زكريا تامر وقصة بيروت

Views: 101

سليمان بختي

 

هذه القصة إسمها “بيروت” للقاص السوري زكريا تامر (1931) من كتابه “صهيل الجواد الأبيض” الذي صدر عن دار مجلة “شعر” في بيروت 1960.

يعتبر زكريا تامر أحد أبرز كتاب القصة في العالم العربي. وبدأ الكتابة قبل أن يكمل دراسته. كما عمل في مهن عديدة ومنها مهنة الحدادة في حي البحصة في دمشق. وهو كان يردد دائما “أنا إبن الحارات الشعبية”.

زكريا تامر

 

وبدأ في كتابه “صهيل الجواد الأبيض” وكان لم يزل يمارس مهنة الحدادة.

نشر قصصه في عدد من المجلات الأدبية في دمشق. كما أنه ترأس تحرير مجلة ” الموقف الأدبي”.

خاض زكريا تامر تجربة السجن والاعتقال والملاحقة إذ انضم إلى الحزب الشيوعي وطرد منه في العام 1956 بسبب إشكالية علاقة الحزب مع المثقفين.

سلمى الخضراء الجيوسي

 

وعلى خطى صديقه الشاعر محمد الماغوط ترك زكريا تامر دمشق وقصد بيروت ليلتقي الشاعر يوسف الخال وجماعة مجلة “شعر”.

 لفت زكريا تامر اتنباه الشاعر يوسف الخال الذي تبنى هذا الصوت الجارح القاسي والمرهف والقادم من دمشق والمصنوع بيدي “حداد”.

حملت الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي مخطوطة “صهيل الجواد الأبيض” إلى يوسف الخال وما إن إنتهى من قراءته وفي أقل من 24 ساعة فتح الباب الخشبي الذي يفصل بين مكتبه والمطبعة ودفع به إلى الطبع.

محمد الماغوط

 

 آمن الخال أن زكريا تامر يستطيع أن ينتج أفقا جديدا في القصة القصيرة. كما عرض عليه أن يترأس تحرير مجلة للقصة القصيرة كان يوسف الخال يفكر في إصدارها. كان ليوسف الخال وجماعة مجلة شعر اليد الفضلى في إكتشاف القاص الجديد وتقديمه. وهكذا خرجت أول مجموعاته “صهيل الجواد الأبيض” إلى النور.

في العام 1980 انتقل زكريا تامر إلى العيش في لندن ولم يزل. حيث يقيم في أكسفورد. واستمر يصدر مجموعاته القصصية وينشر مقالاته في العديد من الدوريات العربية مثل ” الدستور” و “التضامن” و”الدوحة” وغيرها. ويكتب تحت عناوين مثل “قال الملك لوزيره” و “خواطر تسر الخاطر”. كما تسلم تحرير مجلة الناقد التي أصدرها رياض نجيب الريس في لندن.

يوسف الخال

 

 له ” صهيل الجواد الأبيض” (1960) و”ربيع في الرماد” ( 1963) و”الرعد” (1970) و”دمشق الحرائق” (1973) و” النمور في اليوم العاشر” (1978) و”نداء نوح” (1994) و”سنضحك” (1998) و”الحصرم” (2000) و”أفف ” مختارات قصصية و”تكسير ركب” (2002) و”القنفذ” (2005)  و” ندم الحصان” و” أرض الويل” (2018) و” هجاء القاتل لقتيله” وكتب قصص للأطفال “لماذا يسكت النهر” (1977) و “قالت الوردة للسنونو” (1977) و37 قصة للأطفال مصورة 2000. ترجمت قصصه إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية والبرتغالية.

حاز زكريا تامر جائزة العويس  للقصة والرواية والمسرحية 2002. ووسام الإستحقاق السوري. وجائزة ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي 2009 وجائزة ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة.

 برأيه أن القصة القصيرة هي بحق الغرفة الأنيقة التي تحتاج إلى ذوق رفيع وحساسية مرهفة لتأثيثها بعناية وهي شكل من أشكال التعبير الأدبي القادر على التطوير والتجديد. أطلق بعض النقاد على قصصه مصطلح “الواقعية التعبيرية” واعتبره آخرون انه “شاعر القصة القصيرة”. وفي قصصه تيمة  أساسية هي “السلطة/ الاستبداد”.

زكريا تامر

 

أخيرًا، اخترت هذه القصة لأن زكريا تامر أحب بيروت حبا جما، ولأنه انطلق منها ولأنها احتضنته يوم لم يكن غير السجن بانتظاره في دمشق. ولأن هذه القصة تشبه زمننا اللبناني والعربي. وتشبه علاقة السلطة مع الناس في بلادنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وهي عن مدينة بيروت التي رآها زكريا تامر أنه “يوجد فيها ناس وحرية وصحافة وأحزاب ودور نشر وفرصة لمن يشاء أن يحيا حياة سعيدة” وأنها “مدينة الشمس”.  وكيف أن قدر هذه المدينة التي نجت من هولاكو ان تتعرض للمصير البائس عينه على أيدي رجال تفوقوا على هولاكو. قبل أكثر من 60 سنة كتب زكريا تامر قصة بيروت بما يشبه الرؤيا.

 

بيروت

زكريا تامر

 

   في ليلة من الليالي، استدعى هولاكو وزيره ومهرّجه، وقال لهما:” أنا ضجر، فاقترحا عليّ ما يسلّيني، وإياكما وأن تقترحا الغناء أوالرقص”.

   فتبادل الوزير والمهرّج النظرات الحاقدة، فقد كان كلّ منهما يكره الآخر، ويحسده على منصبه، ويدبّر له المكايد.

   قال الوزير لهولاكو:” يا مولاي… السجون مملوءة بالسجناء من مختلف الأمم، وهم يأكلون يوميا من طعامكم ولا يفعلون شيئا، وقد يزول ضجرك إذا أمرت بقتلهم، وهل هناك ما يسلّي أكثر من أن تتفرّج عليهم وهم يموتون، بعضهم يقطع إلى اجزاء، وبعضهم يسلخ جلده، وبعضهم يحرق، وبعضهم يخنق”.

   فصاح المهرّج:” أنا أعترض. هؤلاء المساجين أعداء مولاي هولاكو، وإذا قتلوا استراحوا من السجن، ومن يقتلهم يحقق لهم أمنية يسعدهم الفوز بها، والموت بالنسبة إليهم عذاب لحظة يخلصهم من عذاب السنين”.

هولاكو

 

   قال الوزير للمهرج متسائلا بحنق:”أتتهمني بخدمة أعداء مولاي؟”.

   فقال هولاكو بصوت آمر:” كفّا عن التشاجر، وإذا لم تعثرا فورا على وسيلة تسليني دفنتكما حيين في التراب”.

   قال الوزير:” الكتب القديمة تقول إنه لا شيء يسلّي أكثر من سماع الحكايات الغريبة”.

   فسارع المهرج إلى القول بثقة:” أنا لديّ حكاية جد غريبة، وإذا رويتها لك فقد يزول ضجرك”.

   فحملق الوزير إلى المهرج بغيظ بينما قال هولاكو للمهرج:”هيا أسمعني حكايتك”.

   قال المهرج:” في غابر الأزمنة، استولى أحد الملوك على مدينة من المدن، وكان ملكا عادلا يؤمن بأن الإنسان ولد حرا ويحق له أن يحيا حرا، فنقم سكان المدينة عليه، وتصنّعوا الاستسلام لمشيئته، مصممين على العمل خفية للقضاء عليه”.

   فصاح الوزير مقاطعا:”ما هذا الهراء؟ أمن المعقول أن يتذمّر الناس من الحرية والعدل؟”.

   فقال المهرج للوزير بلهجة تأنيب:”حين تكون الحكاية تروى لمولانا هولاكو، فمن الطبيعي أن يكون الناس كارهين للعدل والحرية”.

   قال هولاكو لمهرجه:”تابع حكايتك”.

المهرج

 

   قال المهرج:”إبتدأ أهل المدينة يتآمرون ضد الملك، ولكن كل محاولة للخلاص منه كانت تؤدي إلى هلاك الكثيرين منهم، فساد القنوط، وقرر معظمهم الهرب والرحيل بعيدا، ولكنهم لم يعرفوا أرضا خصبة يقصدونها وتصلح لإقامتهم. فقال لهم جواد أبيض: أنا أعرف مكانا مثل المكان الذي تبحثون عنه”.

   قال هولاكو لمهرجه:”ما هذا الكذب؟ الجياد لا تتكلّم”.

   قال المهرج:”الجياد كانت تتكلم، ولكنها امتنعت عن الكلام خوفا من مولانا هولاكو”.

   فابتسم هولاكو، وقال: “أكمل رواية حكايتك التي يبدو وأنها ستزيد من ضجري”.

   قال المهرج: “لما سمع أهل المدينة كلام الجواد، فرحوا، وقالوا له:”وأين هو ذلك المكان؟ قال الجواد الأبيض: لا أعرف. فقالوا له باستياء: ما هذا الكلام السخيف؟ كيف تقول إنك تعرفه ولا تعرفه؟ قال الجواد الأبيض: جدي أخبرني به قبل وفاته، وقال لي: أركض صباحا نحو الشمس لحظة تشرق، واستمرّ في الركض، وحين تهوي على الأرض منهكا فهذا دليل على أنك وصلت إلى أروع مكان. فتشاور أهل المدينة مطوّلا، ثم قالوا للجواد الأبيض: غدا صباحا أركض نحو الشمس وسنتبعك. ولما أشرقت الشمس في صباح اليوم التالي، ركض الجواد الأبيض نحوها بأقصى ما يملك من قوة وسرعة، وتبعه كثيرون من أهل المدينة يسيرون غير آبهين لما في طريقهم من مشاقّ، صابرين على التعب والإرهاق، ولم يتوقفوا عن المسير إلا لحظة شاهدوا الجواد الأبيض طريحا على الأرض يحتضر، فتطلعوا فيما حولهم، فتبين لهم أن الجواد الأبيض وجده لم يكذبا، فالأرض التي بلغوها كثيرة الماء والشجر، تقع على شاطئ البحر، فقرروا الإقامة فيها، وشيدوا مدينة صغيرة تشبه زهرة وأغنية، وأطلقوا عليها إسم الجواد الأبيض، وكان اسمه بيروت”.

   صاح الوزير قائلا للمهرج بنزق:”ألا تخجل من الكذب على مولانا؟ هذه الحكاية عن بيروت ملفقة، أما الحكاية الحقيقة فهي مختلفة”.

   قال هولاكو لوزيره:”وما هي  الحكاية الحقيقة؟”.

بيروت

 

   قال الوزير:” في قديم الزمان، عاش أناس على شاطئ بحر قريب من جبل صخري شامخ، وكانوا سعداء على الرغم من أنهم كانوا لم يبتكروا بعد لغة يتخاطبون بها، فصيحاتهم المتباينة علوّا وانخفاضا ورقّة وحدّة كانت وسيلتهم الوحيدة للتفاهم فيما بينهم، ولم يكونوا يقطنون البيوت، فحين يأتي الليل يأوون إلى الجبل القريب وينامون في كهوفه، وكان طعامهم من ثمار الشجر ونبات الأرض وبما يصيدون من الحيوان والسمك.

   وفي يوم من الأيام، غطت سماءهم سحب سود كثيفة فحدّقوا إليها برعب وعجب، فالوقت صيف وليس هذا أوان قدومها، وتجمعوا جسدا واحدا مرتجفا لحظة تعالى هزيم الرعد، ثم تساقطت من السحب بيوت ذات غرف وجدران وسقوف ونوافذ، وانحدرت إلى أسفل على مهل كأنها مالكة لأجنحة قوية، واستقرت على الأرض، لتلتصق بها، وتصبح بمجموعها مدينة صغيرة وديعة، فتصايح الناس فرحين مدهوشين، وهرعوا إليها، وأقاموا بها نابذين كهوف الجبل. وفيما بعد، تمكنوا من ابتكار لغة خاصة بهم، فأطلقوا على مدينتهم إسم “بيروت”، وكان الإسم في لغتهم السائدة آنذاك هو وصف لمدينتهم بأنها ابنة السحاب.

   فتثاءب هولاكو، وقال لوزيره ومهرجه:”يا لكما من أحمقين! أتحدثاني عن بناء المدن وأنا المختص بهدمها؟ قولا لي: ماذا يوجد في بيروت؟”. (aaplumbingsa.com)

   قال الوزير:”لا شيء فيها مهما. يوجد فيها ناس وحرية وصحافة وأحزاب ودور نشر وفرصة لمن يشاء أن يحيا حياة سعيدة”.

   فضحك هولاكو، وقال:” غدا سأرحل إليها مع جيوشي وسأهدمها وأبيد سكانها”.

   ولم يتح لهولاكو تنفيذ وعيده لأن الموت وافاه في الليلة نفسها، ولكن بيروت لم تنج من الهدم والسبي والقتل على أيدي رجال يقال لهم إنهم تفوقوا على هولاكو.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *