حوار الحبّ والحياة مع الشاعر اللبناني أنسي الحاج

Views: 327

أحمد فرحات*

بمناسبة “يوم الشعر العالمي”، والذي تَصادَفَ مرورُه في 21 مارس/ آذار الفائت 2023، نستعيد في “أفق” نشر حوارٍ مطوّل مع الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، والذي كانت له بصمته الإبداعيّة المفارقة في الشعريّة العربيّة الحديثة، خصوصاً لجهة تكريسه “قصيدة النثر العربيّة” وجعلها ذات شرعيّة تداوليّة عامّة باعتراف كبار النقّاد من عرب وأجانب.

والحوار مع أنسي الحاج كان قد أجراه كاتب هذه السطور في العام 1995، أي قبل أربع سنوات من إعلان منظّمة اليونيسكو عن تثبيت “يوم عالميّ للشعر” (1999)، بناءً على اقتراحٍ ثقافي عربي كان قد تقدّم به في العام 1997 الشعراء: فدوى طوقان، محمود درويش وعزّالدين المناصرة إلى مدير عامّ اليونيسكو وقتها الإسباني فيديريكو مايور، والذي رحّب بالفكرة وسهّل تنفيذها، انطلاقاً من كونه شاعراً في المقام الأوّل، ولكونه أيضاً ينتمي إلى عائلة برشلونيّة مطعّمة بجذور عربيّة أندلسيّة تعود إلى القرن الثامن الميلادي.

وينبغي أن نذكّر هنا بأنّ فكرة إقامة “يوم عالميّ للشعر” كانت قد نبعت، في الأساس، من رأس الشاعر عزّالدين المناصرة، باعتراف الشاعر محمود درويش نفسه الذي تبنّاها من فوره، وشارك في الدفع بها لتصير ذات بعد ثقافي عالميّ، وذلك كما أسرّ لي (أي الشاعر درويش) شخصيّاً في باريس في العام 2004.

وبالعودة إلى الحوار مع الشاعر أنسي الحاج، والذي دار في معظمه حول “ثيمة” الحبّ والمرأة لديه، فإنّني أميل للقول هنا بأنّني لم أجد شاعراً مفطوراً على الحبّ بإبداعٍ مثل أنسي الحاج؛ فالمسألة الحبيّة لديه كيانيّة في العمق.. وتظلّ تتشكّل من عناصر رؤيويّة هي الأكثر تجديداً وامتلاء.

وإذا كان الحبّ في الإطار اليومي يتعرّض لخطر أن يصير مملّاً ومن دون بريق، فإنّ أنسي يعرف كيف ينسحب في الوقت المناسب، مؤلّفاً مصيره من جديد، بعيداً من خطر الرتابة والروتين. إنه ضدّ أن يتحوّل الحبّ إلى عادة تفقد وجهها المتألق، وحيرتها الجوهريّة، ونزعتها إلى الاندفاع والحيويّة والتواصل الذكي.

فالحبّ هو الأمر الوحيد الذي يميل بالإنسان إلى مواجهة الزمن بثقة وتجاوز، لأنّه “حالة متجدّدة في استمرار.. حالة مثل الحياة لا تعرف النهاية، وهو في كلّ مرّة ولادة جديدة.. الاستمرار في الحبّ هو غياب عن الزمن”.

والأهمّ في الحبّ ألّا نفقه حالته، أو نغرق في تفسيرها، بل نعيشها كما هي مصبوبة بنارها وشعاع انتباهها، لأنّها بالفعل تتيح نموّ طاقات مفاجئة وغامضة.

أنسي الحاج سيّدُ مَن سعى ويسعى إلى تحقيق الوفاق المختلف مع الحبّ، المرأة والحياة، نقدّمه في هذا الحوار الاستثنائي. وقد بدأته معه بطريقة الكتابة المتبادلة على طاولة واحدة في مكتبه، وبناء على رغبته.. أي أنا أكتب السؤال، وهو يجيبني خطيّاً بشكلٍ مباشر.

 

في ما يلي تفاصيل الحوار:

= أنسي الحاج.. هل أنتَ امرأة تشبهك؟

– أو هي رجل يشبهني

= ما معنى هذه الثنائيّة هنا؟

– إنّها الانتقال من الأقلّ إلى الأكثر

= ماذا تحبّ في الحبّ؟

– لوعة رغبة العاشق في القبض عند المعشوق على شيء لا وجود له.

= أليست المرأة هي صناعةُ وهمِنا فيها؟

– إلى حدٍّ كبيرٍ

= والوصول إليها؟

– محاولة لاكتشاف الفعل وقدرته على صناعة الوهم من جديد.

= أنت “امرأة تشبهك” أو “هي رجل يشبهك” اعترافٌ فيه طعمٌ فرويدي واضح، فأمير علم النفس يقول بالحرف الواحد: “كلّ رجل فيه أنوثة وكلّ امرأة فيها رجولة”.. بهذا المعنى يا أنسي، كيف تعيش هذا الخليط فيك؟

– كلاهما متّحد بعضاً في بعض تلقائيّاً. ثمّ أنا في هذا الموضوع، كما في غيره أنقسم شخصين، على الرّغم من اشتمال كلّ واحدٍ منهما على عنصر الثنائيّة: واحداً واعياً، والآخر لا واعي. بترجمةٍ أخرى ثمّة الشاعر، وثمّة المتكلّم، المحلّل، وكلاهما يوسّط الآخر في حالاته.

= الحبّ يطارد استحالةً ضروريّةً إذن.. يا أنسي، ألا يغيّر الزمن في وعيك للحبّ؟

– كلّما تقدّمت في السنّ، فضّلت الأشياء الأكثر لا وعياً، لأنّها الأكثر حكمة.

= يقال إنّ الزمن شيء ثمين للاستمرار في الحبّ، وإنّه فوق ذلك غذاء العلاقة الحبيّة النامية؟

– الزمن هو للحرق. لا علاقة بين الحبّ والزمن، غير علاقة الحرب، الحبّ انفلاتٌ من الزمن الذي يروح يطارده ليبشّعه، ليربطه بالواقع. الاستمرار في الحبّ هو غيابٌ عن الزمن.

= منذ البدء الى النهاية، يبدو أنّنا لا نستوعب الحبّ أبداً؟

– هذا صحيح إلى حدٍّ كبير. فالحبّ خاصيّةُ السحر في العمق.

= الحبّ حليف القلق حتّى حينما يتطلّع إلى الطمأنينة.. أليس كذلك؟

– طبعاً لا استقرار للحبّ إلّا في الغياب.

= ولماذا هذا البريق المقلقل يا أنسي؟ هل الحبّ عند الآخرين من غير الشعراء يصل إلى حدود هذه السلبيّة؟

– قد يصل وقد لا يصل. لا أدري في الحقيقة. حتّى بين الشعراء، الحبّ ليس في مستوىً واحد، أو مستوىً مشابه.

= أيّهما أهمّ لديك: الحبّ أم الحريّة؟

– الحريّة أريح

= تذكر أحياناً عبارة “الحبّ السينمائي”.. ماذا تقصد بذلك؟

– صار بإمكاننا القول بشيءٍ اسمه: “الحبّ السينمائي”، أي الحبّ على الطريقة الأميركيّة، والذي اعتبره أسخف مفهومٍ للحبّ. الحبّ عندهم هو نوعٌ من الزواج الهابط، سواء أكان ثمّة زواج أم لم يكن.

= بأيّ معنى بعد؟

= بالمعنى الاجتماعي البحت؛ فثمّة تقنينٌ سلعي للحبّ. الحبّ عندهم رياضة وليس شغفاً. بالنسبة إلى معظم الأفلام الأميركيّة، الحبّ صحبة وصداقة بالمعنى “الرياضي”، المرح والسطحي. وأنا أرفض هذه الصفات التي ظاهرها “صحّي” وحقيقتها قتّالة للرغبة والذات الداخليّة.

= ماذا تقول في الحركات النسائيّة؟

– أنا كنت ولم أزل حذراً من الحركات النسائيّة المطلبيّة، لأنها تجعل من المرأة حزباً سياسيّاً واجتماعيّاً مواجهاً للأحزاب الأخرى، و”تؤلّينها” على غرار ما “ألّينها” الرجل عبر الأجيال. أنا مع المرأة ككائن جمالي، حتّى لا أقول حسّي أو عاطفي، ولا أقبل بالتخلّي عن هذه النظرة للمرأة. إنّها قطب الحلم والرغبة، هي المدار الذي أحلّق فيه؛ وإذا انتفت المرأة أن تكون قطباً أو مداراً، فماذا ستكون أفضل من ذلك؟ وماذا سيحلّ محلّ هذه النظرة إليها؟. كائناً ما كان البديل من هذه النظرة، فسيكون شرّاً للبشر والحضارة.

ثمّة من جهةٍ أخرى وضعٌ تاريخي خاطىء أو ظالمٌ للمرأة، وعليها التخلّص منه. والمسؤول عن ظلمها بشكلٍ أساسيّ هو الرجل، لكنّ الرجل لم يظلمها عندما اعتبرها محطّ أحلامه ورغباته. إنّها وعدُه، فلماذا يريد بعض الحركات النسائيّة تحطيم هذا الوعد، بحجّة أنه يحوّل المرأة “غرضاً حسيّا”؟!. إنّ أكثر ما يخيفني في المنطق النسوي المذكور هي هذه الهرولة إلى تحويل المرأة رجلاً، أو بالأحرى رميها في وحول السلطة التي يتمرّغ فيها الرجل، ظانّاً أنّها كلّ المجد، والتي يحلم بعض النساء ببلوغها ظانّاً أنّها هي التي تعيد إليهنّ الحقوق المسلوبة.

إنّ الحقوق التي سُلبت من المرأة كثيرة وخطيرة، أهمّها الحريّة، لكنّني لا أريد أن تربح المرأة الحريّة وتخسر نفسها، تخسر شروط أنوثتها وما يؤلّف تأثيراتها السحريّة. قد تتوق المرأة إلى الخلاص من عبء هذه الأنوثة وتلك التأثيرات، ولكن يجب أن يظلّ فيها من الحدس، وأن يظلّ بيننا من الأحداث، ما يتكفّل بتنبيهها إلى خطر المغادرة من مناطق سلطانها الأكيد، مهما بدا لها رتيباً في بعض الأحيان أو مُتعِباً، أو مقيّداً لها وهي في أوج غليان تحرّرها. إنّه سلطانها الأكيد. وهو هذا السحر القابل للدمار إذا أصرّت على تدميره. ما يجب أن تحتفظ به مهما اكتسبت من حريّات (ولا بدّ من أن تكتسب الكثير منها حتّى تتعادل مع الرجل) ولا تفرّط بشيء منه، بل بالعكس تنمّيه وتوسّع أفاقه على دروب الجذب والفتنة والالتباس واللعب بكلّ النيران والعتمات.

= يقال إنّ المرأة ذات طبيعة كيديّة.. بماذا تعلّق؟

– الكيد سلاحٌ من أسلحة الضعفاء، والمرأة عندما تُستضعَف قد تلجأ إليه. تماماً مثل الرجل عندما يُستضعَف. أنا ضدّ هذه النعوت الآتية من أجواء الآداب الكلاسيكيّة. فساعةً المرأةُ لئيمة ودسّاسة، وساعةً هي محتالةٌ وشيطان حرون، لماذا؟ أليست هذه صفات إنسانيّة عامّة يشترك فيها الرجل؟

الفلاسفة نقموا أكثر من الأدباء الكلاسيكيين على المرأة: “توما الأكويني”، “أغوسطينوس”، “شوبنهاور”، “المانويّون” وحتّى “هيغل” في الحقبة المعاصرة، وإن بدرجة أخفّ. بعيداً من النقمة “العقائدية” ترتدي النقمة على المرأة قناع البغض أو الاحتقار، ولكنّ مضمونها الباطني يكون أحياناً هو الحبّ. هذه النقمة هي خيبة الأمل، اليقظة المرّة من الحلم، مَثَلي الأكبر على ذلك هنا هو “بودلير”.. لم يقل أحد ضدّ المرأة أعنف ممّا قال، ومع هذا يظلّ “بودلير” نفسه صاحب هذه الكلمة الرائعة: “المرأة هي الكائن الذي يرمي أكبر ظلٍّ أو أكبر نورٍ في أحلامنا”.

وكما أنّ للانخطاف بالمرأة ما يبرّره، كذلك للنقمة عليها ما يبرّرها، بقدر ما نعلّق عليها من آمال، تكون الصدمة أنّني أقبل شعور المرارة أو القهر تجاهها، وأفهم أن يكرهها الرجل، وأن يسعى إلى استعمالها مجرّد أداة لملذّاته. ولكنّي ما لا أقبله، هو أن يظنّ الرجل نفسه متفوّقاً عليها، فيحتقرها ويستهزء بضعفها. إنّ ثمّة نظرة فلسفيّة ساخرة، متهكّمة، صفراء إلى المرأة، إن كانت تكشف عن شيء، فعن جهلٍ تامّ بنفس المرأة وطاقتها معاً، فضلاً عن مفهومٍ لمعنى الحياة أرفضه بحذافيره. قد نجد بعض جذور هذه النظرة في الفلسفة الإغريقيّة، وجانب من الفكر الأوروبي أعاد إحياء هذا الإرث، مضيفاً إليه، خصوصاً في المانيا، تمجيداً للقيم الذكريّة بلغ أوجه التجسيدي مع قيام الحزب/ الفحل.. والدولة/ الفحل.

أنا أيضاً أنقم على المرأة أحياناً، وأكرهها وأبيّت لها الشرور في بعض الأحايين. ومآخذي عليها كثيرة، وهي في ازدياد، وبعضها مآخذ تُشعرني بغربةٍ حيالها. ولكن كلّ هذا من ضمن نظام فكري وحياتي يعتبر المرأة ركنه الأساس، لا من ضمن نظام تجريدي وعنصري ينبذها أو يدور خارجها.

= بعد خبرتك الحياتيّة الخصبة والطويلة، ما الجوانب التي اكتشفت أنّ المرأة تحبّها فيك، شاعراً؟

– لا أحبّ أن أجيب عن هذا النوع من الأسئلة.

= هل تلعب مع المرأة لعبة ممارسة إنّك “قوي” و”حاسم” في موقفك الضمني منها؟

– في هذا الموضوع، يكون الإنسان لعبةً ولاعباً معاً. أحياناً يكون مجرّد لعبة، ولعلّها المتعة الكبرى.

بخصوص “القويّ” و”الحاسم”، ومع إنّي لا أحبّ الدخول في تفاصيل من هذا النوع، أعتبر الحديث فيها ابتذالاً وتجويفاً. أذكر فقط، إنّ أغلب الأدوار التي لعبت، كانت أدوار الضعف والسلبيّة، لا القوّة ولا الحسم، إنّ أكثر ما أكرهه وأرفضه في العلاقة مع المرأة، هو أن أشبه سائر الرجال، ذوي القبضات الحديد والحضور الإرهابي. إنّ أفضل علاقاتي كانت علاقات التواطؤ، لا علاقات السيطرة، وهذا ما أتمنّاه لسواي.

= عن أيّ شيء تبحث في المرأة بالإضافة إلى الأنوثة والجمال على وجوهه فيها؟

– عن إدامة الرغبة حيّة والنشوة متأجّجة، وعن الصدق.

= وعن أيّ شيء أيضاً؟

– عن نقطة، عن مكانٍ لا أعود أجد فيه نفسي مغترباً عن المرأة في أمور المخيّلة الإيروتيكيّة.

= أإلى هذا الحدّ هي غربتك يا أنسي؟

– قلت لك، أنا أيضاً لي مآخذ على المرأة، ومآخذ جدّية. فهي في “الإيروتيسم”؛ غالباً ما تشدّ بها واقعيّتها بعيداً من تخيّلاتي، ورغبتها الحسيّة أكثر عمليّة ممّا يجب، وأقلّ جنوناً ممّا أريد. المرأة في هذا الميدان ذات نزعة مؤسّساتيّة “بورجوازيّة” إن شئت، الرجل أكثر ثوريّة، أكثر انعتاقاً من الزمن. هي مع الديمومة، وهو مع العبور. وحلمي هو إقامة توازن بين الموقفين، وحتّى يتحقّق مثل هذا التوازن، تراني هنا في حالة الأقرب إلى موقف الرجل منه إلى موقف المرأة.

= يبدو لي أنّك فاشل بعلاقتك بالمرأة؟

– حياتي عبارةٌ عن سلسلة فشل مع المرأة؛ إنّها سلسلة نهايات متّصلة ببدايات. ولولا ذلك، لكنت اكتفيتُ ربّما بعلاقةٍ واحدة طوال حياتي.

= أفهم أنّك لا تمارس “الشهرياريّة”؟

– في داخل كلّ رجل شهريار ما.

= إلى أيّ مصدر تعزو مشكلات الحبّ؟

– إنّها كثيرة، ولعلّ انغلاق المحبّ والاستئثار بالمحبوب هو أوّلها. فعندما يرزح المحبّ تحت مغالاة نزعة الغيرة والتملّك، تنفتح أبواب الجحيم.

= أمام مَن تمارس مسؤوليّة الحب؟

– أمام “سلطة” الحريّة.

= لماذا لعبة الحبّ وكفاحه تتضمّنان دوماً عنصراً مسرحيّاً؟

– كلّ صراع يفترض مسرحاً. والمهزلة الإنسانيّة بطلة نفسها على مسرح نفسها.

= أنسي، يقال إنّنا في عصر تذكير الأنثى وتخلّيها عن طبيعتها الأصليّة.. إنّها تنعتق لتسترجل.. ما تعليقك؟

– لا أحبّ للمرأة أن تضيع وتسترجل في حمّى السباق نحو السلطة. فالرجولة ليست حلّاً للمرأة.

الآن، وبعدما اكتشف الرجل أنّ رجولته كارثة، وبعدما بدأ يستقيل منها، اندفعت المرأة نحوها. إنّ حالها هنا تشبه حال ذاك الذاهب الى الحرب، فيما الآخر عائد منها.

= أتعتقد فعلاً أنّنا نعيش عصر الاستقالة من الرجولة؟

– في الغرب نعم.. الرجل يستقيل من “الرجولة”. بالمعنى الاستبدادي، الديكتاتوري لكلمة رجولة.

= وإلى أين يا صديقي؟

– آمل نحو توازنٍ جديد بين الجنسين.

ما يتبلور هنا، هو اكتشاف المرأة لذاتها الحسيّة والعاطفيّة والعقليّة أكثر فأكثر، واكتشاف الرجل لذاته المماثلة أكثر فأكثر، وبالتالي معرفة كلّ منهما لطاقاته وحدوده. وأنا واثق أنّ المرأة ستخرج من هذا الاكتشاف منذهلة بقدراتها التي كبتها الحذف والقمع، وسيكون الرجل أكثر الذاهلين.

في المجتمعات البدائيّة كانت المرأة هي التي تتولّى حماية المجتمع.. تذهب إلى الصيد والحرب… إلخ. ثمّ جاءت التراكمات الحضاريّة لتوطّد شيئاً فشيئاً سلطة الرجل؟

المرأة المحاربة ليست في طموحي أبداً. وحال المرأة في المجتمعات القديمة، كانت، ولا شكّ، أسوأ بكثير من حالها اليوم: مجتمع إرهاب، حروب وسلطة؛ فإذا كانت المرأة تطمح إلى استعادة مثل هذه الأجواء، فإنّ الأمر سينقلب إلى كارثة، وعلى الدنيا السلام، المرأة ينبغي أن تظلّ رمزاً لشهوة الحياة لا لشهوة الموت.

الرجل بنى حضارة الموت، حضارة القتل، حضارة الحرب، حضارة الغزو والنهب والاضطهاد. وإذا كان من طموح المرأة مجاراة الرجل في ذلك، فالأفضل إذ ذاك أن تبقى هذه الفواجع محصورةً بالرجل. إنّني حين أزكّي المرأة على الرجل، فلأنّها في نظري تمثّل السلام محلّ العنف، واللين محلّ القسوة، والمتعة محلّ الواجب، والجمال محلّ الفعالية، والسحر محلّ السلطة.

= لنفترض أنّ المرأة تسلّمت سلطات إدارة العالم، فكيف سيكون عليه المشهد من منظورك؟

– أنا أدعو إلى أن تحكم المرأة العالم بدل الرجل. ولكن المرأة هنا كما أفهمها بصفاتها الإيجابيّة التي أكّدنا عليها، لا بتلك الصفات المستنهضة لحالات الرجولة البشعة.

فغولدا مائير، مثلاً، بماذا تختلف عن دايفيد بن غوريون؟ ومارغريت تاتشر بماذا تختلف عن تشرشل؟

أريد من المرأة عندما تتبوّأ سلطة أن تتصرّف كامرأة، وليس كرجل. ألا ترى أنّها أحياناً تزايد عليه، انطلاقاً من عقدة التفوّق الكامنة؟

= هل العقل هو واحد بطاقاته لدى المرأة المتفوّقة كما لدى الرجل المتفوّق؟

– معروف أنّ المرأة تستطيع تحمّل الألم أكثر من الرجل. تصوّر كم المرأة أقوى وألطف في وقتٍ واحد. تملك كلّ هذه القوّة ولا تمارس عدواناً. أكثر من ذلك، إنّها تحتمل غطرسة الرجل بعذوبة. وهذا بعض ما تعبّر عنه قصيدتي “الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع”. فالكتاب ليس نشيداً ذاتيّاً طوباويّاً، كما قد يتصوّر البعض. إنّه كتاب التجربة. ولنعترف: نحن أكثر من متسلّطين على النساء، متسلّطون ونظنّ أنفسنا أنّنا محور الكون، وأنّ من واجب النساء أن يعجبن بنا. يكفيهن اقتداراً أنهنّ يتحملن نرجسيّتنا.

المرأة أقوى من الرجل بالمعنى الجميل لكلمة قوّة: قوّة النفس والروح والعطاء والاستيعاب والإصغاء والتفهّم والجذب.

= إيقاع الحبّ الأوّل الذي صادفته في حياتك يا أنسي، هل هو أجمل بكثير من إيقاعك الحالي مع امرأة جديدة؟

– الحبّ الأوّل كان أكثر اختلاجاً وتوجّساً، ولكنّه كان أقلّ محبّة.

= المرأة التي صدّتك، هل حقدت عليها؟

لم أعرف في حياتي إلّا علاقات متبادلة، ولا أؤمن بالحبّ من طرف واحد.

= ألديك المقدرة الدائمة على الإشفاق على نفسك؟

– نعم، وشفقتي هنا هي شفقة الناظر إلى خطاياه.

= هل تبالغ في عشقك؟

– وما العشق إن لم يكن هو أقصى المبالغات وأقصى المغالاة؟!

= ولكن قد يتحوّل العشق إلى عادة تفقد ألقها ونزعتها إلى الإبداع؟

– العشق حالةٌ متجدّدة في استمرار، حالة مثل الحياة لا تعرف النهاية، وهو في كلّ مرّة ولادة جديدة.

= ولكنّ النفس العاشقة قد تنفجر لتنكسر تحت ثقل العصر واضطراباته؟

– إذ ذاك يكون الخلل في العاشق نفسه، وليس في العشق. العاشق الحقيقي فيه ما هو أكثر من الإنسان.

= الشاعر يتعرّض لأذىً يومي.. يُحسّ أحياناً أنّ الناس من حواليه هم عبارة عن جريرة لزوم ما لا يلزم؟

– أشدّ أنواع الأذى، هو حين يتعاطى الناس معك من خلال صورة خاطئة عنك. هذا أبشع أنواع الأذى، ويليه التعامل مع صورتك الحقيقيّة بطريقة ظالمة.

= هل الكتابة عزلة تحمينا يا أنسي؟

– العزلة جزء لا يتجزّأ من “ميكانيزم” الكتابة، من دونها لا تستطيع الكتابة، وكلّ اشتراك في الضجيج الخارجي، هو تبديد لطاقة الكتابة.

= هل أنت شاعر ينضوي على العالم الحديث والعالم القديم في آن معاً؟

– حركة الشاعر هي دائماً على توثّب في كلّ الاتجاهات. والماضي جزء من الحاضر والمستقبل على قاعدة المجهول الدائم. وهنا تراني أقول إنّ الزمان كلّه أوان: الماضي أوان، الحاضر أوان، المستقبل أوان، ودائماً الشعر هو أوان قارئه، ولا يعرف هذا القارىء مع القصيدة إلّا الأوان، حتّى ولو لم تظهر القصيدة بعد، حتّى ولو كانت أبعد من المسافات التي تمدّها السماوات.

= هذا الكائن البعيد الذي هناك، هل هو أنت أيضاً يا أنسي؟

– نعم هو أنا، فمرحباً به يا صديقي أحمد. مرحباً بالموت الذي هو هناك، أو هو هنا.. لا فرق. لن أخشاه البتّة. ربّما كان هو الهديّة المجهولة المنتظرة. سأتلقّفها وأقلّبها، أو بالأحرى سأتلقفه وأقلّبه من جهاته جميعاً، وبكامل الثقة المالكة للأشياء من حواليها.

= لنعد إلى أجواء المرأة والحبّ.. هل المرأة هي حظّ العالم في النتيجة؟

– إنّها غيبوبتي عن العالم، وصحوتي في حلمي وقد تحقّق ولم يزل حلماً.

= أخيراً أسألك يا أنسي.. ماذا تحبّ أن تسأل؟

– “اللا شعر” أسألك، هل قد يكون أحياناً في قلب الشعر أكثر من الشعر نفسه؟

– “اللا شعر” يا صديقي الكبير، هو سمٌّ يُميت، ولكن لكي يتعافى الشعر.. والشاعر معاً.

***

*شاعِر وكاتِب من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *