جوري

Views: 23

سامي معروف

 

لم تكن صدفةً البتة.. لقد تَعمَّد أن ينتظرَها في سيّارتِه قرب شجَيراتِ سياجِ الحديقة.

 

كان المَطرُ الخفيف ينقرُ على الزُّجاج، مُنسجمًا مع إيقاعاتِ لهفةٍ غامضةٍ لا تفسيرَ لها في الوقتِ الرّاهن.. سوى كونِها صدًى بعيدًا لحكايةٍ قديمة، ما زالت تتسَلّلُ خجولةً فيالمناسبَات النّادرَة، وطفلةً فضوليَّة في صُبحيَّةٍ على فنجان قهوَة.

وما إن رآها خرجت مع الآخرين إلى الرَّدهة تحت السَّقيفة، وفتحَت مظلَّتَها، ثمَّ نزلَت مسرعةً إلى الطّريق، أدار سيّارتَه ودَنا منها على مَهل، وقال لها وهو يفتح الزُّجاج:

– إصعدي يا جوري سأوصلكِ إلى البيت.

حدَّقت في وجهِه مليًّا.. تردَّدَت! ولكنَّها لبَّت دعوَتَه لأنَّها ارتاحَت لملامحَ مألوفة. وعندما جلسَت على المقعَد بجانبِه، قال لها:

– يبدو أنّكِ لم تعرفيني.

– ذاكرتي تخونني فيهذه الأيّام. قالت جوري، ونظرت ثانيةً إلى وجهِ مُحدِّثِها.

 

وأنّى لها أن تعرفَه..وهو لم يكن غيرَ تعليقٍ موجز في هوامش صخَبِها الماضي؟ كيف لها أن تتذكّر طيفًا زائِرًا ألقى سلامَهومضى في العتمةِ الدّامسَة، ومُشاهدًا عابرًا لفصولٍ قليلةٍ من مأساتِها التي طواها الزَّمَن؟

كان مقدارُ المسافة بين الكنيسَة ومنزلِها خمسَ دقائق. درَجَت بهما السيّارَة في أزقّةِ البلدَة التّقليديَّة تحتَ مطَرٍ ربيعيّ آفِل. وفي الدّقائق الخمس كانت جوري تنقِّبُ في حاسوبِ ذاكرَتِها ولا تقعُ على شَيء! وأمّا هو.. فكانتِ الدّقائقُ تلك كافيةً لكي تجتَرَّ ذاكرتُه الكثير.

منذ المراهقة تيَّمَته جوري حَدَّ الهوَس. لقد عبرَتِ الحَيَّ مرّاتٍ سيرًا أمام ناظريه، ونثرَت على الصّبيةِ في الباحة عطرًا مخدّرًا وجاذبيَّةً آسرَة.. فتفتَّحَت رجولتُهُ الزّاغبَة قبلَ مواسمِها على خَيالٍ لأفروديت ظلَّ حلمًا مؤرقًا لأعوام؟ لم يتجَرّأ على البَوحِ لها.. كانت تكبرُه بسنواتٍ قليلة، والفارقُ الاجتماعيّ جدارًا مُخيفًا، ونايف الشَابُّ الوسيم الذي أغرمَت به عقدَةً مثلوثة.

صوَرٌ من سقيطِ الحِكاية بقيَت تتطاير أوراقًا صفراء على دروب الذّاكرَة: يومَ كانت واقفةً تبكي عند البوّابَة الكبيرَة، خارجةً من رسوبِها في امتحاناتِ السَّنة الثالثة. ويومَ كانت واقفةً على حدَةٍ،في تلك اللّيلة الرّهيبَة قرب أحواضِ الزّهور، تبكي أيضًا بكاءً مُرًّا، وصديقتُها تجادل نايف بصوتٍ عالٍ محاولةً أن تصلحَ ذاتَ البَين. ويومَ كانت أيضًا واقفةً بجانبِ راكان أمام الخوري يزُفُّها إليه عروسًا لِعَريس، وكانت تبكي بكاءً لا نهاية له. كأنَّ الدّموعَ لعنَةٌ رفيقةٌ لِجوري قَرَأتها عليها عيونُ الغَيرَةِ الكائدَة.

وبعد سنواتٍ طويلة.. عادَ إلى البلدة وعلِمبالمأساة!

لقدِ استغلَّ زَوجُها الجَشِعُ الكحوليُّ راكان جمالَها المُثير فأتى بالرّجال إلى البيت. وضَعَت طفلَتَها الوَحيدَة خلال أشهرٍ قليلة، ثمَّ هجَرَها زَوجُها بعد ذلك ولا أحدَ يعرف إلى أين! (www.biolighttechnologies.com) لم تعِشِ الطّفلة أكثر من عامَين وماتت في ظروفٍ غامَضَة. وهكذا انتهَت جوري من زَواجِها أشلاءَ إنسان.. عقلاً مضطربًا،ذاكرةً مشوَّهَة، وجَمالاً خاليًا من الحَياة.

وبعد سنواتٍ تساوي عمرًا عادَ ثانيةً إلى البلدَة.. وعرفَ أنَّ جوري امرأةٌ جانحَة!

رآها ذات يوم صدفةً تمارس رياضَة المشي في الصّباح الباكر، أربعينيَّة ممتلئَة الجثّة تضجُّبالشّهوَة. ورآها أيضًا في أحدِ مقاهي السّوقِ تنتظر واحدًا من زبائنِها.

وبعد سنواتٍ أيضًا عادَ للمرَّةِ الثالثة إلى المحَلَّة.. وعرفَ أنَّ جوري قد تغيَّرَت.. وهي تأتي دائمًا إلى الكنيسَةِ وحيدةً وتصَلّي. ولكنَّها بدَت له في بحرِ خمسينيَّاتِها دُردِيَّ شبابٍ في قَعر أنوثةٍ ذاويَة.

ركنَ السيّارَة بجانب السّور تحت البلّوطة الكبيرة، وأرادَ أن يُجبرَها على دعوتِه إلى الدّخول.

– شكرًا لكَ.. إنزل واشرَبْ فنجان قهوَة.

– لا بأس. وفتحَ بابَ السَيَّارَة.

ولم تنتظرْه لكي يأتيَ ويفتح لها، خرجَت وفتحت المظلّة وانضَمَّ هو إليها، وسارا معًا حتى الدّرَج العريض، وهبطا إلى الطّابق السُّفليّ من تلك العليَّة الحَجريَّة المرمَّمَة. ودَخلا.. فإذا القبوُ فسيحٌ ذو رياشٍ فاخر. ورأى الرّفوفَ مليئة بالكتبِ والاقراص المدمجَة، وثمّة رسومات سرياليَّة، وهناكَ الكثير من المطرَّزات في كلّ مكان، والتّلفاز على الطّاولة الكبيرَة والنّظام الصَّوتيّ والحاسوب والطّابعَة والأقلام.

جلسَ على الكنبةِ قربَ الشبّاك، ومدَّ عنقَه ليرى أوراقَ المَزروعات ترتعش راقصَةً تحت المَطر. واختفَت هي لدَقيقة، وعادت ووضَعت صحنًا من البسكويت أمامَه، وقالت:

– أعاني من اضطرابٍ مزمنٍ في ذاكرَتي. سأعملُ القهوَة.

تركته لدقائقَ أخرى ثمَّ عادَت وجلسَت مقابلَه، وبقيا صامتَين يرشفان القهوَة.

وأخيرًا تكلَّم:

– لن تتذكّري شيئًا..

– سأحاول. قالت له وهي ترمقُه باهتمام.

رشفَ من قهوتِه أيضًا وقال:

– أحبَبتُكِ أيّامَ كنتُ ابنَ أربعةَ عشر عامًا. وصمتَ ينظر حلقاتِ رَميَتِهِ في ماءِ عَينَيها. كانت الدّهشَة واضحَة في شَقلةِ حاجبَيها.

– وكان حبًّا مستحيلًا. تابعَ الكلام..

– كنتِ تبكين يا جوري عندَ البوّابَة حين أخفَقتِ في امتحان السَّنَة الثالثة، إنِ استطَعتِ أن تذكري، ودنوتُ منكِ وعرَضتُ عليكِ أن تساعدَكِ أختي في مادَّةِ الفيزياء تحضيرًا لامتحان آخر الصَّيف.. ولكنَّكِ رفضتِ بحَزم. وكنتِ تبكينَ أيضًا على حدَةٍ عندما كانت صديقتُكِ تحاول ترميمَ العلاقَة بينَكِ وبينَ نايف، وكنتُ مارًّا صدفة في تلكَ اللّيلة، فعرفتُ بالحَدس حيثيَّاتِ المشكلة، واقتربتُوقلتُ لكِ بصوتٍ خافت:”هناكَ من يهتمُّ لأمرِكِ كثيرًا يا جوري،يُحبُّكِ بجنون! وبمقدورِهأن يحلَّ المشكلَة”. ولكنَّكِ دفَعتِني عنكِ صارخةً في وَجهي. وكنتِ تبكينَ أيضًا عندَما كنتِ واقفةً بجانبِ عريسِكِ راكان في باحةِ الكنيسَة يومَ الزّفاف، ودنوتُ منك أمام عيون الجَميع، وأهدَيتُكِ باقةً من الوَردِ الجوري،وقبَّلتُكِ.

رأى بوضوح مقلتَي جوري تفيضان بصَمت. وتابع..

– ومنذ عشرة أعوام تقريبًا، رأيتُكِ في المَقهى تنتظرين رجُلاً. وكنتُ لا زلتُ عازبًا! وجئتُ إلى المَقهى مرّاتٍ عديدَة. وعنَّتِ الفِكرَةُ لي.. مُلِحَّةً!كان المستحيلُ سيَّافيَ الحارسَ المُخيف.

فأطلقَتِ العِنانَ لدموعِها، ولكنَّها كانت تبتسِم وهي تبكي.. ثمَّ راحت تضحَك! قال لها:

– أنتِ تبكين! فتَمتمَت بصوتٍ خافت:

– هناك رجُلٌ أحبَّني بصدق.. وثمَّة حبٌّ عَظيملم أحظَ بِه.

لم يقل شيئًا..

رشفَ رشفتَه الأخيرَة ووضعَ الفنجان من يدِه وقام.. وبقيَت هيجالسة تبكي وتضحَك وعَيناها مسمَّرتان في العدَم.

خطا خطواتٍ نحو الباب.. ثمَّ نظر إليها ثانيةً..

فإذا هذيانُها أرجوحة فرَحٍ وحزنٍ في آنٍ معًا.. ومقلتاها ضائعتان. 

في أيلول 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *