يا زمان

Views: 746

د. جان توما

 

راحت مواسم مرقد العنزة، وراحت معها نطارة شراب التوت، وماء البندورة ،وماء الزّهر، وليالي الكركة، والنوم على السطوح، حيث الرزق مُنْشَرٌ بانتظار صناعته بأيدٍ منتفخة، نافرة الشرايين.

منذ سقط الرّيف سقط الوطن. منذ تخلّى الفلاح عن أرضه ساد اليباب، وزحف الجفاف إلى قصور الأحلام التي كانت تغزل صوفها في الليالي الباردة، ومصطبات الربيع الدافئة المزهرة في تنكات الحبق، وزوايا البساتين.

راحوا يجففون خيرات أراضي الرّيف، وسمحوا بقيام أحزمة بؤس حول المدن عوض أن يفتحوا الطرقات، ويسهّلوا العبور اليوميّ، ذهابًا وإيابًا، من الرّيف إلى مؤسسات المدينة التعليميّة، أو الجامعيّة، أو الاستشفائّية، وينفّذوا الخطط الإنمائيّة القادرة على أن تثبّت الريفيّ في أرضه، كي يبقى أمينًا على الخير القليل، ليكون أمينًا على الوافر الوطنيّ الكثير.

غابت سياسة الإنماء، ونزح أهل الرّيف إلى المدن حتى اختنقت. راحت الأرض الريفيّة المعطاءة. كيف يمكن اليوم  استعادة تلك القناعة لابن الأرض ومحاكاته أمور الطبيعة، كما في محاكاة الصياد للبحر؟ كيف يستعيد الرّيف أرضَه، والمدينة المائية بحرَها؟ وقد ذهب كلّ منهما إلى اقتناء الكماليات بعد أن كانت القناعة كفايتهما، كما يوضح  ابن خلدون، وكما يشير القول السائر: “فلاح مكفي سلطان مخفي”.

يبدو الكلّ اليوم، في غياب الإنماء، يبحث عن السلطان الظاهر ،والتسلّط القاهر، في غياب البساطة التي سادت، يوم امبراطوريّة كسرة الخبز المعجون بحبّ، وجبنة البيت ولبنة الأمّهات، وحبّة زيتون الوالد وزيت معصرته وتوابعها.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *