جوزيف الحاج نقلَ القلبَ الى الجَنوب

Views: 310

 الدكتور جورج شبلي

 

جوزيف الحاج الجَنوبيُّ الوَضّاح، الخازِنُ في ذاتِهِ سُمُوَّ الرّوح، هو من رُوّادِ الشِّعرِ الثّرِيّ، شاعرٌ راقٍ أَنتَجَ ما لا يَثبتُ في مواجهتِهِ غيرُ أَصِحّاءِ الذَّوق. لقد قدَّمَ مَذاقاتِ طُعومِ الشِّعرِ الشَّعبيّ، من دونِ أن يَخرجَ عن أنفاسِ النُّبل، في حين امتدَّت إليها شَهواتُ الآكِلين، مِنْ حَديثي ” الأَكلِ ” في الأزجال، ومِمَّنِ اتَّسَعَت دُورُهم، وورمَت أُنوفُهم على أَنقاضِ المَواهِبِ، ورداءةِ ذَوقِ الجِيل. فهؤلاءِ تسَبَّبوا في أزمةِ الخشونةِ، وعَصرِ الهُبوط، وجوزيف الحاج غَنّى غِذاءً للمَشاعرِ والأَذواق، وبهجةً للمَسامِعِ، بِفَضفاضِ الجَمال.

إنّ شِعرَ جوزيف الحاج يبعثُ الأنسَ الى النّفوس، حُلواً، عَذباً، بِما ينسجُهُ من أَلوانٍ تستفزُّ الدَّهشةَ، ومن اندفاعٍ بارِعٍ نحو صُنوفِ الإبداعِ الذي يُقيمُ معه رابِطَ محبّة، مُلتَزِماً بأن يكونَ حِبرُهُ وِعاءَ وِدٍّ للإبداع، وشِعرُهُ وَقفاً على عهدِه، ما يُشبِهُ النُّذورَ المقَدَّسة. وليس غريباً على مَنْ كانَ عِتادَهُ بهاءُ الرَّصفِ، أن يجعلَ كلَّ خَرزَةٍ من حَبّاتِ جُمانِ مَقاطِعِهِ، تَقتحمُ ما يَليقُ بها، لتبقى، في الأَذهانِ والأذواقِ، فوقَ ما يستطيعُ المُنتَشي نِسيانَه. 

في زمنِ رُكودِ الإبداعِ والتَعَفُّنِ في التّقليدِ والتّكرار، شكّلَ شِعرُ جوزيف الحاج حركةً إصلاحيّةً تحطِّمُ قيودَ الإتّباع، وتُطلِقُ عبقريّةَ الإبتكارِ الى المَدى الأَرحب، الى خارجِ قُمقُمِ القوالبِ الجامدةِ التي تستعبدُ الحِبر، وتمارسُ الرِقَّ على التأليف. إنّ جوزيف الحاج الواقفَ على ضفّةِ النُّضوجِ، والجرأة، والذي أُعطِيَ موهبةً أَخّاذة، لم يَضَعْنا، مرّةً، أمامَ فُتورٍ، وانكماشٍ، ورُكودٍ، في أدائِه، بل نرانا أمامَ انطلاقٍ متحرِّرٍ من تماثيلِ السَّلَفيّة، وهي، مع غيرِه، غِبُّ الطَّلَب، وكأنّ هذا الغَيرَ متأثِّرٌ بِما روَّجَتهُ الأسطورةُ بأَنْ لا خلودَ بدونِ شَرابِ الرَّحيقِ والكَوثر.

إذا أَقَرَّ بعضُهم بالذَّنبِ لأنّهُ امتَهَنَ الزَّجل، فالتَّوبةُ لا تَمحو ركامَ المُبتَذَلاتِ، وثِقلَ الصُّدوع. أمّا جوزيف الحاج الذي كان شِعرُهُ نزهةً للأَسماع، بِما بينَه وبين الجَمالِ مِن أَواصِر، فقد أَلبَسَ قصائدَه ديباجةَ المَلاحة، وحَلّاها بسحرِ النُّقوش، فجاءَت مَلافِظُها شَهداً، وبلاغتُها طَرَباً، ونَبراتُها أَطباقَ أَطايِب. 

 

القصيدةُ، مع جوزيف الحاج، لها طابِعٌ مِعماريٌّ من دونِ أن تأسرَها المادةُ المَكانيّة، فهي تبرعُ في تَزويجِ البَيانِ بالنَّغمة، وتأتي الصّورةُ لتُبارِكَ الزّواجَ بِرَشِّ الوردِ، وبالزَّغاريد، وبِذا، تنتقلُ قصيدتُه من موضوعٍ لِسَمَع، الى موضوعٍ لِمُتعَة.  ولمّا لم يكن، في منظوماتِهِ، مكانٌ للحَواسِ، ولكنْ لِصُحبَةِ الإنفعالِ بالإندماج، فالرّحلةُ الشَيِّقَةُ مع جوزيف الحاج، ترتقي بالذَّوقِ من ” أَحسَنتَ ” الى ” آه “.

في قصائدِ جوزيف الحاج، يُسْتَظرَفُ السَّردُ الرَّقيق، القريبُ من القلبِ ومن الفكر، وإذا كانتِ البساطةُ تريدُ ما تَحجُّ عليهِ الى الجَمال، فما لها سوى شِعرِ جوزيف الحاج. فالأوصافُ جذّابةٌ بأسلوبِها الذي يحملُ على تَشَهّي المُتابَعَة، وهي مُدَوَّناتٌ لأحاسيسَ تعتمدُ على دقّةِ الفكرةِ، وصفاءِ العَرض، وسهولةِ التّعبير، بعيداً عن السَّطحيّةِ والعاديّة. وأسلوبُ جوزيف الحاج، ليس جافّاً، فهو يصطبغُ بأَلوانِ الرّوح، سَخِيَّ الحركةِ، مُوَشّىً بحيويّةٍ تنبعُ من مشاعرِ الرَّجُل، ومن قُدرتِهِ على بَثِّ اللَّونِ في الأَسْوَد، والتَّمايُلِ في الجامِد. 

لم يَهوَ قلمُ جوزيف الحاج الرُّموزَ، بمعنى المَضِيِّ الى المُبهَمِ والصَّعب، فكَشْفُ حقائقِ العواطف، واستيعابُ عُروضِ الدّنيا، جَرَّدَهما الشّاعرُ من الأسرار، وتَفَيَّأَ قلبَهُ الذي زرعَه على الورق، شَفّافاً يحملُ السّلامَ، والمحبّةَ، والرقَّةَ، وصفاءَ الحياة، فنَبَتَ قلبُهُ في قلوبِ سامِعيه. لم يَمِلْ هذا الشّاعرُ الى التَّعقيدِ، والتَّقعيد، ليكونَ في عزلةٍ عن البساطةِ المُحَبَّبَة، وعن الصِّدقِ في البَسمةِ والدَّمعة، وعن الإِنطباعيّةِ البعيدةِ عن الصِّناعة، فعَبَقُ العُطور، وضَوعُ البخّور، وتراتيلُ النّور، هي التي تُسمَعُ في خَريرِ شِعرِه، لا تَنغيصاتُ المُبهَمات، وقَلَقُ السّوريالية، وطلاسِمُ الماورائيّات، فهذه، وإِنْ امتدَّ ظلُّها على بعضِ النّتاجات، لكنَّها، تحتَ زيتونةِ جوزيف الحاج، لم تكن هُتافاً لِرُحى معصرتِهِ.

جوزيف الحاج لم ” يَنكُشْ ” أرضَ موهبتِهِ بِمَعاوِلَ محَطَّمَة، لتكونَ أَثلامُ قصائدِهِ مُتنافِرةً، لا تعرفُ الى أينَ تذهب، ولم يُسايِرْ جَفاءَ الأصالةِ ليُقالَ إنّه زَجّالٌ ” عَالمُوضَة “، فالأصالةُ مَنجَمُهُ، والضَّيعةُ مَلعبُهُ، وعاداتُها سُدَّةُ عواطفِهِ. لقد راجعَ جوزيف الحاج رَونَقَ الطبيعةِ، هذا العالَمِ النّبيل، وتَمَلّى من خزائِنِها، فحازَ على صَكِّ الإِحاطةِ بجَمالِها، وبِما تزخرُ به أَلواحُها من تَجَدُّدٍ يُحَفِّزُ على الإعجابِ بِدَهشة. الضّيعةُ التي كانت مع الحاج صورةً ناطقة،  ارتدى قلمُهُ أثوابَها، وَضّاءَةَ الوَجد، أنيسةَ المَلمَح، فكان لها غَزوَةٌ مُنتِجَةٌ حوَّلَت قصائدَه خَلطَةَ جَمالٍ، في يَدِها مَقبضٌ يُديرُ جهازَ الإعجابِ في الأَذواق. إنّ الضَّيعةَ التي اعتنى بها، على البَرَكَة، لم تَرمُقْهُ بِغَيرِ نواظِرِ الشّكر.

جوزيف الحاج الرومنطيقيُّ النّزعة، كسرَت العاطفةُ حاجزَ رصانتِه، وسلَّمتِ القيادةَ لقلبٍ جديرٍ بها، وجعلت شِعرَه تقدُّميَّ الوجدان، يُذهِلُ بِتُحَفٍ يتَّقدُ فيها التزاوجُ بين يدِ الوَتَرِ ونغماتِ القلب، فكأنّه لا يرضى أن يمنحَ نبضَه يوم أَحَد. لقد شرَّشَ لَحنُ خلجاتِهِ في شِعرِه، ورسمَ بالأناشيدِ خارطةَ فردوسٍ يهتزُّ لروعتِهِ قاصِد، كما يهتزُّ من صِرفِ المُدامةِ شارِب. 

جوزيف الحاج، هذا الرَّقيقُ الإحساس، عرفَ كيف يختارٌ مفاتيحَ شِعرِه، فأَيُّ الأيامِ، معه، لم تكنْ مناسبةً لإِحياءِ الفرح ؟؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *