“ابنة الفواجع” بيروت… من تحت الركام تتوهج

Views: 492

أنطوان يزبك

 

“المدن مثل الأحلام مكوّنة من رغبات ومخاوف وخيوط خطابها سرّي، قواعدها عبثيّة، أبعادها خلاعة، وكل شيء فيها يخفي شيئًا آخر” إيتالو كالفينو (من كتاب المدن الخفية 1972).

 

تصميم عمر الجبين

 

المدن في تاريخيّة وجودها تكتب قصصها وتدوّن مشاعرها. مشهديّة الكوارث تجعل من المدن خالدة. تتعدّد الوجوه وتتفرق الهويّات لكن تبقى المدينة هي ذاتها…

منذ عقود الأزمات والكوارث والملمّات ونحن نبحث عن هويّة، نبحث عن معنى وتفسير لكل العبثيّات التي تحصل، حتى بات السؤال الأكثر إلحاحًا، هل بنيت المدن لتهدم بطريقة كارثيّة مرارًا وتكرارًا؟ وها هو انفجار بيروت يربطها بسقوط مدن العالم في الحروب المدمّرة التي اجتاحت البشريّة!..

من الواضح أن ثمة قوى متوحّشة تتلذذ بمشاهدة نكبات الشعوب؛ وهذا الوحش الحضاري يشبه إلى حدّ كبير “ليفياتان” صاحب القرون العملاقة التي كانت تهز الأرض وتسبّب الزلازلّ! وعندما كتب توماس هوبز مؤلفه “ليفياتان”، كان مدركًا أن “حروب الجميع ضدّ الجميع” سوف تنتهي بفناء المدن وسقوط الحضارات.

بول أوستر

 

ها هو بول أوستر في روايته “في بلاد الأشياء الأخيرة” يحدّثنا عن يوميات مدينة أميركية هي نيويورك على الأرجح بعد كارثة نووية قضت على نمط الحياة الذي نعرفه ومحاولة الناس التكيّف مع الظروف الصعبة التي أعقبت هذه الكارثة الكبرى.

استفاضت مخيلة صانعي الأفلام وكتّاب الروايات في أميركا حول الكوارث حتى تحققت وصار الخيال واقعًا، على سبيل المثال The day after tomorrow الذي يصوّر اجتياح عاصفة ثلجية مدمّرة شمال الولايات المتحدة.

كذلك فيلم “الطريق” المقتبس عن رواية كورماك ماكارثي وقد نقله إلى السينما المخرج جون هيلكوت. تصوّر الرواية والد وابنه يهيمان في أميركا بعد الكارثة النووية ويتعرّضان لمخاطر غير موصوفة من بينها هجوم أكلة لحوم البشر.

كورماك ماكارثي

 

هذه الأفكار القتّالة الهدّامة، وهذه النظرة السوداوية التي تجسّدت في رواية وفيلم، صارت واقعًا وترجمت كارثة كبرى. هذا الفأل التعس والأفكار الشريرة المبيّتة، حوّلت الفيلم الهليوودي إلى حقيقة! حقيقة مؤلمة حتى الصميم ولا يستطيع أي كلام وصف مقدار الألم والقهر والمعاناة!

تحوّل المأساة إلى “فرجة”، أكثر ما يدمي القلب، العالم كله قصد بيروت ليتفرّج، والجميع أدلى بما جادت به قريحته، لكن كل ذلك لا يملي الجيوب ولا يصحّح العيوب!

يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس (5، 9): لأني أرى أن الله أنزلنا نحن الرسل أدنى منزلة كالمحكوم عليهم بالموت، فقد صرنا معروضين لنظر العالم والملائكة والناس.

أجل، لقد حوّلنا الفاجعة إلى مشهد عالمي وصار الكل يتفرّج علينا، مثل المسوخ في السيرك أو في متحف الكائنات العجيبة، وغرائب المخلوقات.

الحياة ليست كلها مأساة طالما أن الرسل كانوا على يقين بالظفر الأخير، مهما تفاقمت المآسي وتجاوزت الإدراك الذي ظهرت له يقينيات وغابت عنه حقائق أضعاف ما تكشّف له.

تصميم علي بسام

 

كم مرة دمّرت بيروت وذرفت عليها الدموع وكانت ضحية عن العالم وعن العرب؟ ذبحت بيروت عن كل العواصم، كل الديانات، عن مؤامرات بدأت من هنا، وعصابات طاب لها أن تتخذ من بيروت نقطة انطلاق، عصابات عالمية تبدو المافيا والكامورا والياكوزا وعصابات مالطا والبرونكس ساذجة أمام عصاباتنا المحليّة، حتى أسمودس وإبليس وسلالة أمراء الظلام يندى جبينهم خجلا أمام شياطيننا!

مع ذلك سأبقى أردد مع محمود درويش في قصيدة “بيروت”:

تُفَّاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام،

فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ. شكلُ الروح في المرآة،

وَصْفُ المرأة الأولى، ورائحة الغمام

بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ، وأندلس وشام

فضَّةٌ، زَبَدٌ،  وصايا الأرض في ريش الحمام

وفاةُ سنبلة. تشرُّدُ نجمةٍ بيني وبين حبيبتي بيروتُ

“الديوان”

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *