رؤية جديدة في “ما وراء الطبيعة”

Views: 823

وفيق غريزي

الفلسفة العامة مصطلح استعمله الفيلسوف الفرنسي اوغست كونت (Auguste Comte) ، ثم شاع استعماله وغدا يعني مجموعة المسائل التي يثيرها المنطق وعلم النفس والاخلاق والجماليات، ولا تنتمي حصرًا الى أي من هذه العلوم، مثل: الله والروح والعالم والفكر والحرية. وقد اعتمد هذا المصطلح للتخلص من اشكالات كلمة ميتافيزيقا التي كانت مستعملة قبل كونت. ولفظة ميتافيزيقا أو الفلسفة العامة يونانية تعني ما وراء الطبيعة، ويميز ارسطو الفلسفة الاولى عن الفلسفة الطبيعية او الثانية، وعن الرياضيات حيث الموضوع، فموضوع الفلسفة الطبيعية هو المحسوس المتحرك وموضوع الرياضيات هو المحسوس غير المتحرك، وموضوع الفلسفة الأولى هو اللامحسوس واللامتحرك.

 

الدكتور علي بو ملحم يقدّم حول هذه القضية رؤية جديدة في كتابه “ما وراء الطبيعة”، وعبر هذا الكتاب يحاول بو ملحم القاء الضوء على قضايا الفلسفة الأولى (الميتافيزيقية) أو الالهيات كما دعاها ابن سينا والغزالي، أو ما بعد الطبيعة كما دعاها ابن رشد، أو المتافيزيقا كما دعاها رينيه ديكارت وعمانوئيل كانط وهيغل، أو الفلسفة العامة كما دعاها اوغست كونت.

نظرية الوجود

الفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هايدغر، اعار الوجود اهتماما كبيرا وكرّس له جل فلسفته، وهو يذهب الى أن معناه ظل منذ فجر الفكر الغربي الى حاضرنا مرادفا للحضور، باعتباره ما يأتي لذاته ليتجلى وينتشر باقرب من ذاته، ولكنه ليس شيئا معينا.

أوغست كونت

 

وقد تحدّث افلاطون عنه كفكرة ومثال، وارسطو كطاقة، وكانط كموقف، وهيغل كمفهوم مطلق، ونيتشه كارادة القوة، ويرى هايدغر في كتابه “ما العلة” أن الوجود بمعنى اللوغوس هو العلة او المبدأ او الأصل الذي منه تكتسب الاشياء الحاضرة حضورها، وهو الذي يدع الاشياء تتفتح اضافة الى انه يجمعها ويأويها. ويدعو هايدغر كما ينقل عنه المؤلف وجود الانسان بـ “الإنية” التي تعني الوجود – هناك، اي الوجود في العالم، ويميز في الآنية ثلاث خصائص حسب تحليل المؤلف:

الاولى، وجود الانسان لا يشبه وجود الشيء ويتغير بتغير الافراد.

الثانية، ليس الأنا جوهرا ثابتا، انه امكان وجود أو ينبوع امكانات واستعداد لتحقيقها. والثالثة، انه حر، والحرية هي تحديد تقوم به الإنية لتعيين ذاتها. وجو الإنية في العالم يتضمن ثلاث خصائص هي: الموقف والفهم والسقوط. الموقف يعني الشعور بالوجود في العالم وتجاه الغيرة شعور بالقلق والترك، والفهم يعني تحديد الموقف وشرحه وتأمله وتحققه. والسقوط يعني الوجود الزائف، واهم ملامحه الاغراء والطمأنينة الظاهرة مغايرة الذات … وازاء هذه المقولة يؤكد المؤلف أنه “اذا كان الوجود اسما مشتركا بين الاشياء مست الحاجة الى معرفة ما يعنيه هايدغر بها، انها تعني ما يحيطنا من اجسام، وكل منها محاطة بكثير من الخصائص المتغيرة، او هو سند تستند اليه هذه الخصائص، او هو محمول على موضوع “، والاشياء توثر على بعضها البعض وتشكّل حواضر لبعضها البعض، وعن هذه العلاقات تنشأ خصائص لاحقة، ويشكّل المكان والزمان حيزين للاشياء او اطارين يمكناننا من تحديد الاشياء وتمييزها.

ابن سينا

 

 ويقول المؤلف علي ابو ملحم: “يعني الوجود كون الشيء في نفسه بمعزل عنا، واستقلال عن معرفتنا اياه، وهذا الوجود هو الوجود الخارجي أو الواقعي او العيني”. ويعني ايضا كون الشيء مدركا او متصورًا في ذهننا، وهذا هو الوجود العقلي أو المنطقي او الماهوي، وهذا ما اشار اليه ابن رشد في كتابه “ما بعد الطبيعة”.

الكون والفساد

“الكون لغة الوجود، والحدوث، والدوام، والتحقق”. والكون هو اخراج الشيء من العدم الى الوجود، وهو يرادف الخلق والتخليق والاختراع الخ.. ويقابله الفساد. ويشير المؤًلف الى أن من اقدم الذين بحثوا هذا الموضوع هو ارسطو في كتابه “الكون والفساد” وهو يربط الكون والفساد بثلاثة مفاهيم هي: الصورة والمادة والتغير، والقوة والعقل، ويرى ارسطو ان الكون هو حصول الصورة في المادة بعد ان لم تكن حاصلة فيها. بينما الفساد هو زوال الصورة عن المادة بعد ان كانت حاصلة فيها. ومن جهة اخرى يؤكد أن الكون والفساد ضربان من التغير، فالكون هو تغير من لا شيء الى شيء، والفساد تغير من شيء الى لا شيء، والحركة هي تغير من شيء الى شيء، ويعتقد الموًلف  أن اخوان الصفا اعتمدوا هذا المفهوم الارسطي للكون والفساد، فقالوا إنّ: “الكون هو قبول الهيولى الصورة، وخروجها من حيز العدم ، والفساد هو خلع الصورة عن الهيولى”.

ابن رشد

 

 وهنا يواجهنا سؤال: هل الوجود ثابت أم متغير؟

هناك ثلاث اجابات: الوجود ثابت، الوجود متغير، الوجود ثابت ومتغير.

ويكشف المؤلف النقاب عن أن اقدم القائلين بالثبات الفيلسوف اليوناني بارمنيدس الذي يقول: إن “العالم الذي يمثل لنا بالحواس زائف ووهمي، انه عالم الصيرورة والتغيير والنقص والفساد، كل الاشياء تظهر وتختفي، فما يكون في لحظة لا يكون في اللحظة التالية”. وقولنا أنه موجود يماثل قولنا انه غير موجود، فحقيقة الاشياء ليست هنا، لان المعرفة لا يمكن ان تتولد مما يتغير دائما.

الغزالي

 

 ولكن كيف اثبت بارمنيدس عالم الوجودك؟

يجيب المؤلف باعتقاده بأنه اثبته بالعقل وحده وليس بالحواس، لأن عالم الوجودات لا يدرك بالحواس، فهو اذن مفهوم عقلي، اما الحواس فمصدر الوهم والخطأ، ولا تصلح لاكتساب الحقيقة، والحقيقة لا تكمن إلا في العقل، وبذلك يكون بارمنيدس رائد المثالية في الفلسفة، تلك المثالية اخذها عنه افلاطون، الذي كان معجبا به. وعلى نقيض بارمنيدس، ذهب معاصره هيراقليطس الى التأكيد على أن الوجود متغير باستمرار ولا يعرف الثبات والاستقرار، وقال هيراقليطس: “ان الصيرورة وحدها موجودة. والثبات والذاتية ليست سوى اوهام “. فلا شيء في نظره يبقى ويثبت ويظل كما هو، الكل في حالة تغير دائم، ثم يستحيل الى اشكال جديدة، نحن ننزل في النهر الواحد، ولا ننزل فيه، فما من انسان ينزل في النهر الواحد مرتين فهو دائم الجريان.

نظرية المعرفة:

في المعرفة مذهبان هما: المذهب الحسي، والمذهب العقلي، وأقدم القائلين بالمذهب الحسي هم الذريون وعلى رأسهم ديمقريطس، الذي اعتبر الفكر الحركة الباطنة التي تحدثها الاحساسات في الدماغ، والاحساس ينتج عن ذرات لطيفة تنبعث من الاجسام وتدخل في مسام الحواس فتدرك. ويشير المؤلف الى أن الرواقيين يرون أن المعرفة تعود الى الحس، ومن الفلاسفة الغربيين نجد الفيلسوف هوبز لا يبتعد عن ديمقريطس كثيرا، عندما يعرف الاحساس بأنه حركة ذرات الجسم الحاس الناتجة عن حركة ذرات الجسم المحسوس. وتنتقل الحركة الخارجية الى الدماغ فالقلب بواسطة اعضاء الحواس والاعصاب، وحركات الدماغ مترابطة بحيث إذا تكررت احداها لحقتها الاخرى، ويتحكم بحركة الدماغ أو تتابع الافكار قانونين هما اقتران المحسوسات في الزمان والمكان وقانون الاهتمام.

ديكارت

 

اما المذهب العقلي، فقد كان افلاطون اقدم المفكرين للمذهب العقلي، وهو يناقش مقولة برتوغوراس السفسطائي القائلة إن الانسان مقياس الاشياء، وانها توجد على النحو الذي تبدو عليه لكل منا، ويقرر انها مقولة خاطئة. ويرى الموًلف انه اذا كان الاحساس يمثل الحقيقة فمعنى ذلك انه ما دمنا نحس ونرى ونسمع ونشم، نعرف، فاذا غاب عنا الشيء الذي نلمسه او نراه او نسمعه او نشمه زالت المعرفة، والواقع هو العكس، فنحن نعرف الشيء في حضوره وفي غيابه، وحسب مقولة افلاطون، هناك امور لا نعرفها بالحواس ولا تدخل في نطاق الحس، ليست الوانا واصواتا واشكالا وروائح، مثل الجمال والقبح والخير والشر، والعدل والظلم الخ.. فبما نعرفها؟ ومن الاجدى القول إن مبدأ المعرفة ليس الحواس وإنما هو النفس، وليس الحواس سوى وسيلة الاحساس. ونحن نرى ونسمع ونشم لا بهذه العين وتلك الاذن وذاك الانف، بل بالنفس ذاتها.

إن المعرفة عند افلاطون هي عملية تذكّر، تذكّر النفس للحقائق الأزلية التي رأتها في السماء أو في عالم المثل قبل أن تهبط الى الارض وتحل في الجسد. وارسطو اقتفى خطى سلفه واستاذه افلاطون في التمييز بين الحس والفكر. وقال: “إن العقل والحس ليسا شيئا واحدا، ولو كانا شيئا واحدا لكان الحيوان يعقل لأنه يحس، والحس يدرك المحسوسات من حيث هي كذلك، اما العقل فيدرك ماهيتها المجردة”. ولقد اعتبر ارسطو أن “العقل احدى قوى النفس الخمس، أي النمو والاحساس والمخيلة والارادة والعقل”. وقسم العقل الى نظري وعملي. ان العقل يدرك الماهيات بذاتها، كما يدرك الجزيئات المتحققة فيها الماهيات بانعكاسه على الحس. فاذا ادرك الماهيات بذاتها سمي عقلا عمليا. ويؤكد المؤلف ان الفلاسفة العرب اقتفوا خطى ارسطو، فميز الكندي والفارابي وابن سينا بين العقل العملي والعقل النظري، وبين العقل بالقوة والعقل بالفعل والعقل الفعال. لكن الفارابي وابن سينا جعلا العقل الفعال احد العقول الثواني المفارقة.. واقتربا من افلاطون في اعتبار العقل البشري جوهرا روحيا خالدا.

هيغل

 

والفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط ميّز بين العقل العملي والعقل النظري، واضاف ملكة ثالثة للمعرفة هي الفهم، العقل النظري اساس العلوم، والعقل العملي اساس الاخلاق. اما هيغل فقد اعتبر من جهته ان العقل اساس الوجود، وميز بين العقل الكلي المطلق وبين العقل الجزءي الذي يوجد في الانسان، وهو بعض من العقل الكلي أو احد مظاهره.

الحقيقة

لا يمكننا فهم الحقيقة إلا اذا عرفنا معنى الحق، ونلغي المعجم الذي يطلق اسم الحق على ثلاثة معان: على الشيء، وعلى القول، وعلى الفرض، فالشيء الحق هو الشيء الثابت الذي لا يسوغ انكاره، والقول الحق هو الحكم الصحيح والصادق والمطابق للواقع، وهو نقيض الباطل، والفرض هو الخط او النصيب الذي سمح به الشرع او القانون، ام الحقيقة وفق رأي الجرجاني فاسم ما اريد به ما وضع له فعلية، من حق الشيء اذا ثبت بمعنى فاعلة اي حقيق والتاء فيه للثقل في الوصفية الى الاسمية كما في العلامة. وبصدد هذه المسألة انقسم فلاسفة اليونان الى ثلاث فرق هي:

هايدغر

 

فرقة انكرت الحقيقة وقالت انها مجرد وهم، واذا كانت موجودة فان العقل عاجز عن ادراكها، وتمثلت هذه الفرقة ببيرون وسائر مدرسة الشك. وفرقة ثانية ذهبت الى أنها نسبية تختلف بين انسان واخر وبلاد واخرى، وزمن وآخر، وتمثلت بالسفسطائيين. اما الفرقة الثالثة فأقرت بوجود الحقيقة، ولكنها اختلفت حول مكانها. فقال بعضها ان الحقائق لا توجد في عالم الحس بل في عالم المثل، وروادها سقراط وافلاطون. وبعضها الآخر قال إنها موجودة في عالم الحس وتشكل ماهيات الاشياء ويجردها العقل منها، يرأس هذا البعض ارسطو وسائر المشائين، واعرب ابن سينا عن اعتقاده بان حقيقة الشيء ماهيته، بحيث أن لكل شيء ماهية هو بها ما هو، وهي حقيقته، بل هي ذاته، ولكل امر حقيقة هو بها ما هو.

كانط

 

وقد وصف ديكارت رحلته الشكيّة في سبيل الحقيقة على النحو التالي: كنت اذ ذاك راغبا في التفرغ للبحث عن الحقيقة، رأيت انه يجب علي ان افعل ضد ذلك تماما وأن اعتبر كل ما استطيع ان اتوهم فيه اقل شك باطلا على الاطلاق. وذلك لأرى ان كان لا يبقى لدي بعد ذلك شيء خالص من الشك تماما. وهكذا فاني لما رأيت أن حواسنا تخدعنا احيانا فرضت ان لا شيء هو في الواقع على الشكل الذي تصوره لنا الحواس”. وقد تأثر سبينوزا بديكارت فقال مثله إن الفكرة الحقيقية هي الفكرة المطابقة لموضوعها والمحيطة به والمتسمة بالوضوح والتمييز. اما كانط فقد ميز بين الاشياء في ذاتها وبين ظواهرها، وأكد أننا لا نعرف الاشياء بذاتها وانما نعرف فقط ظواهرها، اما الفلسفة البراغماتية فانها تعتبر الفكرة صحيحة او حقيقية اذا كانت ناجحة او نافعة.

أفلاطون

 

وبكلمة مختصرة، ان الدكتور علي ابو ملحم حاول عبر كتابه استشراف رؤية جديدة الى مسائل العلم، الذي يعتبر اكثر علوم الفلسفة اثارة للجدل والخلاف، واخطرها شأنا في حياة البشرية، منذ بدأ الانسان يفكر مدهوشا باسرار هذا الكون اللامحدود في المكان والزمان.

أرسطو
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *