“رباعية بيروت-أناشيد” للأديب فارس الحرموني المهجري/ الجميلة والوحش… ذكريات وذاكرة

Views: 25

البير خوري

 

   لم يكن الشاعر المهجري فارس الحرموني صاحب ” رباعية بيروت – أناشيد” في غربة جسدية ولا نفسية ولا عقلية ولا عاطفية عن هذه العاصمة المتوسطية في مراحل زهوها وتوهجها كما في مراحل عذابها.. عاش المدينة حجرا وبشرا  وأملا فأنشدها كلاما يقرب إلى الصلاة حينا، وإلى الفخر حينا آخر، وفي كل الأحيان، عشقا لعروس فاتنة شاء سحرها أن يغري الآخرين، ابعدين وأقربين، وحين ما نوت حفاظا على بتوليتها وكرامتها وتاريخها، أمعنوا فيها جلدا وقهرًا.

   صحيح أن فارس الحرموني أغترب عن بيروت – ربما لم  يحتمل “حبيبته” وهي تنزف أمام عينيه، لكن غربته أيقظت مشاعره حنينا دافئا ورغبة دفينة في العودة إليها، جعلته ينتفض لينفض عن بيروت حزنها وألمها وأسرها فأنشدها حروفا وكلمات ليست شعرا مكتمل الصفات، ولا أيضا نثرا بليغ المفردات. إنما أبدع لغة سهلة العبارات عميقة المعاني تتلاءم مع أناشيده السماوية والوطنية والغزلية.. لقد حاكى بها بيروت بتلقائية العاشق ولهفته للقاء حبيبته بعد غياب قسري فرضته الظروف والأحداث والأيام. (https://www.topskitchen.com)

   نجح فارس الحرموني في ما سعي إليه. لم يتصنّع قافية ولا بلاغة. أنشد بيروت بعفوية بالغة العذوبة. بيروت التاريخ والحضارة والانفتاح قبلة أنظار الأباطرة الفاتحين منذ آلاف السنين، وكذلك قبلة أنظار الأدباء والمفكرين والشعراء. عاصمة الثقافة المستدامة من مشارق الأرض ومغاربها. وحيث لكثيرين منهم محطات ومعالم حضارية فيها تفتخر بها الإنسانية.

   حسنا اختار فارس الحرموني صفة الأناشيد لرباعيته، ذلك أن الأناشيد بالمفهوم الأدبي تحمل في ذاتها صفتين: القداسة والمجد. الفخر والتوق والحنين والتضرع. هو فخور بمدينته، في أزمنة توهجها وإشراقتها كما في دمارها وعتمتها، زاده فخرا أنه وضع ريع رباعيته لمساعدة ضحايا انفجار مرفأ بيروت وما خلفه من ضحايا ودمار ومآس انزرعت في قلوب ناسها، نساء ورجال، أطفالا وحجرا. وهو كما يقول: إستفقاد   لبيروت الطيبة والجميلة من مسافات المهاجر عن الأحداث الأليمة التي أصابت بيروت  والتسلل المدمر والشرير إليها ومن خارج محيطها وتاريخها منذ أواخر 1960.

   وأبعد من هذه الأحداث، استعاد فارس الحرموني المهجري أسماء الأماكن والأشخاص والعناوين بكل تفاصيلها. يستذكرها بشوق وحنين يتأمل حالها اليوم ويأمل في الوقت ذاته مسح دموعها ونفض مآسيها وأحزانها بالكلمة الأدبية الراقية والصادقة واللفتة الإنسانية العميقة.

   ستة أعوام كتابية وبحثية وعاطفية استغرقت رحلة فارس الحرموني المهجري لينهي “رباعية بيروت – أناشيد”. لم تكن الرحلة سهلة، فالغصة في القلب والعين والأذن والروح. إنما وفي الوقت نفسه، كانت في منتهى الرقة والجمال والرقي، استعاد من خلالها ذاكرة عروس المتوسط ورائحتها الذكية، كما السنوات العجاف بما تخللها من حروب عليها وفيها من أعداء الخارج والداخل، بالتعاون مع قادة محليين، سياسيين وعسكريين وأمنيين، ليحيلوها إلى ساحات حرب متنقلة بين مناطقها وأحيائها وشوارعها. وليعم الاقتتال كل بيروت وكل لبنان، وكل الناس من مختلف الطوائف والأحزاب  والاتجاهات والمليشيات.

   حرب أهلية- ولم تكن أهلية – اندلعت وعاثت موتا ودمارا في خلال خمس عشرة سنة، لتنتهي باتفاق الطائف لتدخل من جديد في حرب أكثر شراسة وضراوة ، حرب اقتصادية تكاد تقترب من حرب تجويع أبناء بيروت الطيبين.

   بيروت هي “فردوس يحترق” كما في قصيدة الشاعر الأميركي ت. س اليوت ” الأرض اليباب ” ومما جاء فيها:

” بعد وهج المشاعل على الوجوه المتعرّقة،

بعد صمت الصقيع في البساتين،

والآلام على الأرض الحجرية،

من كان حيا هو الآن ميّت،

ونحن الذين كنا أحياء نموت

بقليل من الصبر…:”

   وما بعد الصبر إلا الفرج. ذلك أن بيروت تبقى أكثر من عاصمة لبنان، هي عبارة عن جوهرة للإنسانية وأيقونة للعالم والمدينة الأخيرة على شرق المتوسط بعد  تدمير سميرنا واستسلام الإسكندرية، التي لا تزال تقاوم وترفض. بقيت صامدة ترفع الراية ومشعل التنوير في جهات العالم الأربع. و” رباعية بيروت- أناشيد” دعوة لانبعاث المدينة من خلال عاصفة ثقافية حضارية واجبة، يتبعها سلام هادئ مستقر: ليعيش مواطنوها متمتعين بالعدل والإنصاف مع الكرامة والبيئة النظيفة مقابل واجبات المواطن والمجتمع المنتج الخلاق والصالح.

   بهذا الكلام يختم فارس الحرموني  المهجري رباعيته. وبهذا المعنى تحمل نصوص الكتاب دعوة لتنقية بيروت من كل السموم التي تسربت  غفلة إلى أوردتها وشرايينها. ولأجل أن تنهض المدينة من جديد كجوهرة للإنسانية والتسامح كما روحها وناسها  وأهلها وتاريخها.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *