باسكال بونيفاس ونهاية الاحتكار الغربيّ للهَيْمَنة

Views: 696

ترجمة: رفيف رضا صيداوي*

 

“نحو عالَم متعدّد الأقطاب”، هو عنوان المُقابلة التي أجراها الصحافيّ جان-ماري بوتييه Jean-Marie Pottier مع العالِم والباحث السياسيّ الفرنسيّ باسكال بونيفاس Pascal Boniface ونُشرت في مجلّة “العلوم الإنسانيّة” (Sciences Humaines)، في عددها (رقم 332) الصادر في كانون الثاني/ يناير 2021. وقد جاء اختيار هذه المُقابَلة لما تنطوي عليه من قراءةٍ غنيّة ومُضيئة لصراع الأقطاب والتغيّرات على صعيد العلاقات الدوليّة.

بالنسبة إلى العالِم والباحث السياسيّ الفرنسيّ باسكال بونيفاس، انتقلنا في خلال ثلاثين سنة من نظامٍ ثنائيّ القطبيّة إلى نظامٍ متعدِّد الأقطاب، يُعلن نهاية الاحتكار الغربيّ للسلطة.

اتّسمت بداية تسعينيّات القرن الفائت بنهاية الحرب الباردة. هل يُمكننا، بعد ثلاثين سنة، الكلام على حربٍ باردة جديدة ستنشأ بين الولايات المتّحدة والصين؟

لن أُقارن بالضرورة بين هاتَين اللّحظتَين. نهايةُ الثمانينيّات كانت علامةً على نهايةِ عالَمٍ ثنائيّ القطبيّة: شكَّل التطوُّرُ ظاهرةً مُفاجئة، وكان بمثابة ثورةٍ استراتيجيّةٍ لم يشهد العالَم إلّا ما نَدَرَ منها من قَبل. أمّا اليوم، فنحن بالأحرى، في مرحلةٍ طويلة من إعادة التشكيل. لن يكون للتجاوُز الوشيك للناتج الإجمالي المحلّي للولايات المتّحدة من قِبَلِ الصين مثلاً الدلالةُ نفسُها لتلك التي اكتسبها انهيار الاتّحاد السوفياتي. ولا يسعنا الكلام حقّاً على حربٍ باردة جديدة طالما أنّ الصين ليست على رأس تحالُفٍ عالَميّ غايته قَلْب التحالُف الأميركي: إذ تتمثّل الصين باحتلال المَرتبةِ الأوّل فقط، والتي لن تحتلّها بالضرورة، لأنّها لن تُمارس الجذب الثقافي نفسه الذي تُمارسه الولايات المتّحدة، ولأنّ هذه الأخيرة ستستمرّ في عرض قوّتها.

إنّ أحداثاً مثل حدث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ أو انتخاب دونالد ترامب، هزَّت بقوّة السنوات الثلاثين الأخيرة. فهل أفضى ذلك كلّه إلى تغيّراتٍ جيوبوليتيكيّة أساسيّة؟

الأحداث التي تذكرها هي أحداثٌ تاريخيّة ومهمّة، لكنْ لم يؤدِّ أيٌّ منها إلى عالَمٍ مُختلفٍ جذريّاً عن ذاك الذي كان قائماً من قِبل. فالحادي عشر من سبتمبر مثلاً اعتُبر خطأً، برأيي، كمنعطفٍ استراتيجي: تعرَّضت الولاياتُ المُتّحدةُ الأميركيّةُ لضربةٍ قاسية ترافقت مع صدمةٍ عاطفيّة رهيبة، لكنّها لم تُغيِّر سياستها بشكلٍ كامل. الهوّة التي كانت تفصلها عن المُجتمعات الإسلاميّة كانت قد بدأت بالتوسُّع قبل ذلك التاريخ؛ فالقصف على العراق كان يتمّ منذ العام 1998 من دون ضوء أخضر من الأُمم المتّحدة؛ والمُحافظون الجُدد كانوا يُطالِبون من قبل بإسقاط صدّام حسين. انضمام الصين إلى منظّمة التجارة العالَميّة في العام 2001 نفسه، في الوقت الذي كانت تُشكِّل فيه حوالى 10 في المائة من الناتج الإجمالي المحلّي الأميركي مقابل الثلثَين اليوم، ربّما كانت له نتائج عالَميّة أكثر أهميّة من تلك النّاجمة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر… وإذا كنّا قد حاولنا التأرِخة لنهاية العالَم الثنائيّ القطبيّة بتاريخ سقوط حائط برلين في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، فإنّه لا يُمكننا أن نُحدِّدَ بدقّةٍ تاريخَ التغيُّر الأكثر أهميّةً للأعوام الثلاثين الأخيرة، المتمثِّل بنهاية الاحتكار الغربي للسلطة، والانتقال إلى عالَمٍ متعدّد الأقطاب أو الذي هو في طريقه إلى أن يغدو كذلك.

ما هي اليوم أبرز خطوط التصدُّع أو الانقسام التي تقسّم المُجتمع الدولي؟

في زمن الحرب الباردة، تجاوَزَ الانقسامُ شرق – غرب سائرَ الانقسامات، حتّى الانقسام شمال – جنوب. اليوم، نلاحظ وجود انقساماتٍ متعدِّدة: انقسام بين الديمقراطيّات والأنظمة التوتاليتاريّة القليلة جدّاً، وما بينهما من أنظمة مؤلَّفة من ديمقراطيّات منقوصة وأنظمة سلطويّة. وهناك أيضاً الانقسام الاقتصادي بين البلدان الأقلّ تقدّماً، والبلدان المتقدّمة والبلدان التي نشأت أو النّاشئة. وهناك خطّ انقسام آخر جيوستراتيجي مهمّ بين مَن هُم على قناعة بأنّ تعدّديّة الأطراف هي واجب، وبين الذين يرون أنّه بإمكاننا تجاوزها أو الاستغناء عنها. هذا الانقسام يأتي ليدفع بقوّةٍ الانقساماتِ السابقة، لأنّ الصين، ذات النظام الاستبدادي، مُتعدّدة الأطراف على طريقتها، في حين أنّ الديمقراطيّات الأميركيّة أو البرازيليّة هي ديمقراطيّات أحاديّة.

قبل عشر سنوات، في زمن “الربيع العربيّ” أو “الربيعات العربيّة”، رَسَمْنا مُستقبلاً مُشرقاً للديمقراطيّة. اليوم، هو زمن الخوف من تصاعُد الـ “لّاليبراليّة”…

إنّها ظاهرةُ مدٍّ وجذْر؛ فأولئك الذين اعتقدوا أنّ الأنظمةَ العربيّة سوف تسقط واحداً تلو الآخر لتصبحَ ديمقراطيّات على النموذج النرويجي، ربّما كانوا قد أخذوا رغباتهم على أنّها حقيقة! مصر غدت أكثر قمعيّةً ممّا كانت عليه تحت حُكم حسني مبارك؛ الديمقراطيّة الأميركيّة يبدو أنّ تَلَفاً كبيراً قد أَصابها نسبةً إلى ما كانت عليه خلال 2010 – 2011؛ البرازيل لم يعُد لها علاقة كبيرة بما كانت عليه في عهد الرئيس لولا، عندما كانت دولةً تقدّميّةً سواء على الصعيد الوطني أم الدولي… لكنّنا نشهد في الاتّجاه المعاكس، وإلى حدٍّ كبير في كلّ مكانٍ في العالَم، تعبئات ديمقراطيّة. حتّى الاستبدادي تشي جين بينج في الصين، بات عليه مُراعاة ضغط الرأي العامّ في مُواجَهة التلوّث، والفساد، أو جائحة كوفيد-19. إذا ما نظرنا إلى الصورة العامّة، قد تبدو إذن أقلّ جاذبيّةً ممّا كانت عليه في العام 2010. لكن على المدى الطويل، ومع تراجُع عدد الأنظمة التوتاليتاريّة، أعتقد أنّ الدمقْرَطة ستفوز في تلك البلدان، حيث لا يُمكن الرجل انتقادَ النظام حتّى مع زوجته.

كيف تحلِّل سلوك الولايات المتّحدة أمام دَورها كقوّة أولى في العالَم منذ 1990؟

بعد انتهاء الحرب الباردة، فوَّتَت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ إمكانيّةَ قيام العالَم المُتعدّد الأقطاب. ففي تركيزها على أوروبا الشرقيّة، لم تنظر صوب الجنوب، صوب البلدان النّاشئة، وهو الأمر الذي أوصلها إلى أخطاءٍ فادحة. والكِتاب اللّافت لستيفن والت The Hell of Good Intention (2018) ،Stephen Walt، يُلخِّص كيف أنّ الرؤية المُهيمِنة للديمقراطيّة اللّيبراليّة من قِبَلِ الولايات المتّحدة الأميركيّة، والمُشترَكة أيضاً بين الديمقراطيّين والجمهوريّين، قادتها إلى التدخُّل في كلّ مكان، مع إخفاقاتٍ مدوّية، كما حصل في العراق وليبيا. نحن لا زلنا في مرحلة يظنّ الأميركيّون فيها أنّهم قادرون على فرْضِ تصوّرهم وإرادتهم وأجندتهم على البلدان الأخرى، لكنّ دونالد ترامب، كما باراك أوباما من قبله، فَهِمَ أنّ الحربَ لا تُشكِّلُ وسيلةً لبلوغ ذلك. لقد فكّرَ، ربّما ليس خطأً، أنّ الضغوط الاقتصاديّة هي أَنجع الطرق. هو غيَّرَ الطريقة من دون أن يُغيِّر الهدف. جو بايدن سيكون أقلّ فظاظة، وأقلّ خشونة من دونالد ترامب. وسيكون أيضاً أقلّ أحاديّةً. لكنّه سيُصبح كذلك. لن يُلغي بايدن، مثلاً، التطبيق الاستثنائي للقانون الأميركي، الذي سمح للولايات المُتّحدة بإدانة الشركات الأوروبيّة التي تتعامل مع إيران أو السودان.

يبدو أنّ الاتّحاد الأوروبيّ يعاني من أزمة هويّة متكرّرة منذ ثلاثين عاماً. كيف تحكم على ديناميّته الحاليّة؟

الاتّحاد الأوروبي أَضعفته أنظمة غير ليبراليّة، مثل هنغاريا فيكتور أوربان، أو الدول التي تعتمد من أجل أمنها على الولايات المُتّحدة فقط، مثل دول البلطيق أو بولندا، لكنّه يشهد للتوّ لحظةً مهمّة: اعتماد خطّة إنعاش للتعافي من جائحة كوفيد-19، وذلك بالتّزامُن مع إنشاء مفوّضيّة أوروبيّة تدّعي أنّها أكثر طموحاً بكثير من السابقتَين. ومن دون خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي (بريكست) أيضاً، لم يكُن من المُمكن اعتماد هذه الخطّة بسبب مَركز الثقل الذي تمثّله المَملكة المتّحدة، فضلاً عن البلدان الأربعة “المُقتَصِدة” (هولندا، الدنمارك، السويد، النمسا). مع خروج بريطانيا، لم تُحرم أوروبا من مُسرِّعٍ للأمور، بل إنّها تخلَّصت من كابِحٍ لها.

في كتابكَ الأخير، تكتب أنّ جائحة كوفيد-19 أعطت قوّةً جديدة لعددٍ من الرّهانات الاستراتيجيّة. فبأيّ معنى تقول ذلك؟

للمرّة الأولى تخشى الإنسانيّةُ الشيءَ نفسه. لكنّها لم تتفاعل بشكلٍ مُشترَك ويُمكننا أن نُقارب المسألةَ وأن نُقارِنها بالخطر المُناخي، ذاك الخطر العالَميّ الذي تتفاعل معه الإنسانيّةُ من خلال مواقف إفراديّة. قد يكون الوباءُ قد أعطى دفعةً لتسريع البناء الأوروبي، وذلك بالتصويت على خطّة إنعاشٍ طموحة، لكنّه سلَّط الضوء أيضاً على أزمة التعدّديّة، وأضفى بشكلٍ تامّ طابعاً رسميّاً على المُنافَسة الصينيّة الأميركيّة، التي ستكون الموضوع الاستراتيجي الرئيس للأعوام العشرة أو الخمسة عشر المقبلة.

***

(*) مؤسّسة الفكر العربي

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *