في الذكرى الثامنة عشرة على رحيله: إدوارد سعيد المفكّر العالمي الذي قارع الغرب بمنطقه

Views: 832

 د. جـان جـبـور

في الخامس والعشرين من أيلول 2003 أغمض ادوارد سعيد عينيه بعد مشوار طويل قاده من القدس حيث وُلد عام 1935 الى القاهرة فإلى الولايات المتحدة حيث هاجر عام 1951 وتخرج من جامعة برنستون ليشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة كولومبيا في نيويورك منذ العام 1963. هذا المثقف العربي المنغرس في عمق الحضارة الغربية اكتشف أن السلاح الأمضى لمناصرة فلسطين وقضايا العرب هي المعرفة، فانكب على البحث والتأليف لتتشكل مع الأيام من خلال نظرته الهادئة والعميقة المنطوية على حزن دفين صورة المثقف المستقل الحر الذي لا يخضع سوى الى سلطان العقل والحق. مات ادوارد سعيد مخلّفاً وراءه عشرات من الكتب والأبحاث والدراسات، أثار بعضها ضجة لم يثرها أي كتاب معاصر، كما حدث بعد صدور “الثقافة والإمبريالية” (1992) حيث طرح سعيد أفكاراً جديدة وجريئة حول هيمنة الإمبريالية على الثقافة الغربية على مدى أكثر من قرن من الزمن، وهي أفكار لم يتعود الغرب على سماعها من أي مفكر آخر. وكما حصل لكتاب “الاستشراق” (1978) الذي لا تزال ردود الفعل عليه مستمرة بعد مضي أكثر من 43 عاماً على صدوره. وهذا يدل على المكانة البارزة التي يحتلها هذا المفكر العربي الفلسطيني الكبير على خارطة الفكر العالمي.

حين صدر كتاب “الاستشراق” في الولايات المتحدة الأميركية أثار ردود فعل واسعة وأدى الى جدل مستفيض وسجالات متكررة في أميركا وأوروبا وفي العالم العربي بالطبع. ومنذ ذلك التاريخ، وبعد ترجمة الكتاب الى معظم لغات العالم، لم أعرف كاتباً تناول بالبحث موضوع الاستشراق وتشعباته السياسية والإيديولوجية إلا وكان كتاب سعيد علامة مرجعية في تحليله، إما معارضاً لأطروحاته وإما مؤيداً لها. وأضحى الكتاب بدون منازع المحطة الفاصلة في التأريخ للاستشراق. ولا يخفى في هذا المجال أن ردات الفعل الصاخبة في الغرب تركزت على هذا الكتاب بالذات لأن ادوارد سعيد المتشبّع بالفكر الغربي والمتمرس بمناهج النقد الحديثة الغربية تمكن من مخاطبة الغرب بمنطقه ولغته فقارع الحجة بالحجة بعيداً عن الخطابية الجوفاء أو اللغة الخشبية القائمة على الاتهام والانفعالية والتكرار.

 

المؤسسة الاستشراقية: علاقة القوة بالمعرفة

إن قوة هذا الكتاب، وإن تميّز بموسوعيته، تكمن في المنهجية. فسعيد لا يلجأ الى الاجتزاء أو الى التعميم، بل يعتمد على الوثائق الفكرية والسياسية والأدبية والتاريخية يستنطقها ضمن منهجية واضحة المعالم ليستخلص بعدها النظرية التي يتمحور حولها الكتاب بأن القوة هي التي توجّه المعرفة. في المنطلق يعرّف سعيد بظاهرة الاستشراق الغربي بمعناها الواسع (أي اهتمام أوروبا بالشرق) بوضعها في سياق تاريخي معين، هو حركة توسع أوروبا البورجوازية الحديثة على حساب أجزاء نامية من العالم عن طريق إخضاعها واستغلالها. بهذا المعنى تحوّل الاستشراق منذ نشأته الى مؤسسة مرتبطة بمصالح اقتصادية واستراتيجية حيوية، فأنشأت هذه المؤسسة أجهزتها العلمية والإدارية واكتسبت بنياناً فكرياً وإيديولوجياً تراكمياً ينطوي على تشكيلة من الفرضيات والتصورات والتسويغات التي يتم التعبير عنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال الانتاج الفكري والعلمي والأدبي والسياسي الذي تفرزه المؤسسسة المذكورة. لكن سعيد يميّز ضمن هذه الظاهرة بين مؤسسة الاستشراق، وبين الاستشراق بمعناه الأكاديمي-الثقافي الضيق، فلا ينتقص من أهمية الإنجازات العلمية الحقيقية التي حققها المستشرقون في ميادين كثيرة، كفك رموز المخطوطات القديمة وتحقيق عدد هائل من المخطوطات النادرة والتعليق عليها وترجمتها وحفظها، وصولاً الى نبش الآثار التي خلّفتها الحضارات المتعاقبة على الشرق. إلا أن هذا “البحث النزيه عن الحقيقة”  ساهم في جزء منه بنظر سعيد في ترسيخ الأحكام المسبقة والنظريات المغرضة في الميادين التي تناولت دراسة شعوب الشرق ومجتمعاته وثقافاته ولغاته ودياناته، وهذا ما يحاول فضحه مبيناً ارتباطه الوثيق بمؤسسة الاستشراق ومفنّداً مزاعمه حول تحليه بالموضوعية والاستقلال الفكري والحياد العلمي.

الثقافة في موضع الاتهام : الشرق الوهمي

 من خلال رجوعه الدائم الى الوثائق يقدّم الكتاب للمفكرين الغربيين الأصول الفكرية التي بنوا عليها تصوراتهم والتي تحولت الى مسلّمات أو بديهيات  لم يروا ضرورة لتقديم أي برهان على صحتها، فغلب على أحكامهم الناتجة عن هذه المسلّمات قوالب نمطية جامدة، وتكوّنت عن الشرق صورة خاضعة لأفكار ومعايير سابقة بعيدة كل البعد عن الموضوعية. من هنا يمكن الكلام على “تمثلات”، بحيث يتم تمثّل الشرق  -وتمثيله- من خلال مفاهيم وصور لا علاقة لها بالواقع في أغلب الأحيان، كونها انعكاس لرغبات ومشاعر تتأطر في أحكام يتم إلصاقها بالشرق؛ أي أن الخطاب لا يعكس  حقائق أو وقائع وإنما أوهاماً. إنه -وبكل بساطة- “خلق جديد للآخر أو إعادة إنتاج له على صعيد التصور والتمثيل”.

هكذا تسري وبدون تدقيق أو إثبات صور تلتصق بالشرقي كالتخلف والجهل والخمول والعدوانية والتوحش والتسلط والاستبداد والتعصب الخ. دون أن يشعر مطلقو هذه التعميمات بالحاجة الى إعطاء أي دليل على أحكامهم القاطعة، حتى ليغدو الاستشراق -على حد قول أدوارد سعيد- “شكلاً من أشكال  العصاب التوهمي (بارانويا) ومعرفة من نمط آخر مختلف عن المعرفة التاريخية العادية”.

إنطلاقاً من هذا الواقع يعتبر سعيد بأن الأدب والثقافة ليسا بريئين سياسياً أو تاريخياً، وبالتالي لا بد من تفكيك بنية الشرق في وعي الثقافة الغربية بعيداً عن التعميم والتنميط والفانتازيا والتعصب والعنصرية.

الثنائية الاستقطابية : نظرية الطبائع الثابتة

أما المقولة الثانية التي يتصدى لها سعيد فهي الثنائية الاستقطابية شرق/غرب التي سادت في الثقافة الغربية تحت عنوان “الطبائع الثابتة” والتي عززها الاستشراق باعتباره بنية معرفية ذات سلطة في فهم الشرق. ذاك أن كتاباً غربيين أكدوا على هذه النظرية من خلال الكلام على “عقلية غربية”  و “عقلية شرقية”؛ الأولى يحكمها المنطق وتنحو باستمرار باتجاه التقدم، فيما الثانية لاعقلانية سكونية تعيش حالة ركود دائم، الأولى تنسحب عليها مجموعة القيم الإيجابية، فيما الثانية  تخلو من أية قيمة إيجابية.  

والمستغرب في هذا  الإطار أن بعض المفكرين دعموا هذه المقولة بنظريات مستندة الى العلم (؟) كنظرية المناخ لمونتسكيو ونظرية التطورية لداروين، أو لجأوا الى ربط اعتباطي بين الجزئي والعام، بين الثابت  والمتحول، فإذا بمشاهدة عابرة أو حادثة فردية تتحول الى مصدر تعميم وإصدار أحكام لها صفة الطبيعة الثابتة. هكذا ينسحب سلوك فرد على سلوك الجماعة فيجري الكلام على “مزاج شرقي” أو “سلوك شرقي” هو أقرب الى الوهم منه الى الحقيقة الموضوعية. وتحصّن هذا التوجه  الفكري  خلف نظرة استعلائية سعت الى التركيز على المنحى الدوني للمجتمع الشرقي، فأبرز معظم الكتّاب صورة المهرجين والعوالم والغوازي  والبغايا والحريم والعبيد والأولياء الموهومين، وارتبط  الشرق بالاستيهامات الجنسية  وتكرّرت  التعميمات المضلّلة حول طبيعة المجتمع الشرقي كالشذوذ والفسق والشبقية. هذه الصورة عن الشرق تقود الى استنتاج أمرّ وأدهى ويتلخص في أن بعض الأمم لا تملك القدرة على حكم الذات، كما حلّل سعيد من خلال قراءته في فكر بلفور وكرومر. فبلفور يستعرض تاريخ الأمم الشرقية فلا يجد أثراً لحكم الذات فيها، وإنما عاشت في ظل الطغيان أو الحكم المطلق. ويخلص الى نتيجة تقول ان على الحاكم ألا يتهاون مع المحكوم لأن هذا الأخير يعرف أن صاحب القوة/الاستعمار يأتيه بالخير، وإن بدا من المحكوم ما ينم عن خلاف ذلك فهو مشاغب. وكما يقول ادوارد سعيد فإن أي مصري يرفع صوته هو من المحرضين، وأما المواطن المطلوب فهو الذي يغض الطرف عن ممارسات الاستعمار. وهكذا يبدو أن الفكرة المستقرة في ذهن بلفور هي أن الأجناس التي تخضع للاستعمار لا تستطيع أن تميز ما هو خير لها، ولا عجب في ذلك لأن الشعوب الشرقية ذات طبائع ثابتة وتفاوتها ليس تفاوتاً جوهرياً.

 

الشرق والإسلام والحضارة-النموذج

ويعالج سعيد كذلك في كتابه هذا الخلط الدائم بين الشرق والإسلام، فيرى أن  الصورة التي أنتجها مفكرو القرون الوسطى عن الإسلام راحت  تتكرر بما تحتويه من روايات واختلاقات وافتراءات تقارب  الأسطورة.  وارتبط الإسلام بمفهوم  التزمت والتحجر والتعصب، كما اقترن بالغزو والتوحش وعدم  التسامح. وبالرغم من خفوت نبرة الخطاب  الديني  المؤسساتي القائم على اعتبار الإسلام “هرطقة” والمسلم “كافراً” فقد ترسخت للأسف نظرية  الدين المعادي للحضارة والمعيق للتقدم والمقيّد للحرية، ولم  تنجح بالتالي الإيديولوجيا العلمانية التي نادى بها عصر التنوير في تغيير الذهنيات  لجهة تبنيها لمفاهيم أكثر عقلانية وتسامحاً، بل تبلورت إيديولوجيا ثورية حلّت مكان الإيديولوجيا الدينية وقوامها  تمجيد العقل والتقدم، فترسخت مقولة “التمحور على الذات” أو “الحضارة-النموذج” التي أعطت زخماً لنزعة الهيمنة الأوروبية على سائر البلدان وبخاصة بلدان الشرق، بهدف “تمدينها” وإدخالها الى الحضارة. وتنامت مع الوقت الفكرة القائلة بأنه لا يمكن للشرق أن يخرج من تقوقعه وتخلفه إلا بالاندماج بتاريخ الغرب. وكان لتنامي هذه الأفكار دور مؤثر في دعوات الاستعمار المباشر التي أطلقها عدد من الكتاب والتي ألبست الاعتداء على الآخر ثوباً حضارياً بتصويره على أنه هدف سامٍ: نشر مدنية العالم الغربي في العوالم المتخلفة.

هكذا يتصدى سعيد لموضوع شائك، وإنما بمنظور جديد، فبدا وكأنه يقاضي الغرب في عقر داره. لقد اعتمد في منهجيته الرجوع الى آلاف الوثائق، إلا أن الفكرة المحورية تبقى أن الاستشراق سلطة وقوة قبل أن يكون معرفة، إذ يقول: “وما أراه هو أن الاستشراق في أصوله، نظرية سياسية تسلّطت على الشرق لأن الشرق كان أضعف من الغرب… فالاستشراق  من حيث هو جهاز ثقافي هو عدوانية، ونشاط، ومحاكمة، ومعرفة. والشرق وُجد من أجل الغرب، أو هكذا بدا لعدد لا يحصى من المستشرقين، أصحاب الموقف المتعالي بخلاف الأثريين الذين كانوا ينظرون للماضي المشرّف”.

لقد تناول هذه الأطروحة بالنقد عدد كبير من الكتّاب، كان أبرزهم برنارد لويس وصادق جلال العظم وبشكل أكثر توازناً مكسيم رودنسون. وعلى الرغم من بعض المآخذ التي تبدو منطقية أو علمية على الكتاب، فإن “الاستشراق” يظل في أطروحته الأساسية متماسكاً في منهجيته وغنياً بوثائقه، وهو عن حق من أبرز الأعمال التي ظهرت في الحقبة الأخيرة.

ادوارد سعيد ظاهرة في عالم الفكر الحديث، لا ندري إن كانت ستكرر في الأمد القريب. لكن من المؤكد أن الرصيد الذي جمعه سيظل مشعلاً مضيئاً لا لفلسطين والعرب، وإنما لكل صاحب حق يعاند لاسترجاع حقه مهما استشرست غطرسة القوة على خنقه.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *