سجلوا عندكم

عبد القادر أبو لبدة (1926- 1980)

Views: 1111

د. جان توما

كان يغرق في لهب سيجارته التي لم تفارق أصابعه، إذ كان يحترق مع بقاياها في سعيه اليوميّ المبارك لخدمة فقراء الميناء وصياديها.

كان يتجوّل مساء في حديقة منزله، على شارع بور سعيد، يوم كانت بساتين زهر الليمون فوّاحة بالبركات والخير.

في هذه البساتين كانت طفولته، وكانت دراسته في مدرسة الفرير، لينتقل منها  إلى جامعات “لوزان” في سويسرا ليعود إلى ملاعب صباه البحريّة طبيبًا متخصصًا بالأمراض الداخليّة. استقرّ في بلدة الميناء عاشقًا لها، ومحبًّا لعائلة أسسها مع زوجته ندى كحيل، وله ثلاثة اولاد: ديانا، سمر وهاشم.

كنتَ عندما تدخل عيادته يستقبلك مركب خشبيّ ضخم ليذكّرك أنّك في الميناء، ميناء العمال والفقراء والصيادين والفعلة والمياومين، وكان عبد القادر يحبّ فيهم سعيهم وتعبهم، فلا  عجب في أنّه كرّس كلّ يوم جمعة للمعاينات المجانيّة، والطريف أنّ كلّ أيام الاسبوع عنده كانت يوم جمعة مرضاة لله ، وتحسسًا بأوجاع الناس ، وتخفيفًا من آلامهم، وكم كان يطلب من ممرضته جميلة كوزما، ابنة الميناء، تأمين الدواء المجانيّ لهم. 

أدرك عبد القادر ما يعجز عن فهمه كثيرون، أنّ رسالته رفع أوجاع الناس، لذلك كان يرفض مباشرة، دون تردد، الدعوات ليدخل المعترك السياسيّ، فخدمة مرضاه تعلو على كلّ خدمة. وهذا موقف يسجّل له مع الدكتورين يعقوب وريمون لبان في انصرافهم الإنسانيّ إلى معالجة الناس فقط. ومن الطريف ما أخبرني به صديق أنّ من  يراقب حركة المارة المرضى في الميناء يراها معكوسة، فالمرضى من المسلمين كانوا يتوجّهون إلى عيادة الدكتور لبان في الحيّ المسيحي، والمرضى من المسيحيين كانوا يأتون الحيّ الإسلامي إلى عيادة الدكتورة أبو لبدة،.

هذا الجرح الطبيّ هو الذي شفى وحمى أهلها، وضمّد اضطرابها في زمني السلام والحرب، وصان أبناءها . من هنا يذكر أهل الميناء حضور الطبيب عبد القادر أبو لبدة في حياتهم  فيترحّمون عليه لإنسانيته، ونبله، وأخلاقه، ومحبته لأهل مدينته، وانفتاحه واعتداله.

كان عبد القادر يعرف أنّ سيجارته تحرقه فيما تحترق بين اصبعيه فصرعته عن عمر لا يتجاوز ال٥٥ سنة، قضاها بين بحر الميناء وبحيرة لوزان، عارفًا أنّ مركب حياته يتأرجح بين موج وسكينة، بين نسيم ونوّ، بين تيّار و إعصار ، مدركًا أنّ ذكراه لن تبقى دُخَانا تائهًا بل منارة لكثيرين ليبرعوا، كما برع، في الخدمة العامة وتضميد الجراح وما …..أكثرها.

الشكر  للسيد هاشم لبدة وللصديق عماد الصايغ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *