عن الترجمة وأسئلة النهضة والتغيير

Views: 693

د. جان جبّور*

في الثلاثين من شهر أيلول/ سبتمبر من كلّ سنة يحتفي المُترجمون من جميع أصقاع العالَم بيَومهم العالَميّ. يرعى المُناسبةَ “الاتّحاد الدوليّ للمُترجِمين” الذي تأسَّس في العام 1953، وهو الذي أَطلق في العام 1991 فكرة “اليوم العالَميّ للترجمة”، وذلك لإظهار تضامُن مُجتمع المُترجِمين في جميع أنحاء العالَم، في مُحاولةٍ لتعزيز مِهنة الترجمة التي تزداد أهميّة في عصر العَولَمة؛ إلّا أنّ هذا الاحتفاء يُشكِّل كذلك محطّةً لتقويم الواقع واستشراف المُستقبل. وهي مُناسَبة بالنسبة إلينا لنُسائِلَ واقع الترجمة في العالَم العربيّ.

جرت العادةُ لدى الكلام على دَور الترجمة واعتبارها أداةً وعنصراً من العناصر المهمّة لتجديد الفكر وإثرائه، أن نقول كلاماً كثيراً حول أزمة الترجمة في العالَم العربي والمعوّقات التي تعترض النهوض بها، وأن نَستحضرَ في المناسبة أرقاماً عن عددِ الكُتبِ المُترجَمة في العالَم العربي بمُجملِ بلدانه لنُقارِنها بنِتاج دولةٍ أوروبيّةٍ واحدة، فنَجدُ أنّ الفَرْقَ شاسِعٌ بين ما يُترجِمه العرب مُجتمِعين وما تقوم به دولةٌ أوروبيّةٌ واحدة، فنستذكر عصر المأمون حيث عَرفت الترجمةُ ازدهاراً كبيراً وتحوَّلَ العالَم العربي إلى مَركزٍ للإشعاع المَعرفي، ونخلص إلى أنّنا نعيش واقعاً مؤلِماً يتّسم بالتخلُّفِ والفوضى والعشوائيّة، لا يتوانى البعضُ عن وصفه بالكوارثيّ.

إنّ هذا الكلام الذي يُوصِّفُ حالةً واقعيّةً ويَضع الأصبعَ على الجرح، هو كلامٌ صحيح في بعض جوانبه، ولا مجال لإنكارِ المُشكلات التي يُعاني منها قطاع الترجمة في العالَم العربيّ؛ إلّا أنّ المُحاولات الجادّة التي تقومُ بها مؤسّساتٌ عربيّة هو أمرٌ لا يَنبغي الاستهانة به والتقليل من أهميّته، علماً بأنّ هذه الجهود لم ترقَ بعد إلى مستوى المشروع الحضاري المُتكامِل الذي يَستوجب استراتيجيّة كاملة وتخطيطاً بعيد المدى يتيح المجال للبناء عليه.

في الواقع إنّ الترجمة ليست قضيّة قائمة بذاتها، ولا يُمكن فصلُها عن أزمة الثقافة العربيّة ككلّ. في هذا السياق لا بدّ من الإشارة أوّلاً إلى التحدّيات الداخليّة التي تواجهها الّلغة العربيّة؛ فالانفجار المَعرفيّ يُحتِّم سدَّ الفجوة الهائلة بين اللّغة العربيّة والمَعارف والعلوم والتقنيّات في جميع المجالات، وربْط اللّغة العربيّة بجميع مُعطيات العصر وتطوّراته في المَيادين كافّة. هذه الحركة السريعة تدعونا للاقتباس والنقل من أجل إغناء اللّغة العربيّة وربْطها بحركة الفكر الإنساني. هذا ما يطرح قضيّة المُصطلحات، وهي مشكلة حقيقيّة يُعاني منها واضعو المَعاجم والمُترجِمون. فهناك كمٌّ مُتراكِمٌ ومُتزايِدٌ يوميّاً في مُختلف مَيادين المَعرفة من المُصطلحات الأجنبيّة التي تنتظر التأصيل.

ومن ناحية ثانية، هناك تعدُّد الجهات العربيّة المَعنيَّة بالوضع المُصطلحي، والتي تفتقر إلى منهجيّةٍ موحَّدة للتعامُل مع المُصطلَح الوافِد، فيجد الباحثُ نفسَه أحياناً أمام تعدُّدِ المرجعيّة اللّغويّة للمُصطلح ما بين مُعرَّبٍ أو موروثٍ أو مُشتَقّ أو مَنحوت…إلخ. هذا فضلاً عن انعدام صفة الإلزام لدى الهيئات المُختصِّة بالوضع المُصطلحي. قضيّة المُصطلحات تَطرح بشكلٍ مُباشر مسألةَ المَجامِع اللّغويّة المنوط بها العمل على تطوير اللّغة ومُحاولة تجديدها بما يُناسِب العصر الحديث. لكنّ المَجامِع اللّغويّة العربيّة في الواقع تمرّ بأزمةٍ حقيقيّة، وهي غير مؤثِّرة فعليّاً في إثراء اللّغة، ولا في توحيد المُصطلحات العِلميّة.

خلاصة القول، إنّ اللّغة العربيّة لا تزال تُواجه تحدّياتٍ جمّة تحول دون تمكُّنها من مُسايرة الحداثة والقفزات العِلميّة والتقنيّة الهائلة التي يشهدها العالَم اليوم في ظلّ العَولَمة. بالطبع إنّ هذا العجز ليس بنيويّاً، واللّغة العربيّة لغة حيّة وغنيّة، وتمتاز بقُدرتها على التكيُّف والإبداع، وإنّما يرتبط بشكلٍ أساسي بعدم وجود استراتيجيّة جادّة موحّدة.

 إلّا أنّ القضايا الأساسية المؤثّرة في تحقيق النهضة المرجوَّة من عمليّة الترجمة هي تلك التي تُطرح على المؤسّسات المُهتمّة بالترجمة: هل هناك موضوعات لا يتوجّب مُقاربتها ولا يُسمح بترجمتها؟ إنّه موضوعٌ شائك والجواب عليه معقّد. من البديهي القول إنّ الحريّة شرطٌ للإبداع ولتأمين الظروف الموضوعيّة لتحقيق نهضةٍ فكريّة. يشهد على ذلك جوّ التسامُح والانفتاح الذي كان سائداً حين انطلقت أكبر حركة ترجمة في التاريخ القديم في بداية الحضارة العربيّة الإسلاميّة. ولكن هل الحريّة تعني التسيُّب؟ وبالتالي، مَن هو الشخص أو الهيئة المخوّلة بترسيم الحدود؟

ما من شكٍّ في أنّنا حين نتكلّم على تقييد الحريّة، يكون المقصود ثلاثة موضوعات: الدّين والسياسة والمرأة. وهذه الموضوعات من الأهميّة بمكان كي لا نتركها بعهدة مسؤول أو رقيب يتعامل معها بعقليّةٍ مُتحجّرة فيحول دون ترجمة كتاب من وإلى العربيّة لمجرّد أنّه لا يتطابق تماماً مع صورةٍ نمطيّة راسخة في ذهنه. لكن في الوقت ذاته إنّ الترجمة عمليّة هادفة، وهي أداة حوار وتلاقٍ بين الثقافات، ودَورها أن تردم الهوّة بينها لا أن تعمّقها. هنا بالإمكان الكلام على الضوابط؛ فحتّى الغرب الذي يتغنّى بحريّة التعبير المُطلَقة غير المُقيَّدة، يُبادِر إلى مُصادرتها حين يتعلّق الأمر بشبهة “مُعاداة الساميّة” أو التشكيك في “المحرقة”، حتّى أنّه لا يتوانى عن مُحاكَمةِ مَن يَجرؤ على مُمارَسة حريّة الرأي في هاتَيْن المسألتَيْن، كما حصلَ مع المفكّر الكبير روجيه غارودي. لماذا لا يكون الأمر مقبولاً إذن حين يتعلّق ذلك بالاستهداف المجّانيّ للثقافة العربيّة وللإسلام والمُسلمين؟ فالترجمة تفتح الأبواب ليدخل منها النور لا الحقد، وهي أداة تواصُل لكنّها لا تكون متفلّتة من القيود القِيَميّة والأخلاقيّة. هل نكون متحجّرين على سبيل المثال إذا لم نُترجِم روايات ميشال ويلبيك التي تتضمّن نصوصاً تُسيء مجّاناً إلى العرب والإسلام؟ وما ينطبق على الدّين، لا بدّ أن ينطبق على السياسة. في هذا المجال، لا بدّ من التشجيع في مجال العلوم السياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة على ترجمة كلّ ما يتعلّق بتطوير النُّظم الديمقراطيّة واحترام حقوق الإنسان، بغضّ النَّظر عن رغبات الأنظمة أو النّافذين. والحاجة ماسّة لترجمة كلّ ما يُسهِم في إعلاء قيَم التسامُح والعدل والمساواة واحترام الثقافات والأديان في مُواجَهةِ الظلم والتطرُّف والإرهاب.

في السنوات المقبلة سوف تُطرح في السياسة إشكاليّاتٌ كثيرة. بالأمس القريب على سبيل المثال كان موضوعُ الترجمة من العبريّة إلى العربيّة موضوعَ نقاشٍ كبير رأينا نموذجاً منه بعد ترجمة رواية عاموس عوز “أسطورة عن الحُبّ والظلام” إلى العربيّة منذ سنوات قليلة؛ فهل يتوجَّب القفز فوق كلّ الحواجز التاريخيّة والسياسيّة والفكريّة والعاطفيّة والإيديولوجيّة واعتبار ذلك جزءاً من تحرُّرنا الفكري، أم أنّ الحلّ يكمن في تجاهُل هذا الأدب؟ بكلّ الأحوال، لا بدّ من تحليل سرّ هذا الاهتمام الكبير الذي لاقته ترجمة هذه الرواية من طَرَفِ القارىء العربي.

 ولا يقلّ الأمر إشكاليّة حين يُطرح موضوع المرأة. مَن الذي يُقرِّر أنّ ترجمةَ بعض الكُتب التي تُلامس موضوعات تحرُّر المرأة أو صورة المرأة تتلاءم أو لا مع التراث والتقاليد؟

هذه الموضوعات المعقَّدة تَطرح كذلك مسألةً أساسيّة، وهي الترجمة المُتكافِئة: كم هو عدد الكُتب التي تُترجَم من العربيّة إلى اللّغات الأخرى التي تُبرِز الواقع الحقيقي لحضارتنا ومُجتمعنا؟ في الواقع إنّه عددٌ ضئيل، وعلينا في هذا المجال بذل مجهودٍ ضخم. فلا بدّ أوّلاً من هيئةٍ تتولّى اختيارَ الكُتب المهمّة التي تُعطي صورةً واضحة عن الفكر والمُجتمع العربي، ومن ثمّ السعي إلى التعريف بها وإبراز أهميّتها لدى دور نشرٍ أجنبيّة واسعة الانتشار، يترافق ذلك مع تأمين الدعم لترجمتها. بذلك تكون الترجمة في الاتّجاهَين عامِلاً للحوار مع الآخر وللتفاعُل بين الثقافات، وسبيلاً لإزالة سوء الفَهْمِ والقوالب الجامدة.

إنّ كلّ عمليّة نهضويّة تَطرح أسئلةً شائكة. لذا يتوجَّب على الترجمة التي هي حاجة ثقافيّة وحضاريّة أن تأتي من ضمن خطّةٍ قوميّة شاملة. من هنا تحتاج البلدان العربيّة إلى عمليّة ترجمة مؤسّسيّة ومُمَنْهَجة ترتبط باستراتيجيّةٍ ثقافيّةٍ قوميّة. فهناك فجوة كبيرة بين ما تُنتجه ثقافتنا العربيّة وثقافة الغرب، وهذا يتطلّب ترجمة آلاف الكُتب في مجالات المَعرفة المُختلفة حتّى يتسنّى لنا مُواكَبة العصر وإشكاليّاته. قد تكمن البداية في إيجادِ نمطٍ من التنسيق بين مَراكِز الترجمة في الوطن العربي. يلي ذلك وضع استراتيجيّة عقلانيّة للترجمة يجري من خلالها تحديد الأهداف القوميّة والمعرفيّة الضروريّة لعمليّة الترجمة وما يجب أن يُشكِّل غايةً نهضويّة للترجمة. أعرف تماماً أنّ هكذا طموح قد يبدو طوباويّاً في الظرف الرّاهن. لكنّها فكرة يجب أن ترسخ في الأذهان، ولا سبيل لقيام نهضة فعليّة من دون هذا المسلك.

إلّا أنّه وعلى الرّغم من ضبابيّة الصورة، أعتقد أنّ الأمورَ ليست على درجةٍ من السوء الذي يتصوّره البعض، ذلك أنّ الخبرات التي تكتسبها المؤسّسات التي تُعنى بالترجمة حاليّاً، والتجارب التي تقوم بها والصعوبات التي تُواجهها وتسعى لتذليلها لا بدّ أن تقودها في النهاية إلى بلْورةِ مشروعٍ مُتكامل. في الماضي لَعبتِ الترجمةُ دَوراً بارزاً في تألُّق الثقافة العربيّة، واليوم في ظلّ العَوْلَمَة تُواجِه هذه الثقافةُ بالذّات تحدّياتٍ مُتعدِّدة خارجيّة وداخليّة، والانكفاء أو الانعزال يعني الموت الأكيد. لا بدّ إذن من أن تُسهِم الترجمة – التي هي نافذة مهمّة على العِلم ووسيلة أساسيّة لنقْلِ المَعارِف وأداة للتواصُل – في تشكيل الفكر العربي الحديث، إذا ما حَصلتْ في إطار عمليّة نهضة علميّة – معرفيّة كبرى، نأمل أن تَتبلْورَ مَعالِمها في المدى القريب.

 ***

(*) أكاديميّ ومُترجِم من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *