الصمت القاتل

Views: 673

د. جان توما

دخل  الدرجُ  والساحةُ عربيات الوقت، وتوغلا في عالم الصمت، كدخولِ القرميد إلى ذاكرةِ النسيان. واجهاتٌ وأبوابٌ من خشب ومشربيات وطربوش أحمر، زَنَّرتِ البيوتَ العتيقةَ في المدينةِ التي كانت تغفو على وقع خطوات  ناس  أسواق النحاسين والخياطين  والعطّارين والبزركان والكندرجيّة وغيرهم، وتقوم على أناشيدِ البحارة وراء خان التماثيلي وسوق الخراب وغيرهما، قبل دخولهم الصمت، في عرض البحر، لرزق موعود مبارك.

يطولُ الصمتُ اليوم من شدّة الوجع. ما عادت الشفاهُ تلوك كسرة خبز، وما عادت الحناجر تبوح وتُبَحُّ. ملأ الصارخون سابقًا شوارعَ الفيحاء تظاهرات المطالب ونصرة قضايا العرب والأمم؟ كم  تناقشوا في العقائدِ الحزبيّة من أمميّة وقومية وعروبة؟ ما هذه الظروفُ التي بدّلتِ الأحوالَ وكيف في صمتٍ قاتلٍ تخلّى الكلّ عن الكلّ؟ هل هذا هدوء ما قبل العاصفة؟

هذا بيتٌ، كما بيوتُ الفيحاء، المدينة القديمة، سكنه من نزح من الاسكندرون وانطاكية ومرسين وكريت وغيرها، ونزلوا في هذا الثغر البحريّ، فكانت عنصرةُ ألسنةٍ لأتراكٍ وأرمنٍ وأشوريين وسريان وكلدان وكريتيين وغيرهم، منهم من غادرَ على عجلٍ إلى بلاد الله الواسعة، ومنهم من أَلِفَ رطوبةَ جدرانِ هذه المدينة المالحة وأَلِفَتْهُ، فبقي فيها.

لا يستطيعُ المرءُ أن يُخرجَ مدينة من جلبابِ تاريخها، أو من جغرافيتها. كلُّ الوجوهِ البحريّة تعرفُ أنّه لا يمكنُ الفصل بين السوق القديم والحكايات العتيقة،  أو بين البحر وذاكرة الناس. من لم يَنَلْ معموديتَه في الماءِ المالح لن يزهرَ حبلُ سرّتِهِ ورقَ جلّنار يطفو مع رحمِ الماء، ولن يزهو بانتسابِهِ إلى أزقة طابَتْ أيامه فيها ، أو إلى شاطىءٍ صخري مسنّن، لَهَا برجليه العاريتين عليه فتجرّحتا، وبقي جرحُ الذكرياتِ مفتوحًا ولو كان في غيرِ قارة، أو خلف البحار السبعة .

***

(*) اللوحة للفنانة الدكتورة نادين العلي عمران

طرابلس العتيقة… العابقة برائحة زهر الليمون

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *