“هل الفدرالية هي الحلّ المناسب لواقع لبنان السياسي المأزوم؟”

Views: 361

إعداد د. مصطفى الحلوة

 

بدعوة من “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية ” ، وبالتعاون مع مؤسسة (Hanns Seidel) الألمانية ، نُظِّمت ، يومي 30 تموز و 31 تموز 2021 ، ورشة تفكير ونقاش ، بعنوان ” هل الفدرالية هي الحل المناسب لواقع لبنان السياسي المأزوم ؟ ” ، وذلك في القاعة 1188 للمحاضرات (جبيل – المدينة القديمة) .

تعاقب على الكلام في الجلسة الافتتاحية ، رئيس مركز تموز د. أدونيس العكره والمسؤول الإقليمي لـِ “مؤسسة هانز زايدل ” السيد كريستوف دوفارتس ، ومنسق أعمال الورشة د. نمر فريحة .

أعقب الجلسة الافتتاحية ستُّ جلسات ، قارب فيها إثنا عشر محاضراً العناوين الآتية : الفدرالية كشكل من أشكال بنية الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي / دروس من التاريخ : الفدرالية حلّ لمشكلة أم مشكلة بحاجة إلى حل؟ / النخب اللبنانية ونظرتها إلى الفدرالية / لبنان الفدرالي : كيف سيكون سياسياً وجغرافياً ؟/ بُنية  النظام السياسي في لبنان الفدرالي / الفدرالية في لبنان:إشكاليات مفتوحة .

إذْ أثار موضوع الورشة – وهو موضوع إشكالي وخلافي – جدلاً واسعاً بين دُعاة الطرح الفدرالي وبين معارضيه ، فقد أُلتزمت أدبيات الحوار الحقّ ، التي أرساها ” مركز تموز ” ، في جميع فعالياته البحثية ، وهي القائمة على توفير مساحةٍ رحبة لتفكير ونقاش عقلانيين ، ومشرّعةٍ على مختلف الرؤى ، لا ضوابط لها إلاّ تلك المتمثّلة باحترام الرأي والرأي الآخر المختلف ، وبما يُضاد لغة العنف والتخوين وتوسُّل التعابير التي تُعمّق الشرخ بين اللبنانيين وتُخندقهم في متاريس مُتقابلة .

إشارةٌ إلى أن هذه الورشة ، تأتي في أعقاب ثلاث ورش ، نظّمها “مركز تموز” ، تندرج في المسار الذي اختطّه ، عبورًا إلى الدولة المدنية الحديثة ، دولة المواطنية ، في وقتٍ يُكابدُ اللبنانيون تداعيات أزمةٍ مصيرية وجودية ، لا تُهدِّدُ نظامهم السياسي فحسب ، بل تتعدّى إلى الكيان . ففي تواريخ سابقة ، من عامي 2020 و 2021 ، كانت الورش الآتية :” حيادُ لبنان : التحدياتُ والفُرص ” / “هل نحن باتجاه عقدٍ وطنيّ جديد ؟ ” / ” مدخل إلى تحقيق الدولة المدنية في لبنان” .

في نهاية أعمال الورشة ” جاء البيان الختامي ليتضمن العناوين والرؤى والتوجهات الآتية :

أولاً : في الطرح الفدرالي والترويج له :

أ- مبررات طرح الفدرالية كنظام سياسي للبنان ، من منظور دُعاة الفدرالية :

1- النظام الحالي، المستمر، منذ قيام الكيان اللبناني (1920)، جلب من المشكلات أكثر مما قدّم من تنمية وتطوير .

2- الحكم المركزي المعتمد في لبنان يوفّر الجو الملائم لتفجير الصراع على أيدي المسؤولين الطائفيين ، في حين أن نظام الفدرالية يسحب البساط من تحت أقدامهم .

3- الميثاق الوطني (صيغة 1943) ، كتسوية وطنية وتعاقد جنتلمان ، تلقّى ضربة قوية ، بل سقط بعد خمس عشرة سنة ، عبر أحداث العام 1958 ، في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون .

4- النظام الذي أرست معالمه صيغة 1943 ، وأعاد إنتاجه “اتفاق الطائف”(1989) ، بقي مُتسمّرًا عند المصالح الطائفية ، وبات فريسة لها .

5- أبرز سمات الواقع السياسي راهناً : تكريس ثقافة الفساد والإفساد ، استباحة المال العام والخاص – عدم مساءلة المتربعين في مواقع القرار، حول فشلهم والتسبُّب بالإنهيار المربع ، الذي نعيش فصوله – طائفية الحكم إلخ …

6- ثمة دول كثيرة في العالم ، بمعزل عن طبيعة نظامها السياسي وعن مساحتها الجغرافية وتعدادها السُكاني ، اعتمدت نظام الفدرالية ، ونجحت في تطبيقه ، وفي عدادها دول عالمية .

7 – لبنان يعيش اليوم في ظل فدرالية طوائفية مقنّعة .

تأسيساً على ذلك ، كان لا بد من التفكير – بحسب دُعاة الفدرالية – باستبدال هذا النظام ، الذي لا تُرتجى قيامته ، وليغدو النظام الفدرالي هو الأكثر ملاءمةً للبنان ، لا سيما بعد رفض أصحاب القرار تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة ، بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود ، على العمل بدستور الطائف .

ب- في تصوّر دُعاة الفدرالية لـِ”جمعورية لبنان الاتحادية” العتيدة

تم تقديم عدة تصورات ، استاثر مشروعان من بينها بالنقاش :

1- المشروع الأول : فدرالية تستبعد ثلاثة عناصر : التقسيم / التهجير أو الترانسفير (transfer) / العنف ، ومما جاء في هذا المشروع :

– لا أقليات ولا أكثريات ضمن كل ولاية (عدد الولايات تسع ، وفق التقسيم الإداري المعمول به راهناً ، أي أن الولايات المقترحة هي ضمن حدود المحافظات الحالية ) .

– ولاية بيروت هي عاصمة الدولة الاتحادية ، ومقر الحكومة الفدرالية .

– الحكومة الفدرالية تتكوّن من مجلس حكماء وليس زعماء ميليشيات ، تتولى السياسة الخارجية والدفاع والحفاظ على وحدة النقد والسياسة المالية ، وتفصل في الخلافات التي تنشأ بين ولايتين أو أكثر .

– كل إقليم أو ولاية أو كانتون له حق الانتفاع بثرواته البشرية والطبيعية والإنتاجية .

– مشاركة المواطنين ، في كل ولاية ، بانتخاب ممثليهم في مجلس الولاية: الحاكم والحكومة ومجلس النواب ، وذلك بمعزلٍ عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي.

– مساءلة المواطنين للمسؤولين كافة ، بمعنى أن لا حصانة لأي مسؤول.

– ثمة شرطة محلية تحافظ على أمن كل ولاية ، مع جيش موحد على حدود الوطن ، يخضع لأوامر الحكومة الفدرالية .

– الدستور الفدرالي وسائر القوانين المعمول بها مستمدّة من شرعة حقوق الإنسان ، تدعيماً لمبادئ العدالة والمساواة .

– حرية التنقل بين الولايات وحقوق التملك في أي منها يضمنها الدستور .

– ينتخب المواطن الحاكم وفريقه في المنطقة التي يُقيم فيها، بمعزل عن الطائفة التي ينتمي إليها .

2- المشروع الثاني : نظام فدرالي يضمّ أربع جمهوريات / كانتونات : مسيحية ، شيعية ، سُنيّة ، درزية ، وهي جمهوريات لا مركزية لها كل السلطات.

– فدرالية ترتكز على بُعدين : جغرافي وطائفي ، مُنطلقةً من أربع سرديات تاريخية / اجتماعية .

– مشروع قديم مُتجدِّد ، بدأ طرحه ، منتصف سبعينيات القرن الماضي ، إبان الحرب اللبنانية ، وتحديداً في آذار 1977 ، مع إطلاق بيان ” سيدة البير” ، المشكّلة من تحالف القيادات المسيحية اليمينية .

– بحسب دُعاة هذا المشروع ، تهيمن الطائفة الأقوى في النظام المركزي. وقد شهدنا على مرّ تاريخ لبنان الحديث ، هيمنة المارونية السياسية والسُنية السياسية ، وراهناً الشيعية السياسية ، وليكون القرار الأول والأخير للطائفة المهيمنة .

– إلغاء الطائفة السياسية لا يحلّ المشكلة ، كون ذلك ، حال حصوله ، يؤول  إلى تغليب الطائفية العددية ، بحسب الفدراليين .

– إعادة الاعتبار للطائف وتنفيذ بعض بنوده ، لا سيما قيام مجلس الشيوخ، لن يُغيّر من طبيعة النظام شيئاً ، فتجربة مجلس الشيوخ للعام 1926 ، خلّفت ازدواجية تشريعية وآلت إلى الفشل ، وتمت العودة عنه.

– التهليل للامركزية الإدارية الموسّعة ، يُبقي على مركزية النظام السياسي، فهذه المركزية الإدارية هي نظام إداري ومالي وليست نظاماً سياسياً.

– حرب السنتين (1975 – 1976) حصدت 200 ألف قتيل ، مما يدعو إلى عدم الاستمرار في أكذوبة العيش المشترك ، ودائماً بحسب الفدراليين.

– يُحقق هذا النظام نقل الصراع من أيدي الطوائف إلى أيدي مجتمع إنمائي تنافسي ، فيحاكم كل مجتمع مسؤوليه .

– لا يستلزم اعتماد هذا النظام الفدرالي اعترافاً دولياً ، فلبنان دولة بسيطة، وبانتقاله إلى الفدرالية فهو يمارس عملاً سيادياً .

ثانياً : في معارضة الطرح الفدرالي والبديل من هذا الطرح ؟

ثمة هواجس كبيرة ، لدى مكوّنات متعدّدة من اللبنانيين ، إسلامية بغالبيتها ومسيحية ، حول الدعوة إلى الفدرلة . هذه الهواجس تندرج تحت الرؤى والتساؤلات الآتية :

1-الدعوة إلى الفدرالية تنطلق من مقدّمات طائفية صريحة ، إذ أن دعاتها بمعظمهم مسيحيون . وهذه الدعوة تقوم على استعادة منهج استشراقي ، فحواه أن الشرق ولبنان أديان وطوائف ومذاهب لا أكثر .

هذا المنطق يُضادهُ ما جاء في أدبيات الآباء المؤسسين للكيان ، كما في الإرشاد الرسولي (لبنان رسالة) .

2- الكيانات الفدرالية المقترحة ، الموزعة على أساس الانتماء الديني أو الطائفي، رغم اعتبارها كيانات جغرافية ، ستكون ، حال نشوئها ، كيانات طائفية صريحة ، وخطوة كبيرة إلى الوراء .

3- الطائفية ، منذ مائة عام ، هي السرطان الذي آل إلى تدمير كل إمكانية لسيْرورة الوحدة الوطنية الحقة بين اللبنانيين ، فكيف تكون الآن ، مع مقترح الفدرلة ، الدواء والمدخل لمعالجة مشاكلنا ؟ !

4- هل الحالة اللبنانية المركّبة والمعقدة قابلة أصلاً لخيار الفدرلة ؟

وهل تمرّ الفدرلة ، حال الشروع بترجمتها على الأرض ، من دون صراع دموي؟ سيما أن الفدرلة ستُقرأ راهناً ، عند غالبية الطائفة الشيعية ، بأنها تصويب على سلاح حزب الله .

5- تبعثر خريطة الكانتونات يدلّ على صعوبة تقسيم لبنان ، طائفياً ومذهبياً، إذ أن نصف بلداته وقراه متعددة الطائفة  ، متعددة المذهب . فهذا التذرُّر الديموغرافي الطبيعي ، لا تستطيع أية فدرالية تمثيله ، ولا يستوعبه إلاّ وطن واحد ، حيث المواطنية ، لا الطائفية ، هي الهوية .

6- لنا في التجارب التي عشناها ما بين 1975 و 1990 (الحرب الأهلية اللبنانية)، حيث قامت كيانات الأمر الواقع (الإدارة المدنية وما شاكلها)  ، ما ينبغي أن تشكّل أمثولة ، إذ كان الاقتتال داخل هذه الكيانات نفسها .

7- إن الفدرالية ، التي قامت قبل نشوء الكيان ، أي في عهد القائمقاميتين، لم تجنّب الجبل الحروب الأهلية . بل كانت سبباً إضافياً للفتن . علماً أن معظم النهضة العمرانية والثقافية للجبل ، شهدناها في ظل نظام المتصرفيّة (1861 – 1914) ، أي حين توحّد الجبل تحت إدارة سياسية واحدة ، أطلقت شبكة واسعة من العلاقات الواقعية والحضارية .

8- كيف تستطيع الدولة الفدرالية أن تحافظ على وحدة البلاد ، إذا كانت المواضيع الجوهرية المفترض أن تكون عماد السلطة ، هي محل خلاف ؟ وعلى سبيل المثال لا الحصر، السياسة الخارجية ومسائل السلم والحرب ؟ .

9- الكانتونات (الأربعة أو التسعة ) لن تكون تحت سلطة المثقفين ورجال القانون وأساتذة الجامعات ، كما يعتقد الفدراليون المتفائلون ، بل تحت هيمنة الثلاثي المتحالف : الهيئات الدينية ورجال المال والأحزاب المسلّحة ، التي حلّت اليوم محل الإقطاعي الذي كان مهيمناً .

10 –  وماذا عن مصالح المسيحيين الاقتصادية في العالم العربي ، حال قيام الفدرلة ،  بشكل قسري ؟ بل ماذا عن الدور اللبناني المسيحي التنويري في الشرق ؟ وهل يتبرّأ دعاة الفدرالية اليوم ، أو ينتفضون على من صنع مجد لبنان ، بتقديمه للشرق ، وربما للعالم نقيضاً للعنصرية الصهيونية ولكل عنصرية ؟

11- وماذا عن دور الخارج في قيام النظام الفدرالي ، على رغم أن العبور إلى هذا النظام هو عمل سيادي وطني؟ وعليه ، فإن على لبنان ، باعتماده أي خيار سياسي، أن يعرف كيف يتموضع ، آخذاً بعين النظر ما يجري  راهناً في الإقليم وعلى المستوى الدولي .

12- إن ما ينطبق على طوائف لبنان ، في ظل الفدرلة ، حال قيامها ، سوف ينعكس على الطوائف في سائر المنطقة . وهذا ما يحوّل هذه المنطقة إلى مجال استقطاب إقليمي ودولي .

13- استكمالاً ، وفي مقلب آخر من المسألة ، فإن ما يُساق من مبررات لاعتماد الفدرلة ، هو خارج نطاق أزمة لبنان الحقيقية . فالسلطة العميقة الشاملة ، وعمادُُها تحالف الإقطاع ورجال الدين ورؤوس الأموال ، منذ العام 1920 , والأجهزة المسخّرة لهذا التحالف .. هذه السلطة هي التي دفعت لبنان إلى ما آل إليه من انهيار ، وإيصاله إلى الأزمة الوجودية المصيرية التي يتردّى في مهاويها. فهذه السلطة العميقة هي أصل الفساد وليس الشعب اللبناني الضحية، بمختلف مكوّناته .

ثالثاً : في الثوابت والتوجهات :

1- لا يمكن لأي طرح حول تطوير نظامنا السياسي أن يحقّق مفاعليه البناءة ، طالما أن ثمة من يعمل على تسييس الدين وتديين السياسة ، سواءٌ أكان ذلك بفعل أو بردة فعل ، وليغدو الدين هويةً ، بدل أن يكون شأناً فردياً خاصاً .

2- إن “مركز تموز” يرى أن في الدولة المدنية الحديثة ، على صعيد الإدارة والمجتمع والمواطنة المستندة إلى القانون ، وبمعزلٍ عن منسوب العلمانية فيها ، ليس ما يحولُ دون الاعتراف بخصوصيات الجماعات الدينية، في مختلف وجوه عيشها .

3- إن ” مركز تموز” يتحفّظ عن أية طروحات ، ترتقي إلى حدود المغامرة ، بحيث يوضع لبنان سلعةً للتجاذب ، بل للبيع والشراء ، في خضم لعبة الأمم والإقليم ، وبما يودي به إلى مصير لا تُحمد عقباه ، وقد يكون عُرضة للتفكك والزوال .

4- إن “مركز تموز” ، إذْ أوسع لدعاة النظام الفدرالي ، كما للذين لا يذهبون مذهبهم، يرى أن القضية المطروحة في هذه الورشة ينبغي استيفاؤها . من هنا توجّهُهُ، في الآتي من الأيام ، إلى تنظيم ورشة تفكير ونقاش حول “اللامركزية الإدارية الموسّعة والإنمائية ” .

5- إذْ نستلهم مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير : “إني أخالفك الرأي ، لكنني مُستعدّ للدفاع حتى الموت عن حقك في إبدائه” ، فإننا ، في “مركز تموز” ، ماضون حتى النهاية في توفير فضاء واسع لكل الطروحات ، ومن أية جهة أتت ، إذْ لا محرّمات (tabou) على أي منها ، وذلك من منطلق أن هناك آخر لا يمكن نفيُهُ ، بل ينبغي الإنصات إليه ومحاورته حتى آخر الشوط .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *