“الخلود”… لغز الطبيعة البشرية
أنطوان يزبك
في العالم اليوم حوالى ألفي جثة مجلّدة في حرارة 200 تحت الصفر، تحديدًا 196 منها محفوظة في مزيج من غاز الأوزون، بانتظار أن يكتشف أحدهم إكسير الحياة ويعيد أصحابها إلى الوجود وإلى الحياة من جديد.
هؤلاء الطامعون في البقاء على وجه الأرض والعيش إلى الأبد، عمدوا إلى شركات تجلّد الجثث بعد الوفاة، كأن الخلود سيجعلهم آلهة أو شركاء الله في الخلق.
الطمع في الدنيا والتعلق بالحياة… أنانية أم جهل، أم طبيعة بشرية فاسدة!

يقول إيليا أبو ماضي:
كل ذي رغبة دنت أم تسامت
سيمضي يومًا بلا رغباته
آجلا أم عاجلا، قدر الإنسان الرحيل، أكان يحب الحياة أم يرزح تحت وطأة المعاناة والعذاب متمنيًا، كل لحظة، أن يبارحها.
الطمع بالخلود هو، في الحقيقة، غريب عن الطبيعة البشرية، فالموت هو حق وحياة بحدّ ذاته للمؤمن الذي يبتغي لقاء وجه ربّه.

يقول سقراط: “يمكن أن يكون الموت أعظم النعم الإنسانيّة!” أجل الموت هو النعمة التي منحها الله للإنسان ليتحرّر من ربقة الحياة العبثيّة على الأرض الغارقة في متناقضات معقّدة لا يمكن فهمها أو حلّ ألغازها ومراميها.
نقرأ في التاريخ كيف كانت تتمّ مراسم دفن الأباطرة في النمسا:
يدخل الحرس الأمبراطوري حاملا نعش الأمبراطور الراحل إلى المدفن الملكي في فيينا حيث يقف راهب متواضع في جبّة متهالكة ويسأل الحرس:
-من هذا الذي تجلبونه؟
فيجيب أحد الضباط:
-إنه جلالة الإمبراطور
ويبدأ تعداد صفاته وألقابه وإنجازاته ومآثره الأرضية!
فيقول الراهب:
-لا أعرفه
عند هذا الحدّ يقول ضابط آخر:
-الفقيد هو إنسان خاطئ أحد خدّام الله المساكين، ويطلب رحمة وغفرانًا.
حينها يقول الراهب:
-نعم عرفته! ويفتح له باب القبر!
العبرة هنا أن ليس من عظيم أمام الموت والناس سواسية في ساعة الرحيل، وعلينا أن نتخلى لكي نرتقي: من اتضع ارتفع (متى 23: 12).

يقول أغسطينوس: “جلست على قمة العالم حين أحسست في نفسي إني لا أشتهي شيئًا في العالم”.
مهما قست الظروف، سندرك أننا، بالإيمان، أثرياء أكثر مما نتوقّع ونحدّد ونقدّر، حين نتحرّر من قيود الحياة وعبوديّتها وسقم الماديات و”التكالب” على الملذات الفانية.

لنوجه بوصلتنا نحو الخالق وليس نحو المخلوق عملا بقول الإمام عليّ عليه السلام:
“عظّم الخالق عندك يصغر المخلوق”.
مقالة قيمة وفلسفية تدعو للتأمل كما لتثبيت الحقيقة الأساسية والصادقة الوحيدة وهي الموت
هذا الموت الذي عجز كل العلماء أن يمنعوا والذي يدل على عظمة الخالق بقوله تعالى “وقهر عباده بالموت والفناء” والقهر هنا يصمت عنجهية العظماء الذين طغوا وتكبروا على خلق الله.