ثلاثون عاماً على رحيل زكي نجيب محمود

Views: 10

صلاح سالم*

يكاد زكي نجيب محمود (رحل عن عالَمنا قبل ثلاثين عاماً في أيلول/ سبتمبر 1993) يمثّل في الفكر العربيّ ما يمثّله نجيب محفوظ في الأدب العربيّ، فكلاهما يُجسِّد الأنموذج الكلاسيكيّ للمُبدع الذي يصبغ عصره بصبغته هو، فيكون عَلماً عليه. وكلاهما طال به العمر، وكَثُرَ إنتاجه، وصاغَ مدرستَه على مهلٍ وفي حِكمة، على عكس آخرين لم تنطوِ مَواهبهم على حكمة الاستمرار وملكة الانتظام، فكانوا كالشهاب الخاطف سرعان ما ينطفئ.

وكلاهما أيضاً عاشَ مراحل إبداعيّة مُختلفة، إذ مرّ على محفوظ نزعاتٌ تاريخيّة، وواقعيّة/ اجتماعيّة، ورمزيّة، بينما توالت على زكي نجيب محمود نزعاتٌ صوفيّة، ووضعيّة، وصولاً إلى المرحلة “التوفيقيّة” التي مثّلت مَوجةً ثالثة “جدليّة” في تيّار الفكر العربيّ الحديث، إذ مثّلت دعوة للنهوض كما أرادت المَوجةُ الأولى/ الإصلاحيّة في القرن التّاسع عشر، تلك التي يَقف على رأسها رفاعة الطهطاوي وخير الدّين التونسيّ، وقد صاغَ منطقَها الإمام محمّد عبده. وكذلك دعوة للانفتاح على الآخر، كما أرادت المَوجةُ الثانية/ العلمويّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، التي يقف فرح أنطون وشبلي شميّل وإسماعيل مظهر على رأسها، وقد صاغَ منطقَها سلامة موسى.

المانيفستو التوفيقيّ

على منوال موسى بن ميمون في تاريخ الفكر اليهوديّ، وابن رشد في الفكر الإسلاميّ، الّلذَيْن صاغا منطق العلاقة بين العقل والإيمان في مراحل تحوّل كبرى داخل ثقافاتهما، يقف د. زكي نجيب محمود على قمّة المَوجة التوفيقيّة في الثقافة العربيّة. نعترف أنّ عديدين سبقوا الرجل على طريقها، غير أنّ دعوتهم إليها بقيت مُتناثرة، رهينة تعبيرٍ أدبيّ ما في روايةٍ على منوال نجيب محفوظ، أو خبيئةَ نزعةٍ فنيّةٍ رومانسيّةٍ أقرب إلى الحدس الصوفيّ منها إلى التحليل العقليّ على منوال مفهوم “التعادليّة” لدى توفيق الحكيم في كتابه تحت العنوان نفسه، فلم تستقرّ في مشروعٍ كبير يمتدّ بعُمر صاحبه كما استقرّت لدى الفيلسوف الرّاحل الذي تمكَّن من صَوْغِ منطقها بدأبٍ وحذق كبيرَيْن. يبدأ المشروع بكتاب “تجديد الفكر العربيّ” الذي صدر في العام 1970، وينتهي تماماً بسيرته الذاتيّة “حصاد السنين” 1993، وإن كان قد اكتملَ موضوعيّاً بكتاب “عربيّ بين ثقافتَيْن” 1992 الذي رَسَمَ فيه الملامح النهائيّة لإنسانٍ عربيّ يَجمع بين ثقافة العصر العلميّة، والوجدان القوميّ الخالِص، أي بين الأصالة والمُعاصَرة. لكنّ المهمّ الآن، هو كيف يتمّ استيعاب التراث في العصر؟ لا شكّ في ضرورة الفَرْز والانتقاء، ثمّ إعادة البناء والتركيب، وهي ملامح الاستراتيجيّة التوفيقيّة التي تنهض لدى الرجل على محورَيْن: الأوّل: أفقيّ حيث يتجوّل في مكوّناتِ الثقافة الإنسانيّة ليُميِّز داخلها بين أربعة أنساقٍ أساسيّة: الدينيّ/ الاعتقاديّ، ثمّ الأدبيّ/ الفنّيّ، ثمّ الفكريّ/ القيميّ، وأخيراً العلميّ/ التجريبيّ، تختلف نِسَبُ الأصالةِ والمُعاصَرةِ في ما بينها، بحسب درجة التبايُن في معايير صدق كلٍّ منها على مؤشِّرٍ نفترض أنّه يتحرّك من صفرٍ إلى واحدٍ صحيح. فعلى سبيل المثال يُمثِّل الدّين، كمكوِّنٍ اعتقاديّ، مَصدره الكتاب المقدَّس، الحدّ الأقصى للأصالة والهويّة، ومن ثمّ يحقّ للعقل العربيّ أن يتمسّك إزاءه بخصوصيّته الكاملة، إذ لا سبيل هنا إلى مُعاصَرةٍ اللّهمّ سوى القدرة على تأويل النصوص بتوظيف المعارف اللّسانيّة والبلاغيّة الحديثة. أمّا العِلم الطبيعيّ، ووسيلة إدراكه هي العقل، فيمثِّل الحدّ الأقصى للمُعاصَرة والكونيّة، ومن ثمّ يتعيَّن مُمارَسته بموضوعيّةٍ وحيادٍ دونما اكتراثٍ لنزعاتٍ عبثيّة من قبيل أسْلَمة العلوم. وفي ما بين الحدّ الأقصى للأصالة (الدّين) وللمُعاصَرة (العِلم) ثمّة نسقان وسيطان. الأوّل، وهو الفكر الإنسانيّ، تمدَّد فضاؤه واتَّسع عبر محاولة العقل البشريّ الإجابة عن أسئلة الواقع المعيش، حيث انضوت إجاباته، إمّا على مفاهيم كونيّة كالحريّة والعقلانيّة والعدالة، يُمكن الادّعاء بأنّ التاريخ البشريّ قد تحرَّك صوبها عبر جهودٍ اندرجت فيها كلّ المُجتمعات المتمدّنة. وإمّا على قيَمٍ أخلاقيّة استقتها المُجتمعات المُتمدّنة نفسها، ولكن من هدي تجربتها التاريخيّة أو حتّى من نصوصها الدينيّة، ففيها قدر من الذاتيّة، تحتلّ معه مَوقعاً تالياً للعِلم الطبيعي في سلّم المُعاصَرة. وأخيراً يأتي مُركَّب الأدب والفنّ تالياً للدّين على مؤشّر الأصالة والهويّة، كونهما ينبعثان من ذائقةٍ ثقافيّة تنغرس في التجربة الحضاريّة الخاصّة بجماعةٍ قوميّة، وإن تَشاركَتِ الجماعةُ في الخبرة الجماليّة مع غيرها، بقدر ما تنتمي إلى المُشترَك الإنسانيّ. فالمُلاحَظ، مثلاً، أنّ الذوقَ العربيّ السائد يفضِّل سماعَ الغناء على إيقاع الموسيقى أكثر من الموسيقى الكلاسيكيّة التي يفضّلها الذوق الغربيّ. ولكنّ تلك الملاحظة لا تصلح مؤشِّراً لإدانة الذائقة الفنيّة لأيٍّ من الطرفَيْن، لأنّ الأحكامَ هنا وجدانيّة. وعلى هذا تُصبح الهويّة العربيّة هي حصيلة اجتهادنا الذاتيّ في فَهْمِ الدّين، ومستوى إبداعنا الجماليّ في الأدب والفنّ، ومدى إسهامنا في الفكر الإنسانيّ، ومحض مُشاركاتنا في النشاط العلميّ الكوكبيّ. وتصير أصالة العربيّ ومُعاصرته نِتاجاً تلقائيّاً لنشاطه سواء حينما يَخضع لواقِع العالَم كما يثبته العِلم، أم حينما يتجاوب مع ذاته الداخليّة كما تصوغها ذائقتُه الثقافيّة.

أمّا الثاني فرأسيّ، حيث تجوَّلَ الرجلُ في طبقات تراثنا، مُثبتاً الوقفات العقلانيّة فيه، لأنّها تجسِّد منهجَ نَظَرٍ يبقى صالِحاً للعصر، ونافياً الوقفات اللّاعقلانيّة التي تُجافي روح العصر. فعلى صعيد النفي، يرفض أوّلًا أن يكون صاحبُ السلطان السياسيّ، هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسيّ، صاحبَ “الرأي”، لا أن يكون مجرّد صاحب رأي، لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم. وهي المشكلة التي طالت كثيرين، منهم بشّار بن برد لشعرٍ أنشده لم يعجب الخليفة المهديّ فقتله، والحلّاج في مأساته الشهيرة حين أَمَرَ الوزيرُ العبّاسيّ علي بن عيسى بضربه ألف سوط، ثمّ بقطْعِ يدَيْه، قبل أن يحرقه في النار لقوله بمذهب الحلول. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل وما لاقاه في ما عُرِف بمحنة القرآن، لقوله إنّ القرآنَ “أزليّ”، ضدّ اعتقاد المُعتزلة في كونه “مخلوقاً”. ويرفض ثانياً انسداد باب الاجتهاد، وانغلاق أُفق الإبداع، حتّى صرنا نميل إلى الدوران في ما قاله السَّلف وما أعادوه ألّف مرّة. ويرفض ثالثاً خضوعَ المنهج العلميّ للخرافة، حيث الإيمان بقدرة الإنسان/ الوليّ صاحب المقام على تعطيل قوانين الطبيعة، واقتصار المنهج على قاعات الدرس في المعاهد والجامعات من دون الحياة العامّة والخاصّة.

وعلى صعيد الإثبات يؤكّد على الكثير من الرؤى النقديّة المؤسِّسةِ لنزعاتٍ عقلانيّة وتحرُّريّة ابتداءً من المعتزلة في القرن الثاني الهجريّ، وبالذّات في ما يتعلّق بمسألة “الفعل الإنسانيّ”. وأيضاً لدى الجاحظ في “رسالة المعاش والمعاد“، حيث يقول مؤكّداً لنمطٍ من العقلانيّة العمليّة “أعلم أنّ الله جلّ ثناؤه خلق خلقه، ثمّ طبعهم على حبّ اجترار المَنافع ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبعٌ مركّبٌ وجبلّةٌ مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجودٌ في الإنسان والحيوان. وعند رسائل “إخوان الصفا وخلّان الوفا” يؤكّد على موقفهم النقديّ من الشريعة التي “دنّستها” الجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلّا بالفلسفة..”. ولدى أبي حيّان التوحيديّ تفريقه بين العقل والحسّ، حيث الأوّل ثابت والثاني متغيّر “أنّ العقل يوصف بشهادة الحسّ، وكذلك الحسّ يوصف بشهادة العقل، إلّا أنّ شهادة الحسّ للعقل شهادة العبد للمولى، وشهادة العقل للحسّ شهادة المولى للعبد”، قبل أن يختتم وقفته بابن رشد أحد أبرز روّاد العقلانيّة العربيّة في نهاية القرن السادس الهجريّ، والذي أَثبت مبدأ السببيّة الطبيعيّة، ضدّ إنكار الغزالي لها، وردّه على كِتاب الغزاليّ “تهافُت الفلاسفة” بكتابه “تهافُت التهافُت“، في ما جسَّد إحدى أبرز المعارك الفكريةّ في التاريخ العربيّ.

كوّة صغيرة في مشروعٍ كبير

إذ نؤمن بأنّ أفضل طريقة لإحياء الفكر هي الجدل معه، فإنّنا نطرح هذا السؤال: لماذا أَحجم د. زكي نجيب محمود عن تقديم نقدٍ جوهريّ للمركزيّة الغربيّة، لم يكُن الأقدر عليه فقط، بل الأحْوَج إليه، طالما كانت الثقافة الغربيّة بكلّ تيّاراتها، هي مَدار اهتمامه في مسعاه لتجديد الثقافة العربيّة. كانت الحاجة إلى هذا النقد ضروريّة في مُواجَهة تيّارٍ فكريّ غربيّ أَخذ يجتهد منذ القرن التّاسع عشر، موظِّفاً المعارف الحديثة، وخصوصاً الأنثروبولوجيّة، في التأكيد على وجود حدود “عرقيّة” بين الغرب والآخرين، كما دعا أرثر دو جوبينو. وقد وَضَعَ نيتشه وهيغل ورينان واشبنغلر طبقاتٍ فلسفيّة ولغويّة وعرقيّة على تلك الحدود حتّى تعالَت وشكَّلَت إيديولوجيا مُتكاملة ادّعت بسموّ الغرب ووحدته واستمراريّته حتّى الآن منذ بداية تاريخه بالمُعجزة الفلسفيّة اليونانيّة‏.

وبدلًا من أن يقوم المفكِّر العربيّ الكبير بنقْدِ نرجسيّة الغرب كي ينقل إلينا عقلانيَّتَهُ خالصةً من أمراضها فيُقنع مُعارضيها الذين برّروا موقفهم بسوءات الغرب أو “جاهليّته”، اكتفى الرجل بتوجيه إصبعه من بعيد، وهو بمعرض الحديث عن صعوبة إمساك الثقافة العربيّة بطرفَيْ ثنائيّة: العِلم – الدّين، قائلًا: “لقد فشل الغرب نفسه في أن يُقيم مثل هذا الّلقاء بين الطرفَيْن، فكان له العِلم، ولكنّه فَقَدَ الإنسان.. ويكفي أن نتتبّع الأدبَ في أوروبا والولايات المتّحدة اليـوم، لنقفَ على ما يحسّه الناسُ هناك في دخائل صدورهم من مَلَلٍ وسأم وضيق وحيرة وضياع”. يُشير الرجل هنا إلى تناقضاتِ الحداثة الداخليّة، وهو جانب مهمّ، غير أنّ النقد الخارجيّ لاستعلائها وعدوانيّتها هو ما يعنينا، على ذلك النحو الذي قدّمته مدرسة “ما بعد الاستعمار” منذ السبعينيّات من القرن الماضي، سواء من داخل ثقافات عالَم ثالثيّة كسمير أمين على رأس مدرسة التبعيّة، أم عالَم ثالثيّة تعيش في الفضاء الغربيّ كإدوارد سعيد في كتابَيْه: “الاستشراق“، و”الثقافة والإمبرياليّة“، أو حتّى غربيّة صرف مثل نعّوم تشومسكي الذي لا يزال يَفضح النرجسيّة الأميركيّة في سعْيِها لوراثة المركزيّة الأوروبيّة، ونظيره هوارد زن في نقده لآليّات تشكيل وبناء الرواية المثاليّة/ الفوقيّة/ المتحيِّزة للتاريخ الأميركيّ، وصولاً إلى روجيه غارودي في نزعته الإنسانيّة الجامعة ضدّ مُمارسات “الإرهاب الغربيّ”، وكذلك يورغن هابرماس في نقده الشامل لمشروع الحداثة الذي ساقته نرجسيّته الشديدة للوقوع في أسرِ تناقضاتٍ لا محدودة، ودعوته إلى بناء حداثة جديدة أكثر قدرة على التواصل مع مبادئها التأسيسيّة.

بل يُمكن القول إنّ الرجل الكبير وَقَعَ “جزئيّاً” في أَسْرِ النرجسيّة الأوروبيّة في كِتابه “الشرق الفنّان” بترويجه لتصوّراتها النمطيّة، حينما تحدّث عن شرقٍ أقصى موحَّد، روحانيّ، أقرب إلى التصوُّف، وعن غربٍ عقلانيّ عِلميّ أقرب إلى الماديّة. وبينهما شرق عربيّ إسلاميّ يَجمع بين الضدَّيْن، مُتجاوزاً ذلك التنوُّع اللّامتناهي في تاريخ كلّ طَرَفٍ وثقافته، مثلما تجاوَزَ مراحل صعوده وهبوطه، ما يعني وقوعه في أسْرِ الصياغات “الشموليّة” التي تؤكّد على وجود حواجز أبديّة عرقيّة/ دينيّة/ لغويّة بين العالَمَيْن، وهو ما يشكِّل جوهر نَزعة التمركُز الغربيّ. لقد كان مُمكناً تبرير إحجام الرجل عن نقد المركزيّة الغربيّة لو كان يكتب بداية القرن العشرين، لكنْ أمّا وأنّه قدَّم وصفته في ظلّ عصر التحرُّر الوطنيّ، فلم يكُن له أن يُحْجِمَ عن تقديم هذا النقد، وإن كانت تلك الكوّة الصغيرة لا تنهض مُبرِّراً لإهمال مشروعه الكبير في نقد الثقافة العربيّة.

***

*كاتب من مصر

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(contentbeta)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *