أيلول حروب وصداقات

Views: 881

زياد كاج

   حين سقط “نوربيرتو هيرنانديز” من أحد الطوابق العليا للبرج الشمالي في نيويورك في الحادي عشر من أيلول سنة 2001، والتقط صورته وهو يسقط مستسلماً لقدره المصور “ريتشارد درو”، هوت معه البشرية الى أسفل السافلين وتلطخت سمعة الدين السماوي الثالث وهو من الإرهابيين والقتلة براء.وأحدث نشر صورة الضحية “هيرنانديز” في الصفحة السابعة من مجلة “التايمز” وفي صحف أخرى ضجيجاً  وجدلاً في الأوساط الإعلامية الأميركية. المصور درو أصيب بالإحساس بالذنب وقابل عائلة الضحية التي شككت بهوية الرجل الظاهر في الصورة الذي كان يعمل عشياً في مطعم وكان شعاره وسط عائلته “معاً الى الأبد”.

   “أيلول طرفو بالشتي مبلول”.. مع إقتراب ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا في السادس عشر من أيلول سنة 1982 والتي ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيين الفلسطينيين العزل بعد إجتياح جيش العدو الإسرائيلي للبنان وسقوط العاصمة بيروت، لا يزال بعض البشر من أصحاب القلوب والعقول الإجرامية يمارسون القتل والعنف بدماء باردة. ولا تزال ذكرى المجزرة مرمية في سلة النسيان لأن ميزان الإنسانية الدولي يعاني من خلل فادح ومتعمد.

وبين الحادي عشر والسادس عشر من أيلول مكيال مكسور.

لطالما كنت أفرح أيام المدرسة بالكتب الجديدة بعد الترفّع والانتقال الى صف جديد. كنت أبحث عن الصور فيها خاصة في كتب التاريخ. وكانت تلفتني صور الحرب العالمية الأولى والثانية فأشرد في صور الخراب والدمار الهائلين وبعدد الضحايا والأسلحة المستخدمة. وكنت أحتار وأسأل نفسي بسذاجة طالب مراهق عن سبب محورية المانيا في كلا الحربين . ولم أكن معجباً بشوارب هتلر ولا بكرش تشرشل ولا بنظرات ستالين النارية الحارقة. ولطالما طرحت السؤال الصعب—ولا أزال: هل تقع الحرب العالمية الثالثة ؟ الأمر وارد لأن الحروب والعنف من طبيعة البشر منذ أن وجدوا على هذا الكوكب المسكين. صراع بقاء الأقوى على الموارد والسيطرة والمكانة.

فاروق عيتاني

 

المارد الأميركي الذي استراح طويلاً  بعد الحرب الكونية الثانية، بقيت كوبا شوكة مقلقة في خاصرته حتى تفكك الاتحاد السوفييتي ورحيل كاسترو . أبحر المارد وحارب بعيداً في فييتنام، والعراق وأفغانستان وفي بلدان مشتعلة كثيرة. لكن في نهاية المطاف كان على “الشباب” أن يعودوا الى الديار. فالمارد التكنولوجي والعلمي والاقتصادي لا يحتمل رؤية أبنائه عائدين في صناديق خشبية ملفوفة بالأعلام الوطنية. واليوم عينه على “التنين الصيني” الطامح و”الدب الروسي” المتوثب الذي وصل أخيراً الى المياه الدافئة. العالم في حروب وصراعات لا نهاية لها. قدر محتوم.

هذا المشهد العالمي المقلق والمتوتر تخفف من وطأته صداقات حقيقية بعضها مستمر وبعضها متقطع والبعض الآخر استثنائي. فالعلاقات الإنسانية عندنا تخفف من ثقل الأيام والظروف القاسية التي نعيشها محلياً والتي تبدو أنها مرشحة للاستمرار لزمن ليس بقصير. فلا يبقى لنا سوى الصبر وحفنة من الأصدقاء من طينة مختلفة.

صديقي فاروق عيتاني من النوع المميز جداً ويصعب وضعه في خانة أو إطار معين. تعرفت عليه كسائق عمومي (تاكسي) أقلني يوماً من بيروت الى الضاحية الجنوبية. لفتتني حنكته ولكنته البيروتية وثقافته العميقة والشاملة. أهداني روايته اليتيمة “البيروتي التائه” الصادرة عن دار جداول في بيروت. وصرت بدوري أهديه إصداراتي الروائية وأستعير له كتبًا من مكتبة الجامعة الأميركية كونه مثقفًا وقارئًا من العيار الثقيل وكاتب مقال محترفًا.

   صديقي فاروق  يعتاش من مهنة “سائق عمومي” ولا يهتم بصحته ولا هندامه ولا شكل سيارته. كأن المظاهر لا تعني له شيئًا. أو كأنه في حالة ملل وقرف وغضب من الأوضاع ، فللرجل صولات وجولات في بيروت أيام الشباب والحرب . وهو خريج الجامعة العربية في بيروت. لكنك إذا التقيته صدفة خلف المقود يصعب أن تصدق أن هذا الرجل الطاعن في السن يمتلك ثقافة إأستاذ جامعي. صاحب كبرياء ومروءة وعنفوان ولا يحب التعاطف الآتي من إشفاق .

   صديقي وزميلي في المكتب الدكتور باسم فليفل من خيرة الشباب المثقف البيروتي. مؤمن على الطريقة الكلاسيكية ومنفتح حداثي في الوقت نفسه. خلال حديثنا في المكتب عن عالم السوشال ميديا وخاصة الـ فايس بوك، عبر لي  عن بعض أصحاب الآراء المتطرفة وذكر أسم صديقي فاروق. فقلت له: ” أنت لا تعرفه وهو على الـ فايس غير الواقع تماماً”. هو فقط يغار على مدينته بيروت وملّته التي أصابها الوهن بسبب رهانات وسياسة خاطئة وقصيرة النظر.

 

   بعد دوام طويل في المكتب يوم جمعة، قصدنا “مقهى الروضة” حيث استمتعنا بنقاش هادىء ومضحك حول أوضاع البلد . فكلانا يحب تدخين النرجيلة وسط أشجار المقهى والهواء الطلق. بعد غروب الشمس عدنا الى سيارتي المركونة قرب ملعب “نادي النجمة” لنكتشف أن البطارية لم تعد تعمل لأنني نسيت إطفاء الضوء الأمامي. فقررت الاتصال بصديقي فاروق عيتاني عله يكون في منطقة قريبة. من حسن حظي رد علي وأكد أنه سيصل خلال دقائق.

” الآن ستتعرف على المعلم فاروق وسترى”، قلت لصديقي باسم .

   حضر فاروق بسيارته العتيقة وركنها على الرصيف المقابل. استعرنا “ملاقط” للشحن من مدينة الملاهي القريبة لكن المسافة بقيت بعيدة بين السيارتين. فبدأ فاروق بفك بطارية سيارته لوضعها قرب بطارية سيارتي. اقترب منا رانج فاره آت من مسبح السبورتينغ فكال له فاروق السباب. الدكتور باسم بدت عليه علامات الخوف من مشكل قد يحصل. تمكن المعلم فاروق من فك بطارية سيارته وحملها وطلب مني تثبيت “الملاقط” يدوياً على البطارية وأنا خائف ومتردد من التعرض  لصعقة كهربائية. المعلم فاروق صار يصرخ أن الوضع آمن وأمر باسم أن يدير السيارة ونحن ننظر الى بعض بتردد.

أخيراً اشتغل  موتور سيارتي.

شكرت صديقي فاروق  مراراً وحاولت مساعدته لإعادة تركيب بطارية سيارته لكنه رفض. عرضت عليه مبلغاً من المال فرفض بعصبية . شكرته على معروفه وصعدت الى سيارتي وأنا على وشك المغادرة أطلقت العنان للزمور تحيةً له فصرخ بي وهو يركب بطاريته: “ولاه هلق بتفضى البطارية”.

   ضحكت أنا وباسم حتى الدمع ونحن في طريقنا صعوداً قرب مقهى “دبيبو”. لم نعد نسيطر على أنفسنا . فقلت لباسم: “الآن صرت تعرف صديقي فاروق عيتاني”.

   صديقي فاروق..لست أنت التائه بل نحن التائهون. العالم كله تائه في دوامة من العنف والفوضى.

وأيلول بالأحزان والفقدان مبلول.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *