الحج الى مونيخ (13) عمرة في سجون ماقبل الفيريس

Views: 318

محمّد خريّف *

من سُجون المقدّس والمدنّس

الأرض في مُونيخ  هي الأرض عندنا بتضاريسها لا فضل لبعضها على الآخر إلا بما يتميز مناخ هذا البلد عن ذاك  ولا شيء يقدّس هذا الشبر من الأرض عن الشبر الآخر أو يدنّسه إلا بما يتركه الإنسان من بصمات التعمير والتخريب ، والرفع بسُلطة الاعتقاد الواهم من شأن هذا المكان والحطّ من ذلك المكان، وما الحجّ إلى مكان مّا دون مكان مّا إلاّ صنيعة ثقافة لاهوتيّة بدائيّة ميتافيزيقيّة تنتقل فيها الفكرة من هاجس التخمين الظّنّي وأساسه العجز أمام تفسير الظواهر الطبيعيّة الخارقة وتأويلها إلى واقع التكلّس العقائديّ فيُجيزمتذرّعا بمعجزة الموت وفناء المخلوقات مالم يقبله الواقع من الخوارق اما لعجز مادّي أو قصور فكريّ .

فكانت تبعا لذلك معجزات الأديان السماوية الثلاثة وكان معها الجواب اليقين الذي يهدف إلى إخراج الإنسان من حيرته الماورائيّة بتلخيص حركة الوجود المعقّدة في مراحل النشأة والنمو والعود على بدء بتدبير ربّانيّ سماويّ وفي ذلك حكمة لذوي الألباب لعلهم يتّقون. .

ولعلني أفدتّ من الحجّ إلى مُونيخ بالتخلّي عن فكرة الحجّ نفسه ونحن نتأهّب لمغادرة مُونيخ بعد أن فقدت الثقة في التصنيف الثنائي للمقدّس والمدنّس ، لكن و في انتظار العودة إلى أرض الوطن-  والوطن أوطان- عبر مطار فرنكفورت لامونيخ كما كان مقرّرا قبل استفحال أزمة الخوف من الإصابة بوباء الكورونا فما كان علينا إلا أن نقتطع لنا تذاكر للسفر بالقطار لنتحوّل إلى فرنكفورت وكان رفيقنا في رحلة الصّباحيّة أبا ريّان التونسي الذي أبى إلاّ أن يصحبنا في رحلة القطار إلى فرنكفورت حتى يطمئنّ على سلامتنا وكنا انتقلنا منذ فجر يوم 20 أفريل 2020 فأصبحنا على اشراقة الشمس البافارية تنشر أنوارها على بساط خضراء  يمخر عباب الأرض متوقفا أحيانا في محطات وأشباه محطات، لكن قبل ذلك تحضر أماكن في مونيخ خلوت إليها أثناء تجوالي وخلواتي على انفراد وهل أنا في مُونيخ سابح في جداول التأمّل والتفكير المختلف؟ 

  هكذا يشدّني حنين إلى التعلّق بأماكن في أرض أنست بها واليها رغم حداثة العهد بها وكأني أعاشرها من زمان أختال في مسالكها وشوارعها دون أن يعكّر مزاجي ما يلحق بطقوس النزهة على انفراد ما خفّ من استعارات القول وما ثقل من موازين التأويل والتأويل المضادّ وهل أنا أنا خالي الذّهن من عوائق التباعد الثقافي ومن مظاهره في ما يطفو على الأرض و يتعاقب عليها من مظاهر العمران وتبدّل الأحوال ما لايحصيه العد ويحدّه العقل ؟

وعلم الأرض من علوم الجيولوجيا وهل يطاله  زيف التأويل والتأويل المضادّ وللعلماء كيد غير كيد النساء يشوّهون به الحقائق ويقلبون به المفاهيم و باسم السلطة العلميّة الصارمة يتحكّمون في رقاب المؤمنين بهم ؟ وهل من علوم الأرض ما يشبه علوم الكلام في عدم الخلاص من شوائب الزّيف والكذب ؟

و أمر قشور الأرض كأمر قشور العلامات معقّد مركّب قد يخدع به علماء الأرض ولا يدرك لهم زيف نتائج ومسلّمات إلاّ بدقيق البحوث السّيميائيّة التي لاتنطلي عليها حيل الخبر العلميّ الذي توهم مقاماته وأساليبه بالحقيقة دون حقيقة والقميص الأبيض قد لايستر زيف المعلومة التي يريد أن يمرّرها أو يقنع بها الجمهور: تلك فوائد جمّة أجنيها من رحلتي إلى مونيخ ولا أجني أجر توبة سجود وركوع إلا ممّا أستله  بالقراءة من كتب ترافقني أعود إليها من حين إلى آخر في مقر اقامتي مع الاهل في مونيخ أوفي الحجر الصحي بالحمامات  وهي قليل من كثير بحوث الفلسفة الحديثة فلسفة الاختلاف وقد كان يرافقتيمنها من مونيخ إلى الحمّامات  أدلّة من ورق  منها :  كتاب “الدكتورهانس جوهاشيم زيلمر بعنوان داروين وكذبة النمو”** في ماهو نقيض لفلسفة النموّ عند داروين مخلخلا عندي ما ترسّخ بالتربية والتلقين الزائف أنّ علم الأماكن كعلم الأزمان مصنّف  تصنيفات المعارف الواقعة في سجون “المقدّس والمدنّس” فكانت منّي بوادر الإحساس العميق الواعي نسبيّا بأن حَجّتي إلى مُونيخ من قضائلها أن  تخلخل عندي الإيمان بالحجّ الموروث ورأسه التشبث بفكرة متحجّرة أنّ الحجّ لايجوز ولايصدق إلا إذا كانت وجهته أماكن مقدّسة دون أخرى .

وتلك مزيّة حجّة اللاّحج وقد طهّرتني بل دنّستني  بأدران اللاّعقيدة ودواخل النفوس قد يسجنها ما يطرأ على أجساد أصحابها في مونيخ ما قد يطرأ على دواخل الأنفاق ومنها دواخل المتحف الكبير والمكتبات العامة المغلقة بمناسبة الحذر من وباء الكورونا   وكذلك المعالم الدينيّة تظل مجهولة وليست بمنأى عما يحدث في بطون الأرض، فكيف ياترى أحكم على أمر يظل مجهولا بما عندي من معلوم محدود منقوص؟

وما ظهر لي سطح الأرض وللأرض سطوح سطوح وأنفاق أنفاق في مونيخ، كما كان في بافاريا أو شمال إفريقيا وجوه للأرض وخفايا وجوه والظّاهرمن الوجوه قد يزيّف ماوراء الوجوه الجيولوجية لطبقات الأرض في مختلف تطوراتها وتحوّلاتها ، والباحث السّيميائي في علامات الأرض على مستويات الظاهر والباطن  يحتاج إلى إعادة النظر في ماهو مسلّم به جيولوجيا أوفي ما هو بديهيّ بأحكام مصادرات علماء الأرض ومقامات أخبارخطاباتهم العلميّة التي قد تُعمي البصر و البصيرة فيغنم تجار المعرفة   راكبين حصان الغفلة غفلة السّجون الخطابيّة التي تقنع بالتصديق ولا صدق يعدم الشك ويقصيه من تنظيرات من تحصّن بحُصون الديكور وذياع الصيت العلميّ والشهرة.

يكفي أن يتفوّه عالم كبير بكذبة ليصدّقها كل الناس لا لشيء إلاّ لأن قائلها يشهد له من قومه بالثقة والبعد عن اللغو وزلاّت اللسان(وهم من علماء الأمة عند المسلمين) و”العلماء” يحتكرون ملكية القول الصائب وعبارته مسجّعة موقعة مختزلة” تشبه  في شكلها الملفوظ المعادلة الرّياضية وهي القنبلة  السحرية الموقوتة النافذة التي لاتترك مجالا للشك فيها أو تفنيدها منذ البدء فتكتسب العبارة بذلك صلوحيّة ترفعها إلى منزلة التقديس والفضل في ذلك يعود إلى صرامة الاعتقاد وما هشاشة الاعتقاد إلا سبيل من سبل تهميش المقدّس والخلط بينه بين المدنّس ولنا في أخبار العامّة ونوادرهم في شمال إفريقيا عبر العصور في علاقاتهم بالمقدّس والمدنّس وبالخمر على وجه التخصيص وما تهيّأ لهم من ذرائع الإفتاء ما يجعلني  بدوري أفيد من الكتب التي صحبتني في رحلتي من ميونيخ إلى تونس والمهتمة بأمر الكذب فأتفاعل معها بالحوار الذهنيّ، و نحن في طريق العودة.

ولعل ما يطرحه ذلك المونولوق من أسئلة تقضّ مضجعي الفكريّ التقليديّ ويجعلني لا أرتاح إلى ما تراه عيني وما تحمله ذاكرتي  من زاد حجّ تفجيرات تضاريسه  أبعد ممّا تقرّ به علوم الجغرافيا وطبقات الأرض من حقائق طالما عنها الأصوليون ومن لفّ لفّهم -وهم يجهلون أويتجاهلون ما يطرأ على قشور الأرض وأعماقها من تحوّلات وانزلاقات فتراكمات بحيث ينعدم معها القول باالمقدّس والمدنّس وتبطل وثيقة  صفاء الأصل والفصل وعلوّ الهمة وشرف المكان وبوجود أماكن اختيرت لتكون مهبط الأديان السماويّة وأماكن أخرى ليست  سوى أوكار يُوسوس فيها شيطان رجيم بقدرة كلام رحيم ، وهي في كل الحالات حجج لها أتباع وأنصار  يستند عليها السلفيون المتشدّدون وجلّهم من الصّهاينة   لتبرير ما يقومون به من اغتصب واستحواذ على الأوطان المغتصبة باسم الدين   في فلسطين وغيرها من البلدان المستعمرة في أنحاء العالم فكذبة العود على بدء إذن بذرائع صوت الحقّ الزائف وسبيلها الحفرالمادّي والتنقيب المعنويّ في أشلاء الماضي  من أجل العثور على ما يغيّر الواقع الآن هنا فيحلّ وهم الماضي محلّ وهم الحاضر لتختلط بأوهام المستقبل وتلك أزمة إنسانيّة معقدة هدّامة لاخلاقة كما تدّعي نظريّة التبشير بفوضى الرّبيع العربيّ ولا أدري لم تخلوا عن نعته بالإسلامي ؟ 

(يتبع)

***

* كاتب من تونس- مونيخ – مارس – افريل 2020

 ** Dr Hans –Joahachim Zillmer :Darwin  le mensonge de  l’évolution

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *