صديقي سمير…

Views: 455

زياد كاج

    بين بعض الناس  والصبر على البلاء والشدائد خبرة وباع  طويل؛ تخبزهم مصائب الدهر فتخرج أرغفتهم من تنور الأيام ناضجةً واعيةً تكّتنز بياض نور العقل. قلة من هؤلاء تحّولهم الأيام الى “ضحّاكين” ينثرون بذور البسمة والحضور الجميل وسط حقول الناس فتنبت سنابل البهجة ويسر العيش. فالفرح المجاني، كالحدائق العامة، متيسر للجميع  وهو سريع الإنتشار.

هؤلاء القلة-النخبة ليسوا “مهرّجين”، بل هم من محوّلي الجروح العميقة والمكبوتة الى بلسم ومبسم ينعكس بعفوية على مرايا الوجوه المتعبة. يرتاحون ويريحون في محطات الحياة. صناعة هم وحدهم يمتلكون سر خلطتها.

   صديقي سمير الديب—” ضاحك الجامعة الأميركية في بيروت “—هو أحد هؤلاء.

   تزاملنا ( ولا نزال) في أواسط الثمانينات في المستشفى وبيروت يحكمها “الشارع والرشاش المتفلت”. كُنت أعمل في الطابق الخامس جنوبي (لُقب بسوق الخضار) وهو كان في الطابق الخامس شمالي (أمراض القلب). كنا نلتقي خلال الدوام المسائي في دردشات نتبادل النكات وأخبار المؤسسة وخبريات “البيئة الطبية” من خلف الستار والتي لا يسمع بها إلا أهل الدار. للمستشفى عالم “دردشي” خاص به. لفتني بصديقي خفة دمه، صراحته، وعيه السياسي، كرهه للتعصب، سخريته  وطموحه.

ابن بلدة كفرمتى الجبلية (قضاء عاليه)؛ والده من ثوار 58، هبط الى بيروت وتزوج من بيروتية أمها أرمنية؛ فغاب عن بلدته وغُيب. يسكن في منطقة “كركول الدروز” ويساعد والده في دكان صغير لبيع الصحف والمجلات ولوازم الطلاب. سمير يشبهني كونه ابن “كوكتيل” وخليط هذا البلد. بفضله تذوقت لأول مرة شوكولا “ألبينا” الغالي واللذيذ يوم تعرّضت المستشفى للقصف المباشر، بدل شوكولا “الصابون” في “سوق الخضار”.

   سمير موهوب خفيف الظل “حرامي ضحك”(شارك في سكتش مسرحي بمناسبة يوم الممرضة العالمي). معروف بين الموظفين والممرضات والأطباء بأنه  شاب محب و”يشيل الهم عن القلب”. ومن يشيل همّك يا صديقي؟ من يحمل عنك كل الصخور التي رماها على كتفيك الدهر:

رحل الأخ بسام (بطل الصليب الأحمر في حروب طرابلس العبثية) في برد كندا وحيداً. فتحت في ذلك المساء المكتوب وقرأت الخبر الذي قرأته أنا على وجهك وأنت خلف المكتب تتابع عملك؛ رحلت الأم الصابرة والمتفانية بعد مشوار طويل من العذاب وغسيل الكلى وهي تدعو له بطول العمر لاهتمامه بها ورعايته لها على مدار الساعة؛ ورحلت الجدة الأرمنية الجذور. ثم رحل العم-الشيخ الساكن قرب مقام السيد عبد الله  العابق تصوفاً ورهبةً في عبيه.

   كان نصيب صديقي مع “مؤسسة الزواج” خاسراً.. وهل من رابح في هذه المؤسسة التي تشبه حال البلد اليوم. رهانات في غير محلها وأحلام  مثالية تتكسر على صخرة الواقع. يوم زرته في المستشفى بعد عملية جراحية مراتونية وخطرة، خرجت وأنا أسأل نفسي: “من أين يأتي سمير بكل هذا الصبر؟ بكل هذا الجلد والقدرة على تحمل الألم؟”

   آه من نار صقيع كندا ومن قساوة قلبها! اختطفت بسام، واستعارت منه وحيدته—أمله  وفلذة كبده الوحيدة. حسبي ان هذا جرحه الأعمق. السفر والمسافات بارود الشوق وثلاثة أرباع موت.

“أيوب الجامعة ورأس بيروت وكركول الدروز”.. أحب أن أسميه. معروفي أصيل ووفي دون كتاب أو معرفة. قلة من ينتقدون جماعاتهم في هذا البلد ويبقون أوفياء لها. لا تملق ولا رياء. صادق وشفاف وفي عشرته  شيء من شفافية مياه ينابيع الباروك والصفا. أصيل ويحفظ الخبز والملح وتراكم الأيام.

   يوم صفعني القدر براحة يده الصخرية وتفتت أناي على السنة الناس في أروقة المستشفى وعلى أرصفة الشوارع، وقف سمير “كالديب” مدافعاً شرساً الى جانبي ومعه خالد وممدوح وخليل وسليمان وآخرين. بقي الى جانبي يدعمني كل يوم ويشد على يدي دون إلحاح أو إزعاج. كان خير سند وخير صديق وأخ لي ولشقيقتي وللعائلة. “حين ينفخت الطبل، يتفرق العشاق”؛ أما هو فبقي الكتف الذي استند عليه كي لا أقع فريسة سهلة للسخرية على ألسنة وحوش طائفية ومذهبية طاب لها الحديث عن مصابي.

كنت يومها بحاجة للقبول لا الشفقة؛ فمنحني الأولى ولجم الثانية.

   في سفرتنا الأولى الى فارنا ( بلغاريا) حمل  العكاز الخشبي وخفة دمه فكانت أول رحلة لنا خارج البلد. متعة السفر معه أنستني مرضي واستعدت روحي وايماني بالحياة في بلاد البلغار الجميلة . أقمنا في كوخ وسط غابة أشجارها ناطحات سحاب (فيما أقام البقية في فنادق وندموا)، وكنت أركض صباحاً برفقة  ضحكات السناجب وغناء العصافير؛ وعلى الشاطئ أصبنا بالصدمة الحضارية الأولى لأن النساء هناك لا يرتدن القسم العلوي من ثوب السباحة. كم ضحكنا على أنفسنا؟ وكم شربنا كؤوس النبيذ الأحمر من براميل خشبية وسهرنا وسط غابة صنوبرية وسمير يتوتر كلما اقتربت منه الراقصة الحاملة لثعبان ضخم . أذكر يوم قصدنا السوبرماركت لشراء جبنة قشقوان فلم يفهم علينا المسؤول، فراح صديقي يقلد صوت البقرة حتى نلنا طلبنا. كان موقفاً مضحكاً لن أنساه.

 

   أذكر  يوم سافرنا ومعنا الصديق خالد الى الشام لشراء بذلة العرس ومفروشات بيته الجديد. توفق بالبذلة دون الفرش لأن صاحب المعمل طلب مبلغًا كبيرًا كرشوة للضابط على الحدود! خلال تجوالنا ركبنا الفان (لم يكن قد دخل بلدنا بعد). لاحظت أن ابن الشوفير المسكين  كان يتنقل بين الركاب لجمع النقود وسحاب بنطلونه مفتوح. أضحكني المشهد ولم أعد قادرًا على السيطرة على نفسي فأصيب سمير وخالد بعدوى الضحك  والركاب يحدقون بنا مستغربين. ناس مهذبون يحترمون  الزائر.

    ضحّاك الجامعة… مصنع سرور وبهجة.. أيوب هذا الزمن هو سمير الديب. 

    أقول: “شكراً”  صديقي سمير الديب على كل شيء: على صداقتك الرائعة التي استمرت رغم الظروف والانشغالات، وعلى دعمك ومساعدتك لي في أحلك ظروف حياتي، وعلى حضورك الرائع في حيواتنا جميعاً، وعلى كل ضحكة وبسمة صادرتها منا رغماً عن أنوفنا وأمزجتنا العكرة.

   أتمنى لصديقي “الأيوبي” الطبع و”المعروفي” الأصيل  دوام الصحة والعافية والرضى والمزيد من العطاء.. صديقي سمير الديب المثقف “غير المُعلن” الذي يلتهم الجريدة كل صباح قبل بيعها والمحلل السياسي الناجح والعميق الذي يفهم خلطة وتحولات البلد. العلم والثقافة والمعرفة والحكمة ليست شهادة جامعية، صديقي.

صدق من قال: “إن كل درزي أمير”. ( وردت في كتاب عن الأمير فخر الدين بقلم كاتب أجنبي).

على طريقة الروائية اللبنانية ماري القصيفي أقول لصديقي “ليس الحق ع فرنسا..بل الحق..كل الحق ع كندا”. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *