قراءة في ديوان “شفاه الريح” للفنانة التشكيلية والشاعرة التونسية “أسماء الشرقي”

Views: 590

 

غاده رسلان الشعراني

 

تبتدئ الشاعرة مجموعتها الشعرية بإقرارها أن الحياة فرح أما الحزن ما هو إلا اقتحامٌ كاذب …

هي دعوة للعودة إلى أصل معنانا وهو الفرح فلا تحزنوا …

قد اختارت عنوان ديوانها من إحدى قصائدها المترجمة للغة الفرنسية كتقدمة لمن غرقوا في البحر الأبيض المتوسط هروباً من الموت إلى الموت فالبحر قد انتشر في أرجاء شاعرتنا وأربك وقع المسافات داخلها مما أحدث ثغرة في الزمن اللا … آتٍ …

تعلن عودتهم كحضور دون عزاء وكغياب في لوح القيامة لتزهر أسماؤهم على شفاه الريح تتآكل ملامحهم وتعلق أصواتهم كمزامير ورقية و كزوابع مطر صيفية …

تتحدث في إكسير الحياة عن الجوع الذي يودي للتمرد والعصيان والخيانة فاللهفة ترسم تعاويذ النفس المحرومة …

والتاريخ مملوء بالخيانات يرتب الأنفاس ويتهجّى الأسماء عراةً متناثرين وشهقاتهم تائهة فالجوع يعلن ذاته إكسيراً لما تبقى من رفات فلسفة الحياة …

تتحدث شاعرتنا عن إفك القبيلة وكأنها ظلال الصدى تنوّه معها للعقليات المتحجرة التي تتمترس خلف قناع الدين والخلق القويم والتي تمتلك ريشة العنقاء لتستدل على خلودها الذي يعدّها لخريطة سياسية مليئة بالخيانات فتغدو ألحاناً وتتجسد ندوبها ملحمة بلا نهاية فكل المعاني لدى شاعرتنا تشكيلات موروثة آثمة …

تعلن بقوة أنها ابنة النار التي جابت في شريان الخلق لتكون فاتحة الشهوة وخاتمة العشق لتجسد ذاتها حواءَ المعنى فالمنافذ كلها لها لا يحجزها قبر ولا تراب …

هي إشراقة الكون تناجي عودة عهد الأنوثة ليحظى العالم ببهجة ألوانها من جديد ويستعيد الخلق نضارته بها …

حبيبها وحي الحبر في الظلام يشبهها في الغياب ليعود كرسائل التمتمات حين انتفاض الفصول ، يعيد الابتهاج ليتجلى سحر المقام ، يملك قلبها ويعيد بناء ضلوعها بعد أن أخفت تحت الجفون كل الجنون فيعلو النبض وتغدو عارية رغم الملام ، تسكب العطر وترسم الوقت وبحزنٍ يشبه الأوجاع في حزن الوطن تقتفي فجراً شفيفاً وتغدو آهاتها -بعض الخطايا- التي تحتويها ألوان الزمن …

الفنانة التشكيلية والشاعرة التونسية “أسماء الشرقي”

 

تتحدث شاعرتنا عن قطار العمر الذي نقضيه مرحاً وضباباً في الغياب وحلماً في الاغتراب ، عن ضيق الدروب ، عن مصادرة الممكنات ، عن سلب طفلة وجه المرآة والحلم والنوم ، عن عدم سماع صوتها في الزحام فالقطار يمر ويأخذ المحطة ويترك الحنين للمسافرين …

شاعرتنا لا تعرف شيئاً عن سر الإله لكنها تعرف أشياء عن بؤس الإنسان …

تعلن التناقض الذي يودي لتناسل المشاعر و الوله بين نار الشغف وبين زمهرير يستشهد بيدي المحبوب الدافئتين فالغيم نسل من وله العيون ، تعلن ذاتها شفاهاً للقيامة بين أشداق المحبوب لتطفو الكلمات في السواحل المالحة وتتعتق من الظنون …

عندما يغيب نبيذ العشق ورائحة السرير وتتخلى فاكهة التمرد عن عنادها تغدو شاعرتنا مومياء وكأنها نحتٌ لظلال المغيب يعدّ لها المحبوب كَفَنها و حتى تبقى فقداً ولا يبقى منها إلا قصيدها …

تختلي شاعرتنا وفنانتنا التشكيلية (أسماء الشرقي) بالسوريالي سلفادور دالي فتربك فراشاتُه دائرةَ الضوء ، تمنحها سر الأنا على شفاه الكون المغامر ، تغبطه المدارات بالفرح العبثي وتستوي لرؤاه عناقيد المرايا الآفلة …

يهيم بضحكات ريشتها ويمنحها الرقصة الأخيرة على البياض الموارب لحنايا دمها ويهيم بها …

قد شاركته جنونه المُعقلَن باستواء على هوّة الفكرة فانهمر اللون في تلابيب السوسن …

تعود بذاكرتها الكونية نحو نون التكوين وبدء الخلق الشامخ في نقصانه بتناقضاته كلها فوق الصخب وتحت الحطب

تلامس القلق والمراوغة والبريق والفرح وتهافت الصوت والإيماءات والجسد المسجون و عريه وتراقص الدخان والتململ واللعق وارتشاف الضحكات واتساع الأحداق …

فالنون في الباطن المكنون يحتمل كل المعاني …

نقارب في روح شاعرتنا صوفيتها الممتزجة بريشتها وحبرها فهي تمتلك بصيرة المعشوق ترى بها الغد ، تراه يسبّح في عمق الحشا مشتعلاً بين الفتيل والضياء لترتاد الدهشة فن الغياب والرعشة خلف الأبواب …

فلا نديم للأنا إلا الأنا ولا ذاكرة للغد إلا الأمس فيحتكر المعشوق المسافة بين برزخ الحضور وساحل الأبدية …

شاعرتنا التشكيلية لا تبتعد عن موسقة ما هو آتٍ بأصابعها الطينية لتشكل مفردات الصمت والحنين عساها تحترق بكلها المبعثر في الأجزاء وتتماهى وتتناهى إليه … إليها … إلهها …

كلاهما المعشوق وهي يتشابهان في العمق والجنون فيتهجيان أسرار الخلق في ليلهما الأسطوري

كلاهما في قبضة النار يحترقان بلجّها ويطفئانها بامتداد الخطى ، يرافقهما الوله مختلساً الحب فيَخفق كزهر اللوز …

تؤكد على الابتهاج حين تجسد الاهتياج في الرضاب ليتفجر عطراً في الماء ، ذاك المكان الذي لم يستطع استيعاب رحيل أنفاس المحبوب فلم يعد هناك مذاق إلا للشمع في حضرة الزمن المتناثر …

باتت أهداب المحبوب معلقة في عدمها وصار ظله خاتمة الماء والجنون وبراكين الوجل تحنو على أرجائها فالشك لدى شاعرتنا ما استطاع إنقاذ يقين الخلق من براءة الأشياء …

تعلن شاعرتنا جاهزيتها وتحضرها لحبها بنخب الحكاية وتوقد الدماء لتمضي عينا المحبوب بها نحو زهر النبيذ ويرتشفها ظله على مهل …

تبتهج بالبوح والاعترافات رغم الخجل وامتزاج الماء بالماء ونهولات العِبَر ليغدو غيثاً في رضاب الأرض وأرجوحة مد وجزر …

بشفافية عاشقة تتوسل همس المحبوب على شراشف وردة لتسقيه بركانها ويذوب حبرها في عيون فينوس

منحته مقام الولاية حين أينعت ضفافها لهباً فتهاوت خلية إثر خلية لتزهر حقولها في الهوى ثياباً مخملية

تتوسله أن يترفق بأوتارها بين ذراعيه ليعزفها سيمفونية لا تلامس ثورة الشهقة ويمدها ريشة مرتعشة حد الشفق

تتوسله أن يترفق بخجلها -ذاك الملهم- فقد أيقظت شموعه شهد ربيعها وغدا كل شيء جاهزاً لحبه …

عندما حلمت بخيانته أسقطوا عنها شبهة الحب ونهبوا منها طهارتها وأعدوا لها المقصلة وأزاحوا عن ليلها شغف شوقها …

لكنها أكيدة أن أثر الفراشة لا يزول وأن حمّى حبه لا تنطفئ …

وكواقع واضح المعالم حين تنتهك السلطة بياض الحب يسكن الموت في عيون من تحب …

تترجم حزنها بمنح قلبها منبر الدموع لكنها تعتز بأنوثتها التي تخطو به متسامية وتمضي ، فقد زرعت وعده بنبض الأغنيات …

تقول لمن يسألها عنه : أنه صخب الرماد على أجراس الريح فقد تلا تعاويذ فنائه في دمها و توّج حبه ألماً في قدرها و رمى سر الردى بين أجنحة الموج

تقول لمن يسأله عنها : أنها الرفيقة في المنفى فذنبه المكلوم في كف الندى ، يتهجى الروح وتضج الريح ويبكيها في عينيه ، يسقيها من غسقها وينادي : ألا تعري الروح قبل أن يصحو رماد البعد في برد الحنين وقد فقدت الشمس عينها …

فقدت محاجر روحها لمعانها وكل شيء بات قيد الاحتراق فأهدت بقايا ضحكاتها وكل أراضيها وسماواتها وأنجمها قرباناً للحظات مع المحبوب ولسرب الحمام الذي يسبح باسمه في هزيع ليلها الأخير

تتحدث شاعرتنا عن هيكلية سليمان القبيلة التي جعلت خيلها ملجأ بلا رثاء وجعلت قافية البلاد حبلى بالأنين

عرس الغمام برأيها لا يزال يحبو على مدارج السماء والإناث الكواعب لا زلن يتدربن على المسير في المجالس فالسادة قد بُعثوا من أجلهن ومن رحم الملكوت

السادة الذين يرفعون الكراسي ويؤمّنوا للقطيع ما طاب من المدافن ، الخبز والماء يجبرونهم على السجود لطواحين الوعود لأنهم حنطة العهود وثغاء الريح في إزار الغابرين …

تهدي شاعرتنا نبضها المتعب لأبي ذر في منفاه الأخير ، فتستبيح مدامع النرجس على تراب اللغة للوطن الشريد الذي يهشّ طلاسمه بعصا الوهم وتقتات عيونه من وصايا ابن آوى …

تهدي نبضها المتعب لكحل اليتامى الذي يروي زهرة أرباب السجايا ، تهديها لها وللمحبوب وللعابرين على سجاد المعنى …

تنزف شاعرتنا ، تستنسك بشفاه الله في ثوب النوايا ، ترى الله في يسارها الباهت يرتب خطى العشق نحوها ، تراه في طين البدء على جسر الرعاة يدل الغيب على سر الرعشة ، يهبه الدم المراق في الحنايا فيتوّجها درباً للأنواء علناً …

هو الواثب للروح قبل انهمارها في لجج بحار التيه والغرق فتطالبه أن يرمي جنونه في دمها حين يقال أنه يقَظان عصرها ونرسيسها المنذور للسرمدية …

تؤمن شاعرتنا أن الأرض عذاب عتيق ، جنازة محمولة على الأكتاف فنحن أبناء الوطن المسجّى يعرفنا التاريخ وتصغي إلينا المرايا فالثمار في يدها لا تنحني بل تخضر في ملح قرطاج وتستنشق كل العطور في القيروان …

تناجي خافقها لأن التاريخ لا يكفي لفهم الأسرار فنحن نحتاج قارئة الفنجان لنشق الغيب المرتقب ونغني في المنافي …

في معابر الفاتحين كان لنا مجداً من الغيث والعشب النامي في الأرباض و لحناً يزفّ شرف المناقب …

هي الشرقية من منبع فقه المجالس ، قلبها رغيف خبز الجائعين ، بنت أسد هي في الخلوات ، يخشاها الواثبون ، صَداقُها قيرواني تروي به كل ذي عزّة فالتاريخ فصول لا تمّحي وشهادة مكتوبة على أثير الصدى ونحن عقيق الأمس وريحان في كفوف القادمين …

تعاتب المحبوب طالبة أن يتذكر طوافها بعينيه السبع العجاف بعد كل عام وتستنسك بما تبقى من شفاه الشجر حتى لا تنسى خوفها الساعات الأخيرة في فصل الختام وأنشودة البعث التي تتدفق من صلب الشرايين فتَرجُم بغيب النوايا على مضارب قلبها …

تطلب إليه أن يتذكر صيامها بعد كل حول دهراً عن سناه وتملأ ثغرها بما ترك من أغاني الشجر فتقلّب أوراق زهرة شوقها وتدعو نبضها لتعلق أسرار غيبها في الليل … لكنها لا تلبث متراجعة لتتمهله ألا يتذكر …

فهو الأسمر الذي يعربد في دمها زهرةً خمرةً أرجوحةً لا تُمحى من ذاكرة المعاني ومن جدائل السوسن يقتفي خطى الأمس من أنامل أمها وخطوات أبيها وضفائر القمح الراكضة في حناياها ومن خيول الحكايات المخبأة في الجِرار ، عسل المرايا ، ريق الصبايا ، بسمة متلعثمة ، بهجة تختبىء تحت أجنحة القطاف ورقصة فراشات آخر ليل سرمدي …

تعقد شاعرتنا كف الماء لترى وجه المحبوب فغدا وجهها في مائه دخاناً … هكذا … فكلاهما أغلق نوافذ الشجر حتى تزهر في القاع كل الأسماء وتطفو البدايات أفناناً …

تناجي المحبوب لأنه واهب الروح سرّ المجازات ، تطالبه بتهيئةٍ لقافية البعث بجميل الأمنيات كي يجهش الماء بكاءً ويعيد من لآلىء لحظه تفصيل الحكايات …

ترى شاعرتنا الصمتَ اختزالٌ للمعاني بالحنين فالصمت نكون أن ولا نكون ، أن تقطع الغيمات خط الأفق راقصة وأن تتعانق الأحلام دون أن ننام فتتحول العصا لأفعى تلاحق الغمام ، في الصمت ينعتق التمني مثل خمر فوق الوجنتين عند بدايات الكلام ، هو شرك بالحدود والحجارة والشجر ، أن تمسك الصبار باليمنى وتقطع شوكة في إثر شوكة …

تتساءل عن الفؤاد المسافر هل يحبها أم لا يحبّ ؟ بل يحب … يحبها …

تتحدث عن (أوريكا) أم ملال … جنة الأطلس بين أجنحة الغرب منتزه طبيعي بنواحي (مراكش) تابعة لإقليم الحوز تتميز بشلالاتها وهضباتها الخصبة وبجذبها السياحي

تصفها الشاعرة بالذاكرة القوية والماء والأخضر الذي يسري بين الحنايا كأبدية ماثلة ، ترقص بلا ضباب يلبسها إلا هوامات ، سوى فضة سامقة وعيون حالمة من غبار السكون ، حين تمر على الكأس لحناً يصفق الماء و تتلو الحناء آيات النقش فالأطلس ينضح بتاريخ أممٍ نذرت جيدها لحمّال الحطب ، فما أجمل أن نموت واقفين لتقف لنا القبور …

تحتاج شاعرتنا لحب محبوبها لترسم زهرة على جبين النواة ، لتغدو سفينة دربها في عباب الممكنات ، لتضج نبذة روحها وهيجاً لرقص الحياة ، تحتاج حبه لتحب ذاتها وتهجر كل رفات ، فقد سكن نبعها ونام على خصر المجازات ، فتحتار الشاعرة أيّ الربيع ستختار نذراً ليسطو سحراً على فاكهة أيامها ويرسم خارطة للخيانات ويعدّ قتلى عصافيرها فاقدة النطق على أعتاب الكلمات …

فقد تهشم صوت رفيق الدرب فيها ونامت أوهامها على ضفتي طيفه ، يلهمها وجهه الغائر في جرح الشفق غصّة الأسى العائد من الحريق فلحنه غياب في خاصرة الطريق …

فالحب دينُ خزّافٍ نطق صمتاً بسحر النتوءات لتتشكل بين أصابعه أسرار الدهشة ، ولشيطان الوقت رائحة الكبريت هكذا همست نبتة الخشخاش الممددة على سواحل الأبدية …

تترك شاعرتنا بعضها للمجهول وترتد في القيعان ، تمد يدها للرماد فيتحسسها بعضها الآخر ، يعيدها صوب المخاض البكر ريحانةً في رحم الوله ، تعدّ بتلات الذكرى لرحلة ما بعد الحياة …

تصف ذاتها بالقديسة التي خانها الوحي فتمر القصيدة من الباب الخلفي للبعث ، تتختّل في جلباب الاستعارة حبلى بالمجاز ، تنجذب للهدير ، للثرثرة ، لأغاني (لوركا) فهي الناي المهادن لجدائل الوقت ، غجرية مثخنة بوصايا العذارى ، أنشودة المعنى المنفلت من الشغاف ، رمل العبور إلى الآخر المنسيّ ، سلالة المحار المجتاب لقبائل المحيطات يبللها الخجل ولا تستحي من البكاء …

تتنقل الشاعرة بين النثر والشعر فيعتلي المحبوب عرش فؤادها ويرتقي فيجلي حجاب الروح والأسرار ، تبصر عيون البدر صمته والحيرة تحفُّ بخافقها ، وخدها مترع بذِكره الذكي وحنين الروح ، تغازلها الدنيا ببارق حسنها وبلحظها تجني على أقدارها فشوق المحبوب مثابرٌ مغامرٌ واشتياقه لازمَ أسوارها فهي قد أعلنت عشقها ولن تقبل الصدّ ، هي تحبه وتحب همسه كالنجوم في مدارها ، وجدُه جداول وحدائق والصبابة جنّةٌ بقرارها هي …

النبض لدى شاعرتنا قافية تأوي إلى لغتها والشمس سمراء فكل النوابض نصف عارية تسري في بحر عيني المحبوب والأشواق فيحاء ، يرى اللهفة على شفاهها وبسمتها في سواد العين خضراء ، فكل المواسم تغفو تحت أشرعتها ونجمة العمر في كفها حدباء …

شاعرتنا متصوفة عتيدة يدركها العارف في مداد الحُجُب والمترف في عباب التجلي … فهي المحبوب والمحبوب هي كسرب حمام هائم في المدى بين أكمام الهوى فهو الآخر فيها مستفيض الحواشي الآتي من هناك إلى هنا ، العابر لسراديب المنفى …

فعندما يغدو المحبوب هي ، تكون مفتونة به ، يكون فيه التمني ، صحو الجمع ، بسط الرجاء …

تتمنى شاعرتنا أن تلثم روحُ محبوبها وجعَ الصخر في أحداقه وتحجب عن يديه تسابيح الوهم ، تتمنى أن تكون هدهده ، تنبئه باسمه فهو نورٌ أضاء إدراك ما كان وعتّق ريقُه وشمَ خيول الكلام ، عمّد شفاه النار ، هيّأ أجنحة قلبها للذوبان فليتها محبرة هيامه تمنحه أسرارها كلما اختنقت في دواتها الآهات …

تعود شاعرتنا لتتحدث عن وجع البلاد فالكل بلا اختيارات ولا اشتهاءات ، الكل عزّلٌ في كل صباح ، أصواتهم لا ترى ظلها في الهدير ، في الصعود والنزول ، في ارتجاف واضطراب النائحات ، فالطّور يقطع حدّاً والثور يأكل فهداً والجزْر يُرهق مدّاً ، والأم تحيك كفناً لولدها …

في مساحات البلاد يسّاقط أسلاف الذكريات على حنايا الجبل ، يردد الرعاة أغاني الحياة ويعود القطيع مساءً حاملاً رأس الشهيد ، حاملاً إفك البلد…

تعترف شاعرتنا أن قلبها لا يخشى الغرق ، ينثال الهمس ليسقي الفؤاد الأغنيات فتهتف للمحبوب ليأخذها لأرض صالحة ، للحلم ، للسفر ، للانعتاق

ولبلادٍ لا تتقن كيف تقلم مرايا أبنائها وآفاقٍ لا تعرف الانغلاق ، ليؤذن النبض فتصلي الأنفاس فلا قِبلة إلا لرقصة (زوربا) في أتون النفحات …

تعتصر شاعرتنا فاكهة حزنها من آخر لقاء مع المحبوب ، تعدّ على شرف غيابه أصابع وحدتها ، توزع العطايا على كل النساء اللواتي عبرن سرير حبره ، فلا ثيمة للوقت في متاهات الثرثرة …

طيفها مصاب بدواره ، مازال يهذي على مرمى اليقين فتلومه لأنه لم يعمّده بحمّى الهذيان … فقد رافقتها طواحين الأقحوان وهبّت خيولها لفرسان (دون كيشوت) والحوت الذي تاه في رداء النبوة أثلج حكايا الموج وعفا عن خطايا الحور ولم يبقَ من مقلتيهما سوى رمل الطريق وبعض الأغنيات ، لهذا تطلب من محبوبها أن يهبها يقين اليقين سبيلاً وأن يهيىء لها الملتقى كي تراه …

محبوب شاعرتنا وحيد كما الشوك على مضارب القطيع ، مثل المسيح على صدور أسفار يوحنا يقتات سره من الأسوار والعيون حبلى ، محاجرها نار بينما هم تتار من نسل أبي لهب ، فتُصلب الخيبات و تحرّض الأرض على الانهيار و يُقال في شظايا الحصون : لا تحزن ، دع البنفسج يمرر الضحكات ، دعه ينشر الريبة في الممرات ، دعه يسر الرواية ، يدس تفاصيلها في الأزقة المنسية ، في حفيف الشجر ، دعها تتبخر ، تنشد القادم ولا ترحل وحيداً كعابر لا يطاله الظل والهدهد المغدور لا يرى ، ينام ويشرب نبيذهم ، يطوف فوق الحروف ، ترهقه الفواصل ، يقدّ اسمه من وسن ولكنه لا ينام ويَنبُتُ غيمة في الأحلام …

تحنّ شاعرتنا لطفولتها بفستان قصير تحت الشرفة تشد ضفائرها يداعبها المرج وتدندن موال الصبا …

تحنّ لأمها التي توهمها بالغناء و بأن صوتها المرتعش عزفُ ناي وزقزقة ، وأن حشرجتها المزمنة زكامُ ليل موبقٍ وصدى لريح شتاء ، تنسى أمها أنها مرآة صباها وبأنها ما تبقى من موقد الشتاء …

تحنّ لأبيها فقد خبأت قلبها حتى لا يراها تكبر ، دست قضبانه في الشريان ، أغلقت أضلعها أول عمرها ، أودعت وميض عينيه لحقول القمح في مدينتها وانهمرت بعيداً ، اندفع صوتها بين شفتيها نبضاً لقلبه المكور في دمها ، باتت اسماً ممنوعاً من الصرف ، صارت نزيفاً لا ينتهي …

غدت شاعرتنا ومحبوبها خطُين على مرمى الرصيف والوقت المعربد بين الكفوف يحاكي الرغبة ، يحرضها على الجموح ليشتعل إيقاع المساء بفتنة اللا آتي المرتقب ويمضي الأمس لتتنازعهما تفاصيل العبور منتظرين ملحمة اللقاء …

الماء هو الماء ، فأصل الشيء جوهره ، والمحبوب يطلب شربة ماء بعيداً عن الهراء …

تقول شاعرتنا وفنانتنا التشكيلية بوعي الحبر والألوان أن زمن الفراشة لا يُرى ، كدهشة البعث ، كرذاذ القيامة ، هو النور بين وميض الفكرة وبوصلة المعنى وما نحن سوى رجفة المفردات وريشة بين مساحات التأويل ….

شكراً عالياً بلون الحبر والبهاء للشاعرة الجميلة والفنانة التشكيلية (أسماء الشرقي) لكل هذا البذخ والجمال …

شكراً لأني التقيتك كلمةً واعية سامقة …  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *