بيروت… مدينة من الذّاكرة!

Views: 626

أنطوان يزبك

 

“يقول محمود درويش: بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان”

 

في تسعينيات القرن الماضي، بدأت الجرافات تجهز كوحوش معدنيّة على ما تبقى من مدينة بيروت التاريخية تمهيدًا للإعمار وإعلان بزوغ عصر جديد…

في تلك الفترة قرأنا مقالات جديّة،  في ملحق النهار تحديدًا، تدافع عن المدينة وعن علاقة المثقفين بها، بيروت مولّدة الفكر والرقي والحضارة، عاصمة الرأي الحرّ في العالم العربي، أم الشرائع وحاضنة الأفكار السياسية والإيديولوجيات، مدينة فريدة لا تجاريها مدن أخرى في القيمة والأهميّة.

 

في هذه المقالات انبرى الكتّاب في تلك الحقبة، يرصدون نظريات أهمّ المهندسين المعماريين والكتّاب العالميين الذين درسوا المدن وتأثيراتها الحضارية، خاصة “إيتالو كالفينو” الذي وصف علاقة الأمزجة البشريّة بهندسة المدينة وطبيعة ساكنيها وعمرها وتاريخها وحجرها وحتى رائحتها!

في الكتابة عن المدينة، وخصوصًا بيروت، ينبثق الأسلوب المديني وتتجذّر مكوّنات أسلوبيّة تعكس الكثير من المخزون الأدبي والثقافي، كما نجد كتّابًا متخصصين بجزء معيّن من المدينة من مثل أمين الباشا، سليمان بختي، زياد كاج وغيرهم، تفوح من كتاباتهم رائحة رأس بيروت وذكريات معينة وأسماء أشخاص عاشوا في الأمكنة وصاروا من أصل المكان، فإذا ذهبوا ذهبت المدينة معهم، وأفلت الأمكنة ودخلت في منطقة الشفق القطبي الباردة بانتظار أن تلفهم عتمة الزوال وغيبة الشعور والشلل الوجودي الذي يهدّد كل شيء من بشر وحجر!..

أدونيس

 

هكذا تبدأ معظم الرحلات في التفتيش عن المدن، تبدأ بنبض ينطلق كصفارة إعلانًا عن بدء السباق أو كإشارة مضيئة في سماء المعركة لهجوم الجنود، يقول أدونيس في “كتاب الحصار”:

“المدائن تنحلّ، والأرض قاطرةٌ من هباء، وحده الشعر، يعرف أن يتزوّج هذا الفضاء..

ساحة البرج (نقشٌ يوشوش أسراره لقناطر مكسورة…)

ساحة البرج ( ذكرى تفتش عن حالها في غبار ونار…)”

وحدها الكلمة لدى أدونيس تعرف كيف تبحث عن الذكريات، وكيف يتمّ البوح بين ما خرب وما يظلّ رسمًا دارسًا، في خزين الذكريات وعوالم بائدة تتخلى عن قشرتها في سبيل إنتاج حيوات متجددة على لحن سحري من مزمار عازف متجوّل في شوارع مدينة مسحورة، يقول محي الدين بن عربي:

“الزمان مكان سائل

والمكان زمان متجمّد”…

هل تحوّلت بيروت إلى هذه العلاقة التبادلية بين السائل والمتجمّد، بين الحركة والجماد؟ هل هكذا ينجح الشعر في وصف الموت على أساس أنه حركة داخل الكمون الذي نستشعر به؟

أم أن  أدونيس يدّخر لنفسه إكسيرًا، به يحلّ معضلة الزمن والبقاء والفناء، وانعدام الحركة والاندثار!؟..

نجيب محفوظ

 

من يستطيع أن ينزع المدينة من ذاكرته، وكيف السبيل إلى حبسها في الزمان والمكان، ها هو نجيب محفوظ الذي عاش في القاهرة وهي مدينة عملاقة بحجمها ونيلها المترامي الأطراف، لا تشبه بيروت في شيء ولكن عامل الزمن والتغيير يبدّلها كما تتبدّل كل مدن العالم، وعليه يقول نجيب محفوظ:

“إما أن الذاكرة خداعة كاذبة تختلق ما لا أصل له، وإمّا أن الدنيا تتغيّر بقوّة لا ترحم الذكريات”.

يبدو أن الزمن يشبه طاحونة لا تتوقف عن الدوران وفي طريقها تأخذ معها الزمان والمكان، يذهب الناس ومعهم ذاكرتهم ومعهم الأمكنة، وهب أن بركانًا انفجر فهو يأخذ معه كل ما يحيط به، ها هو بركان “الإتنا” في إيطاليا يقال إن عمره 1,5 مليون سنة، وقد ثار مئات المرات ودمّر المدن من حوله والبشر والحجر مزيلا كل حضارة وكل إبداع وكل ذاكرة نمت في مكان انفجاره!..

يبقى السؤال: ما هو مصير بيروت، ماذا ستكون “ذاكرتها” في المستقبل؟ من سيذكر ناسها وماذا ستكون أمزجة ناس المستقبل الذين سوف يسكنونها؟

اسئلة صعبة ومؤلمة عن افتراضات وأحلام وتصوّرات…

محمود درويش

 

يقول محمود درويش في “ذاكرة النسيان” في نص “أقيم في بيروت”:

“في المدن الأخرى تستند الذاكرة إلى ورقة. تجلس في ساعة انتظار. في فراغ أبيض، فتهبط  عليك فكرة زائرة. تصطادها لئلا تهرب منك… أما في بيروت فإنك تسيل وتتبعثر”.

هذه المدينة، ترقص مع الخطر منذ أن تأسست، واليوم أيضًا، هي مدينة الصمت في عثارها، تحتاج إلى آلاف من الأصوات لكي تستعيد ألقها، لا بل مئات الآلاف حتى يُسمع صوتها، إنها باقة ورد في غيبوبة؛ أم أنها ضمّة زهور بريّة يابسة مرميّة على رخام ضريح بارد أكثر من الموت، أكثر من الحب! مثل وقع أقدام حبيبين افترقا منذ لحظة وهما يسيران باتجاهين معاكسين دون النظر إلى الوراء…

ساحة البرج في سبعينيات القرن الماضي

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *