الى عالم السعادة المطلقة .

  في المرأة والزواج والعلم والمعرفة

ساوى بوذا بين الرجل والمرأة ومنع تعدد الزوجات وامر بالعلم والمعرفة لكلا الجنسين على قدم المساواة . وقال ان على الانسان ان يكون نهماً وجشعاً في طلب العلم والمعرفة الكونية والعلوم كافة لان المعرفة كفيلة بخلاص الانسان من الارتباك والتشكيك والغوغاء والخرافة ولكنه اعتبر ان العلوم الكونية بحاجة الى المثل والاخلاق والفضيلة .

 

في العدالة

 اعتبر بوذا ان العدالة هي الاساس في استمرار السلام وديمومته، فالانتصار للحق واجب والعدالة تقتضي ألا يقف الانسان على الحياد بين الحق والباطل، بل الدفاع صيانة الحق بكافة الوسائل بعيداً عن حب الانتقام. العدالة هي الاصلاح والسلام هو الجدير بالانسان . ورأى ان من الواجب ان يتقبل المذنب العقاب تطهيراً للنفس وتكفيراً عن الظلم الذي ألحقه بالاخرين.

في الحيوان

 أمر بوذا بالرفق بالحيوان ومنع قتل اي مخلوق حتى لو كان حشرة، إلا اذا كان الانسان في موقع الدفاع عن حياته.

 

في القضاء والقدر

 يؤمن بوذا بالعلة والمعلول والسبب والنتيجة وان روح الله حالة في كل اشياء الكون وان الروح عاقلة في الانسان، غريزية في الحيوان ولا واعية في النبات؟ ويعتقد بوذا ان القضاء والقدر ليسا فعلاً حتمياً، والانسان هو من يصنع قدره في اغلب الاحيان، بفعل ممارساته وسلوكه وفكره وعمله فهو مرآة الكون وانعكاسه، وبذلك جعل بوذا الانسان الواعي مسؤولاً عن حياته ومصيره. يقول بوذا: “حياتكم صنع افكاركم”، ما يتماهى مع قول السيد المسيح ..كما تفكرون تكونون! ما يذكرني بقول ابن عربي: “وتزعم انك جرمُ صغير وفيك انطوى العالم الاكبر”، والملك الفيلسوف ماركوس اوريلوس: “نحن نصنع عالمنا”.

 هو عالم بوذا عالم الحب والسعادة والجمال عالم السلام والعدل، عالم الانسان الاله، الاله الانسان في اكبر تجلياته عالم حر ديمقراطي يسوده الاخاء والتسامح. البوذية برأي هي مذهب حياة لا قيود فيها ولا حدود ولا شكليات ولا احتفاليات وشعائر، هو مذهب الفرح والابتسامات والمحبة المطلقة. البوذية تقبل كل شيئ وتحتضن كل مخلوق لا تكفر لا تُدين ولا تفرق. علني اساهمُ برفقة بوذا في بعث روح الحب في عالمنا المتهالك، وخاصة في شرقنا الظلامي الذي يعيش عكس مسيرة التاريخ، والذي يتقن فن تدمير الذات والانتحار…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *