سجلوا عندكم

البناية

Views: 1261

زياد كاج

 

صغيراً وعيت بيتنا المعتم في محلة كركون الدروز؛ كان  عبارة عن غرفة صغيرة تحت الأرض والشبابيك صغيرة مشبكة بالحديد وتكاد تلاصق السقف.

كنت برفقة أخي وأختي ولم تدس قدماي عالم الخارج. ثم خرجت من بيت الأهل في بناية في أحد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا؛ وكانت البناية تضم “مطعم الأسطنبولي” الشهير.

في تلك البناية الصفراء من أربعة طوابق وأكثر، اكتشفت المحيط: مطعم الفراريج المشوية على الغاز ، محل اللوحات الفنية لرسامين لبنانيين (مشهد متناقض) مقابل البناية، ثم محل شهاب لصب المفاتيح ودكان يبيع المشروبات الروحية، ومحل شهاب للسمانة وقوارير الغاز أمام مدخله وأخوه الأخرس  القصير القامة والطيب( جميعها لا تزال موجودة).

    تحسن وضعنا حين عُين أبي ناطوراً لبناية ضخمة في شارع مدام كوري (شارع الصنوبرة) القريب من فندق البريستول. حصل ذلك قبل 3 سنوات منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. سكنّا في شقة صغيرة في الطابق الأول في البناية المكونة من 7 طوابق؛ ضم كل منها 5 شقق بأحجام ومساحات مختلفة. موقعها كان استراتيجياً على زواية الشارع المؤدي نزولاً الى ساقية الجنزير، وصعوداً الى فردان ، أو نزولاً الى الجهة الشرقية حيث شارع اللّبان والحمرا.

مدخل البناية كان ملفتاً بحجمه ومساحته وأعمدته الضخمة الدائرية. كانت أمي وأبي يمضيان ساعات في شطف البناية والمدخل مرة كل أسبوع؛ وكان من واجابتنا كأولاد الناطور أن نساعد السكان  الأغنياء والميسورين لقاء بخشيش يدخل البهحة الى قلوبنا. كان لأبي – الناطور المثقف في رأس بيروت ( يقرأ جريدة ” النهار” كل صباح ويحفظ بعض الجمل باللغة الإنكليزية)— شلة أصدقاء من الحي من عائلات رأس بيروت منهم العياتنة.

حرص أبي على تزيين مدخل البناية كل سنة بشجرة ضخمة في عيدي الميلاد ورأس السنة. فعدد كبير من السكان، وكذلك الشارع، كانوا من اخواننا المسيحيين. والناس كانت في سكينة وتعايش والهويات الدينية كانت موضوعة على الرفوف وفي الجرار في البيوت وثنايا القلوب. نادراً ما نطقت بها الألسن  جهاراً.

   البنايات في مدينة كبيروت تشبه الأشجار المعمّرة وسكانها كالثمار.. تتبدل وتتغير أحوالها مع تغير الفصول والأزمنة.

“أم رياض”

 

قبل الحرب، كان سكان “بنايتنا” ( مع التحفظ الشديد على المعنى المتضمن لمفهوم  الملكية هنا) من الطبقة المخملية والارسقراطية النخبوية: عائلة البورسلي ذات الأصول المصرية المعتلية عرش “الروف”، الاستاذ غازي بو زين صاحب معمل البلاط والجدّي فوق اللزوم، عائلة زارتاريان المكونة من الخواجة ماركار والخواجة أوهانس والست شاكيه (رحمهم الله) الذين أصبحوا لاحقاً من أعز الجيران لنا. ومدام شقّال، والخواجة جان مايك ، ومدام سعادة (تحولت حياتها جحيم بعد انتحار ابنتها)، ومدام طعمة الآتية من مجد العراق وتاجه، وسيدة راقية تبنت طفلة وهربت من البناية وزوجها بعد انتشار الخبر، وسيدة تدير مجلات “لولو” وسوبر مان” ولم تبخل علينا بأعداد أسبوعية ، ونعيم حداد اللطيف والعشراوي وعائلته، وجارنا أبو سامي الخياط الجنوبي، وسليم محيو صاحب معمل للنجارة .

وكانت لنا جيرة طيبة في الحي مع عائلة صديقتي أم ايلي الأشورية وبناتها وأقاربهم الذين سكنوا في بيت صغير يطل على الشارع مباشرة حيث دكان أبو محجوب (لأنه لم ينجب صبياً).

بوسطة عين الرمانة والحرب الأهلية واحتراق الفنادق غيرت الأجواء في الحي في رأس بيروت. شعرت بترددات تلك الفترة وقرأت مفاعيلها على وجوه السكان. قلّت مهام أبي وأمي وطلبات السكان، وصار الهم أمنياً والتصقت الناس أكثر بأجهزة الراديو وقرأت المزيد من عناوين الصحف الملطخة بالدماء والعابقة بروائح البارود.

 بدأت أركز أكثر على صور المسلحين في “جريدة النهار” الملقاة على طاولة أبي في زواية الصالون الى جانب جرائد سباق الخيل. جارنا أبو سامي ترك شقته ليحل محله مزين نسائي أرمني الذي لقبه كوكو . جاء من نادي “الشيريلين” القريب وافتتح صالونه قرب شقتنا. أصبح مع الأيام من أقرب الجيران ومن أعز الأصدقاء (رحمه الله). نعيم حداد صار أكثر حذراً من شباب الشارع، آل البورسلي خفّت عجرفتهم، وجيراننا الأرمن وغيرهم صارت زياراتهم لنا متواترة.

 أمي، كونها مسيحية مشرقية ، لعبت عن غير قصد دوراً ايجابياً . فنحن كنا “أولاد أم رياض” و “أبو رياض” صاحب الكيف والهمشري والكاره للحرب وافرازاتها.

بيعت البناية، فصرنا “أولاد الناطور السابق” ( عنوان روايتي الأولى الصادرة عن دار نلسن ، 2008) وهي مرتبة أعلى عكس معظم القاب “السابق”! المالك الجديد، أكرم الدباغ، الذي اشتراها بمليون ليرة لبنانية فقط لا غير، جلب معه عدته الخاصة: ناطور جديد من بلدة طير حرفا الجنوبية المحتلة “الله يلعنك يا اسرائيل، ويلعن ساعتك”.

هاجر أبي الى الحمرا مهنياً وبقينا نسكن البناية مع سكان جدد. أبو علي ( رحمه الله) وعائلته المكونة من 6 افراد سكنوا في الطابق الثالث. صرنا على علاقة طيبة معهم؛ وكان أبي يلعب طاولة الزهر مع تلميذه في دارنا ويعلو صراخمها أحيانا . لا أنسى ضحكة أبو علي الرنانة حين يخرج رابحاً من عندنا.

الحرب جلبت سكانًا جددًا ورحّلت جيران: افتُتح مكتب محاماة لوكيل البناية الجديد  الكاتب المسرحي والمحامي المرحوم اسامة العارف، وكيل البناية. شقيق الشهيد جورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي، افتتح مكتبًا للهندسة المعمارية قرب شقة آل البورسلي. الاستاذ الجامعي والروائي رشيد الضعيف، عائلة جحا الشيوعية من زحلة، عائلة الدكتور شوقي الدويهي الزغرتاوية المثقفة، المصرفي سركيس أبو ديب، الرسام هاني صالح الطيب والمحترم والذي قتل لأسباب طائفية وهو يعبر معابر الكراهية بين الغربية الشرقية، وصاحب مكتب “تي . في. تاكسي” ( صارت بنايتنا تعرف بأسمه)، المعلم عدنان الحاج بلكنته السورية وشوفريته الطيبين.

وحلت وسطنا عائلة فلسطينية من منطقة صبرا ؛ كان الأب يعمل موظفاً في السفارة الهندية. في زياراتي القليلة لشقتهم، قرأت هول وصدمة سقوط مخيم تل الزعتر الفلسطيني الذي شهد معارك ومجازر واهوالاً فظيعة.

الحرب غيرت طبيعة عمل الناطور وعلاقة السكان به. فأبو علي أصبح “سيد الموقف” والكل بدهم رضاه، خاصة في ظل انقطاع الكهرباء والمياه وتراجع الخدمات وتفلت الوضع الأمني. وأبو علي كان شيوعياً ويمتلك كلاشنكوف “خلي رصاصك بالعالي”. في حين أن أبي عندما وجد لصًا على السطح  ركض خلفه على الدرج حاملاً “شلف” حديد أطول منه. كان أبي يصرخ كي يوقظ السكان ويخيف اللص؟

 لكل زمان نواطيره.

المالك الجديد حوّل مدخل البناية الى ما يشبه “الكوريدور” كي يكسب مساحة ويفتتح محلات جديدة. ولا دولة ولا من يراقب. عرفنا جيرانًا جددًا من أصحاب المحلات: سعدية الصيدلانية، احفاد أبو محجوب ودكان السمانة بإدارة عارف وأمه، ومحل الفليبرز لصاحبه وهيب الموظف في بلدية بيروت. كنا نشتري قناني البيبسي من دكان عارف، ونجلس على حافة الرصيف، وأصوات الماكينات والشباب تضج خلفنا.

 عام 1982 والاجتياح الاسرائيلي تسبب بتحولات كبيرة وكوارث في  البلد وبيروت والحي والبناية. فرغت الشقق تدريجياً من السكان. صمدنا حتى الرمق الأخير مع أبو علي وكوكو وسط حصار لا يرحم وتحت قصف مركز من الجو والبر والبحر . وبلا كهرباء وماء وندرة في الخبز والمواد العذائية. ارتفع  عدد المهجرين في الحي والبناية.

يوم قررنا ترك بيروت، خرج معنا جارنا كوكو الذي ودعنا باكياً على معبر “غاليري سمعان”. صادر حاجز الجيش “كروزات الدخان” التي كان أبي يبيعها أمام مدخل البناية، ويممنا صعوداً شطر ضيعة أمي “منصورية بحمدون” حيث أمضينا شهرًا كان حاجز الميليشات يصر خلالها كلما مررنا من أمامه على أننا “مستأجرون” عند خالتي ولسنا ” ضيوفًا”!

مرحلة ما بعد الاجتياح وأواسط الثمانينات، لونت “بنايتنا” بالأحمر لكثرة العائلات اليسارية الساكنة فيها والهاربة من بطش الميليشات الطائفية. جاورتنا عائلة عبد الصمد ( رحم الله الأب والأم—هو درزي وهي مسيحية)، آل جحا أصبحوا أكثر تذمراً، أبو علي بدأ يبتعد عن اليسار وعينه على أرضه وأهله في الجنوب المحتل، وأنا بدوري كشاب جامعي صرت شيوعياً وعملت في اذاعة ” صوت الشعب” دون أن أقرأ حرفاً واحداً لماركس ولينين. ولعيونك يا تشي غيفارا ومارسيل خليفة وزياد الرحباني.

“بنايتنا” تقف شامخة اليوم صادمة أمام المتغيرات التي طالت رأس بيروت . رحل ناس كثر وبقيت القلة. “البقية…البقية” كانت قبائل العرب في الجاهلية تصرخ بعد المعارك الطاحنة حقناً  للدماء. البناية صار أسمها “بناية شاهين” ثم “بناية الزيتونة” بعدما اشتراها  طبيبان من آل شاهين. رحل كثر: كوكو الذي عاش غربة قاتلة في برج حمود قبل رحيله بعد معاناة مع مرض ألزمه الفراش طويلاً، مات المحترم أسامة العارف، وترك الضعيف وآل الدويهي وآل جحا؛ خسرت عائلة أبو ديب ابنتها الوحيدة في جحيم العراق وهي عروس جديدة. فتركوا البناية بالأسود…حل مكان هؤلاء سكان جدد لا لون لهم ولا رائحة.  بلا وجوه ولا ماضي، يدفعون إيجارات خيالية ويرهقون الناطور الحلبي الساكن مع عائلته الكثيرة الأولاد في غرفة المصعد على السطح.

   وحدها “أم رياض”، أمي – الشاهدة الوحيدة  على الزمن الجميل- بقيت صامدة في شقتها مع شقيقتي في الطابق الأول ومعهم مكتب محاماة بإدارة ابن اسامة العارف. تقول شقيقتي إن الأخير صمد بحجة القانون، في حين بقيت اًمي بقوة الايمان. كلما زرت البناية، أتأمل بلاط المدخل الرخامي وأصعد الدرج المريح، فأبطئ الخطوات لأستعيد ذاك الزمن الجميل وناسه. يكبر المدخل، شجرة الميلاد تغمزني بأضوائها، أبي يجلس في زاويته والسيجارة لا تفارق يده ، يتجادل مع الخواجة أوهانس حول حلم عن حصان فاز في سباق، أبو علي يخرج من باب بيتنا ضاحكاً وأم علي تحمل خبز المرقوق الطازج من صاجها الجنوبي الكريم.

” أهلاً وسهلاً”، تفتح أمي الباب مرحبةً. ” أين الأولاد؟” أعود الى حجمي الطبيعي. أتذكر كلمات قصيدة الأبنودي “العمة يامنة”: “…اللي تخطفوا، فضلوا احباب..صاحيين في القلب، كأن ما حدش غاب…”

   ليس المكان للإنسان؛ بل الإنسان للمكان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *