دراسة انطباعية حسية لرواية “واو الدهشة” للكاتبة السورية جهينة العوّام

Views: 162

غادة الشعراني

تباغتنا الكاتبة بداية في روايتها بكلمات ندرك معها واو دهشتنا مباشرة ، دون مقدمات فهي تؤكد لنا أن القواعد حَمل كاذب وشاهدها على هذا تلك الرقصات التي تولد من خارج التكهنات وكل الأحلام التي تبتكر مجسّات الحياة لأنها تمتلك ملاحقها السرية …فندرك معها معنى أن يخلق إنسان طريقاً لك لتظل ترصفه شهوراً فينسف كل الخطط والنظريات التي قررت تطبيقها لتتحول النظرات من إعجاب إلى شفقة…

(سلمى سعيد) المهجرة من الحب النازحة إلى السؤال سورية الجنسية صحافية ذات الـ ٣٦ عاماً والتي انتقلت للعيش في لبنان في بيت صغير في البقاع الغربي ، تبحث عن سِيَر حيوات من تصادفهم ، فالسيرة الذاتية من المناهج النوعية الهامة في العلوم الإنسانية والاجتماعية لعمق مؤشراتها وغنى مدلولاتها المعرفية في الميادين كافة ، هكذا أكدت صديقتها الدكتورة (مها) أو عرابتها فهي لا تشفع لها انتهاك القواعد الشرطية للبحث في المنهج العلمي ولن تتهادن ولن تقبل بحثاً أقل من توقعاتها …

تتحدث الكاتبة عن القرى الحدودية العالقة بين التهميش والتهريب وضبابية النسب وستتحدث عن الفلاحين السوريين تحت الاحتلال الفرنسي الذين هاجر أغلبهم وتقسمت بلادهم وعلقوا بين ثلاث دول / سوريا- لبنان- فلسطين/…

تقول الكاتبة : أن ولادتك على هامش التقاطعات تجعلك تحت قرصنة سير حياتية عالية الدقة فالسيرة الحياتية ليست إعادة تشكيل للذاكرة بل جمع معلومات من البيئة مباشرة من خلال مؤشرات تاريخية وثقافية معينة وتحليلها وتفسيرها فما يقلق الدكتورة مها فقر المكتبة العربية لجدال معرفي هام حول استخدام منهج السيرة الحياتية إذ واقع التلاقح العلمي بين ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية في مرحلة الحبو …

سلمى تجد أن اللغة أساسية بالنسبة للواقع فهي بقدر ما تعبر عنه فإنها تبقى عاجزة عن احتوائه ، لَكَم هو الفرق أن تكتب بعلم الكلام بدلاً من أن تكتب كلام العلم ، هي لا تستطيع تجنب لغتها الأدبية مهما حاولت فهي ليست عالمة اجتماع ولا تريد اختلاط الذاتي بالموضوعي لديها …

لاحظت (سلمى) أن ما يشغل الناس هو الحنين لزمن كان فيه الإنسان على قيد الحياة فذهبت إلى قرية (دير العواصف) الهادئة حد الضجر العميقة حد البكاء لتلتقي (رجا العارف) وكما يلقبه الجميع (جبران خليل جبران) …

(رجا) رجلٌ سبعيني ككتابٍ وقور ترفّع عن حفل إشهاره موقناً أن الوقت مسؤول فاسد يهمل كل ما عداه ، ينفخ الأمنيات ، يحشوها بالوهم حتى تفقع وتتدلى ممصوعة الرقاب …

 

(رجا) الذي حاول اكتشاف الأنثى فيها دون التفات فللأنثى في عينيه حاسة منفردة ما استطاع العمر ولا الخذلان وحتى العجز أن يقترب منها فقررت تحمّل جنونه الكسيح وطوافه حولها وضجيج العطش على أطراف السراب …

ردد (رجا) عبارته : ” أنت مضمَرة أنت معلَنة ” نصحها ألا تذهب للقبر وهي محملة بالأسرار والأماني فأجمل الكلمات تلك التي أُنزِلت عن ظهرها التفاسير والمرادفات وتركتها على جسد المعاجم فالخلاخيل الثقيلة لا تطرب ولا تغوي ، هو الواثق أن الله يكبر كلما كبر الحب والجمال والإيمان ، كلما كبر الوفا والدفا فينا فما حدث لنا سببه أن (الله مات) …

أهل قريته يخافون منه وينعتونه بالجنون لأنه (متحقّق) فما أراد كتابته على الورق عاشه …

عانت زوجته (سعاد) من مزاجه السيء وحبه للأنثى والجمال لكنها كانت حرة قالت له عند احتضارها بأنه بقدر ما كان متعِباً كان رجلاً فهو المحظوظ بخطبة وداعها التي انتهت بكلمة (أحبك) …

(سلمى) من أحب الأسماء لقلبه وقلب جبران فقد أكد لها أن تترك الأوجاع المتقاعدة وتذهب مع الجرح ، تتسامى للأعلى حيث يتمرغ البهاء مكلوماً من الفوضى والقهر ، فالعَوَز أن تذهب للموت بدون زوادة من الجمال …

يعانى (رجا) من الوحدة وكنوزه من تماثيل ورسومات لم يكترث لها إلا القلة … ظِلّ جبران يرافقه في كلامه وفنه وطقوسه ، لم يتكلم كثيراً وكان كتوماً متحفظاً لكنه لا يريد الموت وعلى لسانه حرف واحد لم ينطقه …

فحتى الهواء الذي يحرك طائرة ورقية ينشد حريته …

(سلمى) التي اشترت خيبتها الطازجة من منصات الضياع تراوح مكانها عاجزة لاكتشافها أن زوجها (عادل) ليس مخطوفاً ولا مقتولاً ولا معتقلاً فكان القهر المضاعف بقضاء ليالي القهر والبكاء وطرق أبواب المسؤولين وتجار الحرب بينما هو في بلد أوروبي يضحك ويشرب ويغني …

قررت العيش في بيت (رجا) لحاجته لأنيسٍ لوحدته ولحاجتها لرفيقٍ لهروبها …

(رجا) يعاتب أمه دوماً لعدم معرفتها عيد ميلاده لأنه يتمنى لو كان نفس ميلاد جبران (٦ كانون ثاني) ويتهمها بقلة اهتمامها وحبها … أمه (فخرية) نسبة لفخرالدين المعني الذي أحبه والدها ، تمتلك صوتاً جميلاً أكله اليباس …

أما والده (أبو سليم) الفلاح والراعي البسيط الذي حوله الظلم والقهر والذل بعد تعرض الفرنسيين له أمام أهله إلى (سعد القناص) فكانت آخر تسديداته التي أردت وحوشاً كثيرة الكابتن (سيمون) في منطقة (كرم أبو جسر) لأن اختبار الموت أكثر حضوراً من اختبار الحياة ، يخبىء بارودته الألمانية في كوارة القمح جانب عظمة من عظام الشيخ صالح ببركته وسره أعمى عيون حملات التفتيش عنه …

قررت زوجة سيمون الانتقام بحرق القرية وقتل كل ذكر فيها …

أكثر رجال قرى راشيا وحاصبيا والقرى المحيطة بهما انضموا إلى الثورة السورية الكبرى التي أعلن القائد العام ( سلطان الأطرش ) انطلاقها في ٢١/تموز/١٩٢٥ نحت قيادته …

تجمع ثوار الجبل في المقرن الشرقي وساروا باتجاه الغرب حتى مرجعيون وحاصبيا فانسحب الجنود الفرنسيون إلى الحامية في قلعة راشيا بعد معارك اشتبك فيها المجاهدون مع الجنود وانضم إليهم (سعد القناص) وانقسموا إلى أربع فرق حول القلعة للبدء بالهجوم …

نسف الجنود بيوت الأهالي الملاصقة للقلعة بالديناميت وأحاطوها بالأسلاك الشائكة حفر المجاهدون نفقاً عبر جدران البيوت المفصولة عن برج القلعة بالأسلاك وأحدثوا فتحات في جدران الغرف الخارجية المقابلة لسور القلعة كمتاريس لهم بينما عناصر الاقتحام تتولى قطع الأسلاك وتسلق جدار السور …

نفذوا الخرق بواسطة بنائين ماهرين وسقط العديد من الشهداء وأعلنت معركة راشيا فجر اليوم ٢٠/تشرين الثاني/١٩٢٥ قنص سعد فيها رئيس حامية القلعة (غرونجيه) وتمكن (الشيخ قاسم) من تحطيم باب القلعة بخمس ضربات من فأسه وإيمان سبعة أجيال من روحه …

حاصروا الحامية بعد تدمير خط الدفاع الأول وقطعوا طريق الإمداد فطلب الجنود النجدة باستخدام الحمام الزاجل لكن الثوار قنصوها كلها إلا واحدة نجت فوصلت إلى القيادة التي أرسلت طائرة حربية رمت بمناشير تطلب الصمود ريثما تصل المؤازرة ، سقطت المناشير بعيداً لخوف الطيار من الاقتراب فالثوار أسقطوا ببنادقهم ٤ طائرات مما توجب الحذر …

التقطت(مريم) إحدى المناشير وسلمتها للجنود دون دراية المجاهدين وقلدت وساماً فرنسياً لإصابتها في يدها داوى جرحها وفتح جراحات قرى بأكملها …

وصل الدعم ٢٤/تشرين ثاني/١٩٢٥ برئاسة الكولونيل (كليمان غرانكور) مما أدى لانسحاب الثوار وانتصبت لوحتان في الساحة العامة للقلعة تحمل إحداها أسماء القتلى الفرنسيين والثانية أسماء شهداء منطقة راشيا علماً أن أسماء كثيرة أسقطت سهواً أو عمداً لاعتبارات كثيرة فالشعار الذي أطلقه (سلطان الأطرش) : ” الدين لله و الوطن للجميع ” لا يعني كتبة التاريخ وليس صالحاً لحملات المهللين بالتقسيم…

تقول الكاتبة : إسهاماتنا ليست متواضعة في الوأد فبالتحري عن ظاهرة (الدعشنة) يؤكد أننا بتواطؤ حتى النخاع مع التوحش نبحث عن بصمات لكائنات فضائية لنسجل جناياتنا ضد مجهول ونكمل مشهد الحياد رغم انكفاء الجهات في نقطة العهر بينما تجترح المنابر دلالاتها تحت شعار ” الوطن أولاً ” …

تم تنفيذ تهديد زوجة سيمون فألقوا القبض على الشبان والرجال وتم سجنهم في القلعة ويطلقون النار عليهم ويرمون جثثهم في بئر قديمة داخل القلعة ردموها بعد ذلك بسنوات قبل خروجهم من لبنان …

أما الهاربون فقد ركضوا حفاة عراة بيوتهم وقلوبهم تحترق نحو مغارة أرشدهم إليها (سعد القناص) الذي خبر المراعي بين سورية ولبنان شبراً شبراً والذي أنقذ يومها طفلاً رضيعاً (يوسف) ابن (مهيبة) والتي رمته بدلاً من بقجة ثيابه لشدة الرعب فبات يدعى (يوسف الضايع) فكتب له ميلاداً جديداً وديناً برقبة أمه لسعد لن تنساه حتى الموت …

دخل المجاهدون بمرحلة الاستنزاف وعانوا نقص المؤن والذخيرة لكنهم لم يسلموا أسلحتهم فنفتهم فرنسا إلى الأردن لأكثر من عشر سنوات ليعود سعد إلى قريته بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦ وصدور عفو شامل عن (سلطان باشا الأطرش) ورفاقه فعادوا في ١٨/أيار/١٩٣٧

لم يعد (سعد القناص) ذلك الحصان الجامح كالبرق ولا القاتل الهارب من الشبهات وليس الراعي ولا الفلاح ولا الثائر ولا المجاهد ولا المنفي ولا العائد فهو الرجاء العارف أن لا رجاء …

فماذا يعني أن تكون ثائراً وتعود حتى دون صورة تذكارية تطعم عمرك للوطن لتجد نفسك تمثالاً نصفياً لا يزيد عن قبضة يدك على رف فقير بمشغل نحات مغمور مشغل اشتريته من ابن تلك السيدة التي باعتك وباعت ثورة أجدادك بوسام فرنسي …

سافرت (فخرية) مع زوجها (أبوسليم) إلى الجبل لتلبية دعوة وجهها الأمير (حسن الأطرش) لزوجها (سعد القناص) تكريماً لبطولاته في دار (عرى) حيث يقيم الأمير ، التقت فخرية بأسمهان حيث بدت لها من عالم آخر لا تشبه كل من عرفته ، أميرة … لا بل ملكة بل أكثر بكثير من كل ماسمعته عنها ووصفوها به فأخذتها الأميرة جولة في الكروم وقادت السيارة بنفسها فجلستا على صخرة كبيرة فوق تلة مطلة على قرية عرى عبرت عن اشتياقها لأخيها (فريد) بشدة وغنت (ياريتني طير لطير حواليك) فهو صاحب هذه الأغنية مع أنها كتبت لمطرب آخر …

أسمهان ذات الصوت الساحر الذي يمنحك بيدراً من شموس وندى شعرها يتطاير في الهواء وعيناها تتراقصان كمخلوق خرافي ساحر يمنحك جناحين ومدارات تصهر كل المحرمات والتهويلات والعيب فتقبل ببساطة سيجارتها  ولباسها وتمردها فتبرر لها كل أفعالها بينما فخرية (ياعيب الشوم) غنت مرة في البرية بكل وقاحة …

حكت دير العواصف عن الراديو الذي أهدته أسمهان لفخرية واستمعت النساء معها لدار الإذاعة الفلسطينية (هنا القدس) وقصائد عبد الكريم الكرحي والأخطل الصغير وإبراهيم طوقان وأغاني فريد الأطرش وأسمهان وعبد الفتاح سكر وأمير البزق محمد عبد الكريم وهذا كله قبل ولادة (رجا العارف) الذي ولد بعد عودة سعد القناص بعام ونصف ودخل المدرسة فتعلم على يد (الشيخ حليم) العارف بالأدب والعلوم والمحب للمسرح والشعر والرسم والتمثيل والحريص على النظافة والانضباط …

في ٢٢/تشرين ثاني/١٩٤٣ شاهد الحدث العظيم على مدخل قلعة راشيا لتنطلق الزغاريد والهتافات حين ظهور رجالات الاستقلال الذين اعتقلوا ١١ يوماً في غرف القلعة ، الشيخ بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح ووزير الخارجية سليم تقلا والنائب عبد الحميد كرامي الذي بقي على العنب والماء لأن وجبة أسنانه في ضيافة الضباط الفرنسيين وبقي بثياب نومه حتى وجد وزير الداخلية كميل شمعون ثوباً على مقاسه فكساه كما انضم وزير التموين والتجارة والصناعة عادل عسيران وصار الأطفال يرشقون الجنود بالحجارة وانضم رجا إليهم…

كان سعد القناص فرحاً بتكرار ٢٢/تشرين ثاني/١٩٢٥ معركة التحرير و ٢٢/تشرين ثاني/١٩٤٣ حيث صار اسم قلعة راشيا (قلعة الاستقلال) …

جبران كان يسكن رجا ويقاسمه روحه يقتحم عقله، حياته، رسومه،أحلامه،وجهه،وحتى هذه العاصفة ليخبره بظلم والده له مرتين مرة بموته ومرة بحرمانه المدرسة …

ضربه الشيخ حليم لأنه رسمه وضربه أبوه أيضاً جبران الذي آمن بثلاثة أشياء للمرء تعمل مالم يعمله شيء آخر في حياته : أمه المدهشة التي تركته وشأنه وماري هاسكل التي آمنت به وبنتاجه وأبيه الذي حاربه واستفزه للقتال ، جبران الذي رسم الاجساد العارية في لوحاته لأن الحياة عارية والجسم العاري هو أقرب وأجمل رمز للحياة فكأس الفن طافحة لكن الشاربين قليلون …

جبران الذي يرى أن الميت يرتعش أمام العاصفة أما الحي فيسير معها ولا يقف إلا بوقوفها فلو غير المرء خطوة في حياته لغير حياته بأكملها …

يقول رجا : الحب وشم سخي الملامح إذا دس حقيبته في كومة العتم انبجس النور من كل شقوق الحنين تقول الكاتبة : أن أية مخيلة مهما كانت خلاقة لن تنجح في اجتراح حياة ولن تفلح في استحضار الطرقات التي توصل للفجر ، كي يكون الإنسان فناناً يتوجب عليه رؤية الآخرين بعين ثالثة ، ليس المطلوب منا أن نكون مثاليين ولا يهمنا مايصفوننا به طالما نفعل مانحب …

العمل الممزوج بالحب هو أن تنسج الثوب بخيوط مسلولة من قلبك ، هو أن تنفخ كل ما تصنعه يداك بنسمة من روحك …

هناك من سرق جثة (سعد القناص) ليكتشف (رجا) أن الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة فتظنهم أحياء وهم أموات منذ البداية ، لكنهم لم يجدوا من يدفنهم فظلوا منطرحين فوق الثرى ورائحة النتن تُبعث منهم …

في (بعلبك) بات رجا دليل سلمى لتهجي عشق مدينة الشمس كان بمقياس الفرح بأجنحة متكسرة فما عاد مادة للبحث بل محطة غيرت حياتها وعلمتها نوعاً آخر للحب ووجهاً جديداً للحياة …

في (دير العواصف) تطوع الرجال للقتال في فلسطين في جيش الإنقاذ ضمن فوج تمركز قرب الناصرة لكن في ٢٢/تشرين أول/١٩٤٨ قام الأمين العام لجامعة الدول العربية بإبلاغ قائد جيش الإنقاذ (فوزي قاوقجي) أن المهمة قد انتهت فعاد الرجال إلى القرية يتحدثون عن خديعة وخيانات وعن ضعف التنظيم والتدريب وقلة الأسلحة وعدم فعاليتها فالكذب سيد وقور يُفسَح المجال له في الصف الأول وتُكال في حضرته المدائح …

لكن جبران يرى أن أفضل شكل للقتال هو رسم الصور وكتابة الشعر فورقة الشجرة لا تصفر إلا بعلم كامن من الشجرة كلها وكذلك المخطىء لا يأتي الخطيئة إلا بإرادة مستترة منا جميعاً فإن سقط أحدنا فهذا ليكون نذيراً يجنب من يسيرون خلفه حجر العثرة … فعندما أخبر ماري هاسكل عن وضعه (الكتاب المفتوح) ليفسر بأسلوب نبوي لجميع المسلمين أن الحكومة التركية تشكل شراً للإسلام كان يتوقع أن يقلب العالم ضده وكان مستعداً ومعتاداً على أن يُسمّر على صليب …

لم يجرؤ رجا على ذبح عنزة يختار لها اسماً ويحميها من الوحوش وتستنجد به لكن استطاع قتل وحش هاجمه ولم يترك له أي خيار وكأنه تتداعى لأذهاننا طوال سنوات الحرب في بلادنا تحليلات السياسيين والمفكرين والمنجمين وعلماء الفلك التي تركتنا كعنزات رجا العارف تستنجد ذبحاً رحيماً ليس إلا … فالاحتمالات في الحرب تتناسب طرداً مع العهر لأن الحرب ممالك السفلة ونحن فيها مجرد قردة لمخابرهم …

عاش (رجا) قصة حب مع (ماري) الممرضة المتمردة المجنونة التي لا تعرف الخوف وتتنفس الحب كفراشة سابحة التقاها في بيروت ثلاث مرات لكنه ودعها بكتاب (النبي) لجبران كتذكار لقصة حب قصيرة فاتهمته بالجبن والخداع وأنه ليس جديراً بحبها وأنها تضاهيه رجولة فعاد مكسوراً يبكي حبه الضائع …

كان عليه أن يدع الذين قلوبهم من عجين وأدمغتهم من مخاط يتلهون بمثل هذه الترهات فعارٌ عليه أن يشقيه حب امرأة وأكثر عاراً أن يسلبه قلبه مطران أو شيخ أقل مقاومة منه ، وأشد عاراً من هذا وذاك أن يندب حظه على مسمع الناس ويكثر من سكب الدموع أمامهم والتبرم من قسوتهم وما قسوتهم إلا ضعفه وما دموعه إلا إرادته المانعة فالناس دجاج لهم أجنحة ولا يطيرون وألسنة ولا يغردون ومخالب ولا يفتشون بها إلا عن الديدان والأقذار ، لا يبيضون إلا في أكنان تقاليدهم المظلمة وأنظمتهم النتنة …

كان عليه أن يتذكر بأن الحقيقي فينا صامت والاكتسابي ثرثار فالعقل اسفنجة والقلب جدول ، أفليس أكثر من الغريب أن الناس يؤثرون الامتصاص على الانطلاق …

سافر (رجا) إلى (البرازيل) في العام الذي نالت فيه كأس العالم ١٩٥٨ فعشق كرة القدم وقدم إلى (بيليه) الرائع تمثالاً نصفياً نحته من الخشب …

تعرف على متن الباخرة إلى زينة التي تصغره بخمس سنوات التي تغار الآلهة وجهها الجميل ومن الشامة التي كانت وشماً من قبلة إله تركها تذكاراً أسفل عنقها فالجمال هو المقرّب قلوبنا من عرش المرأة وعرش المرأة هو عرش الله فأكثر الأديان تتكلم عن الله بصيغة المذكر وعند جبران ورفيقه رجا فإن الله أم مثلما هو أب بل هو أب وأم معاً ، قد يدرك الله الأب بالعقل أو بالخيال أما السبيل إلى الله الأم فهو الحب …

جميعنا أبناء الحياة والحياة نقيضها العدم فالإنسان هو كل ما لم نعرف والحياة التي نحياها كل يوم هي المعبد وهي الدين فلنحرص كلما ولجناها أن نأخذ معنا كل زادنا وليكن معنا الناس جميعاً ينحت (رجا) الخطوط الدقيقة في الطين لشعر (سلمى) فيتجسد سؤاله السيريالي وهو ما تحتاجه ال (كن) لتصير (كون) ؟

ويجيب :

 الـ (كن) هي جذر ال (كون) ونحن لا نكون من دونها (كن) هي أول أفعال الخلق وأكثرها ديمومة لكن يستعصي علينا فهم الاختلاف بين الصيغتين وتلك فرادة اللغة فتتوهج وتطلق من فرادتها تلك الطاقة الخلاقة ليتوالد من رحمها وجمالها وجمعها هذا الكون ، كأن المفرد أساس الجمع الذي يتطلب التحقق بواسطة حرف وسيط يصل بين الكاف والنون ، هذه الواو المذهلة في قدرتها على الحمل والتوليد والتأويل فهي واو / العطف والمحبة/ ومن دون عطف تموت الأشياء فينقطع الوصل بالفصل كما واو الجمع أو الحال أو القَسَم أو النداء أو الندبة وكلها أقل من واو تخرج على قواعد اللغة وتقفز فوق قوانين النحو إنها /واو الدهشة/ وشرط الحياة …

الواو السحرية التي تعيدنا إلى طفولتنا ودهشتنا فنحن نشيخ حين نتوقف عن رؤية أو فعل مايدهشنا ولا يكتمل فهم الوجود إلا بالموت فبتأمل (كان) نجد أنه فعل ناقص لا يتم إلا بالموت ، كل وجود مؤجل إلا (كان) وحدها وجود اكتمل بالموت وإلا ما استطعنا أن نقول (كان) ، فالماضي يحكم صيرورة الحياة …

سافر (رجا) بعد أن باعت فخرية الراديو هدية أسمهان لأحد الأغنياء حتى تشتري حلماً طازجاً له فباعه (يوسف الضايع) لتاجر يهودي في البرازيل بثروة من المال …

شهد لبنان بعد سفره بشهور أخطر أزمة سياسية دينية تدخل فيها الجيش الأميركي بينما أبناء (دير العواصف) مغضوب عليهم لأنهم متهمون بمشاكل بين المعارضة والحكومة والبلد مقسوم لقسمين فالمعارضة حملت السلاح تطالب بالانسحاب الأميركي والاغتيالات فردية لأشخاص ينتمون إلى الحزب القومي حتى ٩/آب/١٩٥٨ حيث انتصرت المعارضة وانتخب الرئيس فؤاد شهاب …

الروائية جهينة العوام

 

غاب في البرازيل ٢٣ عاماً عصفت خلالها أحداث بلبنان غيرت تركيبته وهجرت وقتلت عدداً كبيراً …

أحداث كثيرة كالنزوح الفلسطيني ١٩٦٧ والحرب الأهلية ١٩٧٥ والاجتياح الاسرائيلي ١٩٧٨ فبأي حبر ستكتب تلك الكوارث  إن كان في البيت الواحد وجهتا نظر وبندقيتان فكيف الحال بالبلد الواحد بمشاريع عدة وأساطيل أديان وناقلات طوائف؟!!! …

عاد إلى لبنان في تشرين ثاني/١٩٨١ فوفى بوعده وتزوج ، زار السفارة العراقية في ١٥/١٢/١٩٨١ والتقى (بلقيس الراوي) زوجة الشاعر الشامي (نزار قباني) التي رحبت به واستمعت إلى سيرته وعرضت عليه زيارة ليتعرف إلى نزار …

بدأ اتفاقه مع صاحب صالة للتحضير لمعرض في بيروت ولم تمضِ نصف ساعة حتى حدث انفجار هزّ بيروت الغربية استهدف السفارة العراقية فكان حلمه بالمنحة إلى العراق إلى جانب بلقيس تحت الركام فرثى حلمه الذي تناثرت أشلاؤه وركض ليساهم في رفع الأنقاض وأمضى شهوراً من الحداد الحقيقي  وقع الاجتياح الإسرائيلي بعد معرضه الناجح بشهر فباتت المنحة مستحيلة ، تأزم الوضع في لبنان والعراق يخوض حرباً مع إيران ، توالت التفجيرات لمدة عامين استهدفت العديد من المصالح الأميركية في لبنان فقرر السفر إلى السعودية ١٩٨٥ ، كان وحيداً غريباً فالفرق شاسع بين الخلوة والوحدة ، في الأولى تتوحد بالكون كأنك جرم يدور وفي الثانية تسجل نفسك كائناً غريباً عن كل شيء …

فَقَدَ قلبه في البرازيل وحلمه في لبنان وفنه في الصحراء عمل في ديكور الجبصين ونحت حجارة ذات الشكل الهندسي ليصبح بنّاء بعد أن كان فناناً فالبيئة هنا تحرم التماثيل لفتاويها بأنها أصنام تعزف عنها الناس ليدرك أن قيده ليس من حديد واعتلاله ليس من سقم لكن قلبه عصي السمع يُورد لاءه الكبرى فيقتله النحيب … مات رجا وجبران فنياً في العمر نفسه ٤٨ عاماً …

عاد إلى دير العواصف ١٩٩٠ فماتت أمه بعدها بأيام ولحقتها زوجته (سعاد) بعد أقل من سنة ، (سعاد) التي أحبته حتى آخر الغفران وذكرها في كل مدارت الندم فقد أدركت أنها لا تكمله  لكنها لم تقف يوماً عن حبه …

اكتشفت (سلمى) أن الياسمين مثلها يشيب تاركاً في الطين شيئاً من صباه ، قررت إسدال الستارة على زوجها (عادل) بـ (طلّة) من مقام واااااو الدهشة …

أتى الصحافي المصري (جمال نصر) بنبرة متعالية ومتذاكية وعداوة الكار فلوث هواء (سلمى) لكنها لن تسمح له بتجاوزها فهي وريثة كل الحكاية …

(جمال) الذي رأى أن بيروت مثل القاهرة تقدم نفسها بحذر وأن دير العواصف لم تكن قرية صغيرة كما تصورها فهي في الربع الأول من القرن الماضي من مصادر التهديد للوجود الفرنسي في الشام لكن مظاهر التحديث طغت عليها …

(جمال) من الصعيد الأعلى حيث الذئاب والنسور والحملان جاء ليسدد نسبة مئوية من ملح خبزه فهو مصري ويحمل قلباً شامياً ، اكتمل تلذذه بهزيمة كبرياء (سلمى) فالكثير من العيوب التي نمضي وقتنا ملاحظين إياها في الآخرين ما هي إلا انعكاس لحالنا نحن …

لم تهتم (سلمى) إلا لسعادة (رجا) فالأرواح حين تتقابل تصير الأسماء بلا معنى ويزرع الحب كل مساحات الصمت وتتعامد الشمس مع الدهشة ويغدو جسد البحر عارياً وتتغسل الدروب بالصهيل …

أتى (جمال) ومعه حقيبة تحمل رفاة (سعد القناص) والد (رجا) فقرروا أخذ العظام إلى قلعة راشيا قبل دفنها والاحتفال بعودة قمر دير العواصف ، قابلهم على الباب الرئيسي لوحة تذكارية رخامية مكتوب عليها باللغة الفرنسية نص لذكرى (كونجي موريس) قائد الحامية الفرنسية في القلعة الذي قتله المجاهدون ١٩٢٥ فالقلعة للمجاهدين ولسعد القناص ليست مَعلماً ثقافياً وتاريخياً فحسب بل سجل حياة كاملة فهم ليسوا بحاجة إلى شهادة توثق مافعلوه أو أي نص معلق على لوحة رخامية …

ارتدت القلعة واو دهشتها كفيضان ضوئي يمكن لشخص أعمى معه أن يميز أحمر الورد عن أحمر خدي (سلمى) وعن أحمر الدم ، إنه الإحساس، رأت (عادل) بصحبة (الدكتور مها) صديقتهما المشتركة بين مجموعة سياح واستنفدت المفاجأة كل احتياط الصبر والحكمة في عقلها فالإحسان بالخذلان صعب جداً أما الخديعة فتطرحك أرضاً …

نصحها جمال أن تكون الآن أو ستندم كل العمر فتظاهرا بالركض متلاحقين يضحكان للفت النظر ، فتتعثر وتسقط على الأرض فيقترب (عادل) لتكون الصدمة ويكون الغضب لأنها لم تضيع ثانية من حياتها بعده …

بذر (رجا) رماد سعد القناص فوق السهول وأنهى خطبة وداعه بكلمة (أحبك) ثم قرر مساء تعليم (سلمى) السامبا فحفظة أسرار الحب يتكلمون بصوت منخفض وهامس ، الله وحده يعلم مايقولون ، هكذا قال جلال الدين الرومي …

دخل (رجا) إلى العناية المركزة ليعلن أن الكون والموت كلمتان من ثلاثة حروف بحذف الواو من وسطهما تتحولان إلى كُنْ – مُت بما معناه كن ذاتك لتحيا فالموت حين تختفي واو الدهشة وتكتفي بواو واهٍ واهن واو الموت كن أو مت إن لم تكن جديراً بكافك ونونك فالأجدى بك أن تموت حين تتوقف عن إدهاش نفسك (تبّت يداه من عن حلمه تاب) لتصير كافك ونونك بحجم كون صل بينهما بواو مدهشة ولا تتوقف عن إبهار نفسك بسرب من الواوات ، كن أنت الكون …

(الحب والمغامرة والحلم) بطانة الدهشة والإبداع كائن لا يقبل أن تشرك به شيئاً ، كائن لا يرضى بأقل من روح خالصة وإلا أدار لك ظهره وغادرك …

اللوحة العارية (لوحة روزا) أو (زينة) كما كانت تسمى في الشام التي وضعها (رجا) في المغارة لتظل قبالته ستكون عزاءً دافئاً وكافياً لها فهو لم يحرقها كما ظنت زينة بل حرقته بعشقها حتى آخر نبض له والكرتونة المعنونة (سريّ للغاية) بانتظارها بإحساس الأنثى …

فالرواية تكتمل بطول التأمل ، تمعن في الأشياء التي تنظر إليها بروحك فهي ترغب بمنحك روحها …

(جمال نصر) الذي سعى وراء سيرة حياة (رجا العارف) في البرازيل اكتشف أن رفاة (سعد القناص) تم بيعه من يوسف الضايع بناء لرغبة وولع سليمان زوج الدونا روزا (زينة) بالتاريخ والبطولات فطلب من أحدهم أن يجلب له شيئاً يذكره بما جرى في راشيا فقامت روزا وبحسب وصية سليمان بإعطائه إلى جمال نصر سليمان الذي ظل مديناً لرجا فبدونه كانت روزا قد رمت نفسها في المحيط ، حاول مساندته بشتى الوسائل لكنه رفض لظنه أنه بإيعاز من روزا فكرامته لا تسمح أن يتلقى مساعدات من امرأة لهذا لحقت به إلى غرفته في الفندق وطلبت منه رسمها عارية ولم تشعر بالخجل مدفوعة برغبة المنح ، وسمى اللوحة (الصمت) ، فعندما يكون الوجود مكيدة لا يستطيع العدم أن ينفيها …

(www.genusinnovation.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *