لميعة عبّاس عمارة شاعرة الأنوثة الشامخة

Views: 128

د. سمير حاجّ*

عن 93 عاماً، رَحَلَت في شهر حزيران/ يونيو الفائت، الشاعرة العراقيّة لميعة عبّاس عمارة في غربة الأطلسيّ، في مدينة سان دييغو جنوب ولاية كاليفورنيا، بعدما اضطرَّت في العام 1978 للنزوح عن العراق. هذه الشاعرة التي شيَّدت قصيدة الأنوثة المِغناجة في خارطة الشعر العربيّ الحديث، وُلدت في بغداد سنة 1927، لأسرةٍ تمتهنُ الصياغة في منطقة الكريمات، ثمّ انتقلَ أهلها إلى العمارة التي حملت اسمها، فألاً بإنجاب البنين، بعدما أَنجبت الأمّ بنتَيْن في بغداد.

دَرست لميعة في دار المُعلّمين العالية، حيث دَرَسَ الشاعر الكبير بدر شاكر السيّاب، وتخرَّجت سنة 1955. أُعِجبت بالشاعر محمّد مهدي الجواهريّ، وعاصَرت رُوّاد شعر التفعيلة والحداثة في العراق (وعلى رأسهم السيّاب نفسه) أمثال نازك الملائكة، شاذل طاقة، بُلند الحيدريّ، وعبد الوهّاب البيّاتي. لكنّ علاقتها بالسيّاب كانت هي الأقوى، فتبَادَلا معاً قصائد الحبّ.

وممّا كَتَبَ فيها السيّاب: “ذكرتُكِ يا لميعةُ والدُّجى ثلجٌ وأمطارُ/ ولندن مات فيها اللّيلُ/ مات تنفّسُ النّور/ رأيْتُ شبيهةً لكِ شعرُها ظُلمٌ وأنهارُ/ وعيناها كيُنبوعَيْنِ في غابٍ من الحورِ”، إلّا أنّ الاختلافَ الطائفيّ (هي من طائفة الصابئة المندائيّة) ومَرَضَ السيّاب، كما صرَّحت في مقابلةٍ أَجرتها معها الأكاديميّة العراقيّة عفاف نعش، ونُشرت في مجلّة “الكلمة” (سنة 2016، ص 106)، حالَا دون استمرار الحب، “المانع هو نفسه دائماً الصحّة والدّين، عُذران بل حقيقتان حدَّدتا الكثير من تفاصيل حياتي، وأحياناً أستنجدُ بهما. كنتُ أنوي لقاءه في الكويت ولم أحْظَ بذلك، فعندما حصلتُ على جواز سفري، وأَصبح من المُمكن أن أسافر، مات هو وحيداً في مستشفى الكويت. الكلّ قسا على بدر، الكلّ بلا استثناء”.

وقد صوَّرتْ ذلك في قصيدتها “لعنة التميّز” التي كَتبتها ونَشرتها في بداية التسعينيّات، بعد رحيله بعقود: “يوم أحبَبْتُكَ أغمضتُ عيوني/ لم تكُن تعرف ديني/ فعرفنا وافترقنا دمعتَيْن/ عاشقاً مُتَّ ولم تلمس الأربعين/ وأنا واصلتُ أعوامي/ أو واصلتُ تسديد ديوني..”.

كما كَتبت له قصيدة “شهرزاد”، وهي طالبة في الكليّة والتي تقول فيها: “ستبقى شفاهي ظِماءْ/ ويبقى بعينيَّ هذا النداء/ ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين/ ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء”.

نشرتْ أوّل قصيدة لها، وهي في سن الرّابعة عشرة، في مجلّة “السمير” التي أصدرها الشاعر المهجريّ إيليا أبو ماضي في نيويورك، والذي ربطته صداقة بوالدها، وقد أُعجب أبو ماضي بالقصيدة وكَتب فيها: “إذا كان في العراق أطفال كهؤلاء فإنّه مُقدِم على نهضةٍ شعريّة”.

شاعرة الغزل الجريء في القرن العشرين

عَرف الشعرُ العربيّ على مرّ العصور شاعراتٍ جريئات، أمثال الشاعرة الجاهليّة عشرقة المحاربيّة التي باحَتْ بجرأةٍ واعتزازٍ وريادة، بحُبّها الذي لا يُجارى وتجربتها الكبيرة فيه: “جَـريـتُ مـعَ العـشّاق في حلبةِ الهوى/ فَـفـُقـتـهـم سَـبـقـاً وَجـئتُ عَـلى رسلي/ فَـمـا لبـسَ العـشّـاقُ مِـن حُللِ الهَوى/ وَلا خَلعوا إلّا الثيابَ الّتي أُبلي/ وَلا شَــرِبـوا كَـأسـاً مـنَ الحـبّ مُـرّةً/ وَلا حــلوةً إلّا شــرابــهــمُ فــضــلي”. وكذلك الشاعرة الأمويّة الأندلسيّة، ولّادة بنت المُستكفي ( 994-1091 ) عبّرت بجرأة وحريّة خارجة عن المألوف عن شَهْوَتها وحبّها الحَضَريّ:

“أنا والله أصلح للمعالي/ وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيهاَ/ أمكنُ عاشقي من صحن خدّي/ وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها”.

ولميعة عمارة من أهمّ الأصوات الأنثويّة في خارطة الشعر العربي في القرن العشرين، في باب الغَزَل، فقد أَفردت له دواوين كاملة كما في “يُسمّونه الحبّ” (1972)، و”لو أنبأني العرّاف” (1980)، بعدما كَتبت قصائدَ سياسيّة جلبَتْ لها متاعبَ، على حدِّ قولها في المُقابلة المنشورة في “الكلمة”، فقد نجتْ من حملات السجون والإعدامات، إذ كانت مطلوبة ونُشرت صورها في التلفاز والجرائد، وصدرت أحكامٌ ضدّها، والغريب أنّه حُكم على امرأة أخرى بالإعدام، على أساس أنّها لميعة، ما تَرَكَ حسرةً ووجعاً في قلبها.

كَتبت شعر التفعيلة الفصيح والشعر المَحكيّ، وشيَّدت قصيدةَ الأنوثة والغنج وأضاءتها بدعابةٍ وعفويّة ووعي، في خارطة الشعر العربيّ الحديث، واحتفَت بثنائيّة الجسد المُتأجِّج، والروح الصاهلة كفَرسٍ جموح، فغَدت القصيدةُ عندها تتفصّد هرموناتٍ أُنْثويّة لارتفاع نسبة الأستروجين فيها، وأَصبحت الأنا الشاعرة النَرْجسيّة الجريئة تثور وتبوح بالمسكوت عنه، مُتماهيةً مع كاليبسو الجميلة التي اشتهت أوديسيوس جَهْراً. تقول لميعة: “أحتاج إليكَ حبيبي اللّيلة/ فاللّيلة روحي فرسٌ وحشيّة/ أوراقُ البردى ـ أضلاعي ـ فَـتِّـتْـها/ أطلِقْ هذي اللّغةَ المَـنسـيّـه/ جَسَدي لا يحتملُ الوَجْدَ/ ولا أنوي أن أصبحَ رابعةَ العدويّة”.

شِعرها جريءٌ، صريحٌ ومتمرِّدٌ على الثابت والطقوس الذكوريّة. قصيدتُها صرخةٌ وإدانةٌ للثابت، وتعكس صوت المرأة الواعية، اللّبقة والحاذقة التي تَعرف وتتجاهل.. لا بل تغفر للرجل الشرقيّ تصرّفاته الطفوليّة، كما في قصيدة “لستُ غَيْرى”، حيثُ تُعرّيه بداية، ثمّ تروّضه بكنوزِ أنوثتها العطشى، وحقولها المُنتظِرة الحصاد، وبعدها تهمزه بسخريةٍ مُرّة لاذِعة، ناعتةً إيّاه بالسيّد الطفل، ولهذه السببيّة تغفر له عبثيّته:

“سيدي طفلي/ تُرى أين قضيتَ اللّيلَ/ ليلَ الأحد؟/ مُثقَلاً بالشُّغْلِ/ أمْ بينَ ذراعَيْ أغيَدِ؟/ يا نَديَّ الثَّغْرِ، ثغري عَطِشٌ/ لم يَبرُدِ/ كم تمنَّيتُكَ بالأمسِ …/ فما نَعِمَتْ عيني/ ولا ضمَّتْ يدي/ أنا خوفٌ مُزمِنٌ تجهلُهُ/ وحقولٌ مُرَّةٌ لم تُحْصَدِ”.

هذه الجرأة الإيروتيكيّة، مشحونة بروح التحدّي والإدانة والرفض، لمُجتمعٍ ذكوريّ مُتعسِّف، تحمل همومَ المرأة الشرقيّة، المسكونة بالشموخ والوفاء والأنوثة الجميلة المُتعالية: “لستُ غَيْـرَى/ أنتَ إن أحبَبْتَني/ عانِقِ الأرضَ، ونَـمْ في الفرقَدِ/ كلُّهُ حُبٌّ/ فصدري صدرُها/ وبها مِنِّيَ لينُ المسندِ/ وبها من حُرَقي أروَعُها/ رِعشةُ النارِ، وحِضْنُ الموقِدِ”. وفي نهاية القصيدة تحتفي الشاعرة بديمومة حبّها ووفائها، وبسخريتها المُرّة وتجاهلها تصرّفات عشيقها الشرقي: “أيّها الطفلُ الذي أعشَقُهُ/ أطِلِ اللّهوَ/ لتبْقى وَلَدي/ .. أنا أهواكَ كما أنتَ .. (https://swagatgrocery.com/) / استَرِحْ/ لا تُبادِرْني بِـعُذرٍ في غدِ”.

وفي قصيدة “مثلّث برمودة”، تتعلّق بحبيبها على الرّغم من مَعرفتها بالهلاك بين ذراعَيْهِ، فتقول: “صَدْرُكَ قاعِدَةٌ/ وذراعاكَ الضلعانِ/ تتلاشى أيُّ امرأةٍ تدخُلُ هذي الأكوان/ وأنا/ أعرفُ هذا/ وأظَلُّ لحبّكَ مشدوده/ بيْنَ ذِراعَيْكَ/ مُثَلّثِ برموده”.

نفحَتْ قصيدتها اللّميعيّة الومضاتيّة بالأنوثة الشامخة والمُشاكِسة والمُتمرِّدة، رافضةً عقليّة الرجل الشرقيّ وتفكيره، اللّاهث في استكناه هواياتها لاستدراجها، وحين يُهزَم أمام شموخها وعليائها، ينعتها بـ”جمع لا”، كما في قصيدتها المُمسْرَحَة العصيّة على الانحناء: “تدخّنين …لا/ أتشربين …لا/ أترقصين …لا/ ما أنت؟ جمع لا/ أنا التي تراني كلّ خُمول الشرق في أرداني/ فما الذي يشدُّ رجلَيك إلى أرداني؟”.

 امتازت لميعة بكاريزما خارقة في الإلقاء الشعريّ، لصوتها العذب المُمَوْسق وغنجها الأنثويّ وجمالها وطولها الشامخ كنخيل وطنها ميسان وحركاتها الدراميّة. وشكّلت قصائدها رافعةً لنهضةِ شعر المرأة ومانفيستو لتحرُّرها في مُجتمع الهَيْمَنَة الذُكوريّة. وبقيَت على الرّغم من الهجرة الاضطّراريّة مُلتزمة بقضايا شعبها ووطنها. فحَملت الهمَّ العراقيّ في أشعارها المُفعمة بالعاطفة والحنين القاسي. أَحبَّت بغداد حتّى النّخاع وقالت فيها: “وبغدادُ قيثارتي البابليّة/ قلبي وهُدبي عليها وَتَر/ لها في قلبي سحرُ كُهّانها/ وآثارُ ما قبَّلوا من حَجَر”. لكنّها قَضت نصف عمرها تُعاني وجعةَ الغربة الأميركيّة القاسية، التي قَتلتْ حضارةَ وطنها العراق، وقد رَحلتْ عن عالَمنا وهي تتحسّر: “أنا امرأة من دون ماضٍ. هذا التاريخ الطويل الذي حمل اسم العراق في محافل الأدب والشعر انتهى به المطاف للعيش تحت رحمة تقاعُد خدمة المُسنّين الأميركيّة، فإذا بيدي تمتدُّ للصدقات يرميها الذي قتل الحضارةَ للقتيلِ”.

 ***

(*) أكاديميّ وكاتب من فلسطين

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *