خمسة وثمانُون حَوْلاً على اغتيال أيقونة الشّعر الإسبانيّ لُورْكَا

Views: 460

د. محمّد م خطّابي*

 

اغتيل الشاعر الاسباني الذائع الصّيت فيديريكو غارسيا لوركا في 19  أغسطس  1936 أيّ منذ 85 عاماً خلت مع بداية إنطلاق الشرارة الأولى للحرب الأهلية الإسبانية التي إستمرّت رحاها تدور بثفالها حتى عام 1939. كان لوركا قد وُلد فى الخامس من شهر يونيو من عام 1898فى  في بلدة ” فْوِينْتيِ بَاكِيرُوسْ ” الأندلسيّة  التي تبعد بضع كيلومترات عن مدينة غرناطة الحمراء .

 

مَنْ اغتال  لُورْكَا؟

 وتمرّ السّنون، ويظلّ السؤال مطروحاً :من ذا الذي إغتال لوركا…؟ وكيف تمّ ذلك…؟ ولماذا…؟ تحتفظ لنا المرويات عن هذه الفترة من تاريخ اسبانيا المعاصر العصيب  بحقائق مثيرة حول مصرع شاعرها الكبير فيديريكو غارسيا لوركا حيث يُروىَ أنّ الشّاعرالأندلسي الكبير” رفائيل ألبرتي” كان قد كشف النقابَ قبيل رحيله عن تفاصيل جديدة عن اغتيال لوركا ،وكيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة وثبات ، يقول في هذا الخصوص: أنّ طبيبًا إسبانيًا يدعى ” فرانسيسكو فيغا دياث ” كان شاهد عيان في مقتل الشاعر لوركا، فقد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق السيارة التي قادت لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون للحرس المدني الإسباني التابع للجيش الوطني. إنّ الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزًا محيّرًا، و قد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب” فرانسيسكو فيغا دياث ” فانّ سائق السيارة إيّاها كان قد زا ره في عيادته في 13 غشت 1936 وحكى له أنّ الأحداث وقعت فى الليل، و قد تعرّف السائق على واحد من الذين تمّ القبض عليهما وهوالشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الإغتيال، و كان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ – حسب الشاعر ألبرتي – كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمن من الخطر الذ كا يحدّق به من كلّ جانب. و أضاف: “إنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، و كان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء” فرَكِب القطارَ إليها ،إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلّ منا يحمل موته معه “.ولقد سمع سائق السيارة الشّاعر لوركا يقول لقتلته : ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا ..؟ ثم ألقى الحرّاس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه – كان رجلاً مُسنّا و أعرج – داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف ممّا زاد في حَنَق الحرّاس حيث ضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور.وأكّد السّائق أنّ إثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها الى جانب لوركا .  

قالت الكاتبة والناقدة المكسيكية ” إِيرْمَا فوينتيس” معلقةً على ذلك:” إنّ الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعونَ شعوبَهم بطابعهم ويجعلون شعبَهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجالَ يجتمعون ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم، و ثقافتهم ،وعلى الرّغم من الخلافات الإيديولوجية، والسياسية ،والمشاحنات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، و قد تصل حدّ الحروب والمواجهة. فكلّ شاعر من هؤلا ء بغضّ النظر عن الزّمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة “مِعزف” كوني متعدّد الأوتار، وإن اختلفت أنغامُه فهو يعزف لحناً واحداً يعظمه كلّ موجود حيّ في أيّ صقع من أصقاع العالم”، وتضيف الناقدة : “وعليه فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمة هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانيةَ جمعاء وليس رقعته الجغرافية وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار، وأمّا إذا اغتيل شاعر ظلماً وعدواناً فانّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفدح وأعمق “.

 

اتركوا بابَ الشّرفة مفتوحاً

يعتبر الشاعر فيدريكو غارسيا لوركا من أكبر وأكثر الشّعراء  الاسبان شعبيةً ،ومن أبرزهم تأثيراً فى الأدب الإسباني فى القرن العشرين. وبالإضافة إلى الجائزة الشعرية العالمية الكبرى التي تنظّم كلّ سنة بإسمه، تقام فى العديد من المناسبات التي تتصادف مع ذكرى ميلاده أو رحيله إحتفالات،وتظاهرات ثقافية، وأدبية، وشعرية، ونقدية هامّة حوله بمشاركة عدّة شعراء إسبان وأجانب ، وتنظّم هذه اللقاءات على وجه الخصوص فى مدينة” فْوِينْتيِ بَاكِيرُوسْ” القريبة من غرناطة وهي مسقط رأس الشاعر في نفس المنزل الذي رأى فيه نور الحياة الذي أصبح اليوم متحفاً له، ولكافة أعماله الإبداعية على إختلافها ،ويضمّ بعض مخطوطاته الشعرية الأصلية القديمة ،وبعض صوره، ورسوماته، ورسائله، وآثاره، ومخلّفاته بما فيه البيانو الشهير الذي كان يملكه فى حياته والذي عزف عليه الشاعر نفسه والعديد من كبار العازفين، والموسيقييّن الإسبان وغير الإسبان.

كما تقام فى تواريخ متفاوته، ومناسبات شتّى فى العديد من مدن إسبانيا وأمريكا اللاتينية ،والولايات المتحدة الأمريكية إحتفالات كبرى  منها مدينة نيويورك حيث كانت الأوساط الثقافية التي تُعنى باللغة الإسبانية وآدابها قد إحتفت بمخطوط ديوان لوركا المعروف “شاعر فى نيويورك “(أنظر مقالي فى “القدس العربي” بتاريخ 18-2-2013 حول هذا الموضوع تحت عنوان” غارسيّا لوركا يعود لمدينة ناطحات السّحاب من جديد ). يقول لوركا فى قصيدة ( وداع) المبثوثة أو المدرجة ضمن هذا الديوان :” إذا متّ فاتركوا بابَ الشّرفة مفتوحاً…” وخلال إحياء هذه الإحتفالات وسواها كان باب الشرفة يظلّ دائماً مفتوحاً كما أراد ذلك الشاعر الرّاحل  قيد حياته .

 

لوركا في نيويورك

هذا الديوان الشهير كتبه لوركا  خلال وجوده بجامعة ‘كولومبيا الأمريكية’ بنيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، وقد نُشر لأوّل مرّة عام 1940 أيّ 4 سنوات بعد مصرعه. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعضَ المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرّحلة في العمق هو هروبه وإبتعاده عن جوّ المهاترات، والمشاحنات والمشاكسات والبغضاء الذي كان قد أصبح سائداً في الوسط الدراسي بمدريد، حيث أصيب لوركا من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، و غمره حزن عميق، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ على الشاعرالغرناطي، إلاّ أنه أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يُوسم بها الأمريكان البيض الأقليّةَ من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخةً مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري في هذا المجتمع الغارق فى التصنيع،والماديات والإغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة إحترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى إعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الاقتصادي، والتطوّر الاجتماعي ،والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.

كان المخطوط الأوّل والأصلي لهذا الديوان  يتألّف من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة ،بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني”خوسّيه بيرغامين” (الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره) إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنجليزية “رولف هومفريس”، وظلّ المخطوط في النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية “مانويلا ساهافيدرا” وفي عام 2003 أمكن لـ ” مؤسّسة غارسيا لوركا” إستعادةَ هذا المخطوط بعد إقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم إشترته أخيراً وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007. من القصائد التي يتضمّنها الديوان:”السّماء الحيّة”،و”البانوراما العمياء لنيويورك’”، و”الموت”، و”غنائية الحَمَام”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل إسم ‘قصيدة الحمائم الحالكة)، و”قصيدة الثور والياسمين”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل عنوان “قصيدة الحلم في الهواء الطلق”، و”أرض وقمر”، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: “ديوان تماريت”، (كذا)، أيّ باستعمال كلمة (ديوان ) كما تنطق وتستعمل في اللغة العربية إلى اليوم.

 

أعدَاءُ الشِّعر والحياة

بدأ لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره وإستمرّ في الكتابة حتى يوم إغتياله عام 1936 و قد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه مثل “كتاب الأشعار” ، و”قصائد غنائية” ،و “القصائد الأولى” ،و “أغاني الغجر الشعبية” ،و “شاعر فى نيويورك” ،و”بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس” ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو إستمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟

قال لوركا عندما كان على بضع خطوات من نهر ” الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل الإسم العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم :

أصواتُ الموت دَقّتْ ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير

أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ

ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه ، وَمَاتَ على جنب . (**)

على الرغم من شَغَفِه بالمسرح وحبّه له ، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، كان لوركا مجدّدا و فريدا ، و طائرا غرّيدا في الشعر، كان من الطليعيين إلى جانب بابلو بيكاسو في عالم الصور، والتشكيل، و الرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين .هذا المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال،والتحلّي بالأمل، وتجسيم الألم والمعاناة :

ما هو مآل الشّعراء ، والأشياء الناعسة؟

التي لا يذكرها أحد ،آه يا شمس الآصَال؟

أيّها الماء الزلال، والقمر الجديد

يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابيّة

إنني أشعر اليومَ في قلبي إرتجاج النجوم

وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي

 

على أوراق أحزانه، فوق لجج هموم بحره منذ الصّغر، وإلى تلك المرثيّة التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا دائم الحديث عن الموت في شعره :

فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء،

 عن السّماء الجريحة الزّرقاء.

ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار :

إمتلأ قلبي الحريري بالأضواء،

 والنواقيس الضائعة

و الزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً

ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار

قريباً من النجوم.

ثم نجد الشاعريطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى :

خليلي أريد أن أموت ، بريئاً على سريري

الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية .

هذه الأمنية لم تتحقّق للشاعر فقد مات لوركا مغتالاً مُجندلاً، مات تحت رصاص الغدر، والخيانة، والكراهية من أعداء الحياة وأعداء الشعر . 

***

* كاتب من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم ( بوغوتا..كولومبيا). 

**  الأشعار والنصوص المُدْرَجة ضمن هذا المقال هي من ترجمة كاتب هذه السطور عن اللغة الإسبانية.

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *