بورخيس والمجد الروحيّ لـ “بن عربي”

Views: 377

أحمد فرحات*

 

هذه هي الحلقة التاسعة، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميّ كنتُ أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في باريس في العام 1978 وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصلٍ أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوِباً بحماسةٍ مع جَدَلِ الأسئلة والأجوبة والمُناقشات المُتولّدة، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه “الشابّ العربيّ الأكثر قراءةً واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحوِرة فيها”، حسبما أخبرتني بذلك في ما بعد الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر، على الأرجح، هو الذي فتح لي باب الصداقة الواثقة معه، والالتقاء به مراراً في ما بعد، إنْ في باريس أو في جنيف، المدينة الأحبّ إلى قلبه، والتي مات ودُفن في “مقبرة الملوك” فيها عام 1986.

دار هذا الجزءُ من الحديث مع بورخيس حول ظاهرة محي الدّين ابن عربي، شيخ المتصوّفة الأكبر، وفيلسوفهم، وشاعرهم المبرّز الذي ضجّ به العالَم القديم امتداداً إلى عالَمنا اليوم، شرقاً وغرباً. وابن عربي من مواليد مرسيّة في الأندلس في العام 1164. ومات في دمشق ودُفن في جبل قاسيون المطلّ عليها في العام 1240، وتحوّل قبره إلى مَزارٍ يحجُّ إليه الكثيرون على مَدار العام، من داخل سوريا وسائر بلدان العالَم، ويُقال إنّ الأديب والمسرحي الإيرلندي الكبير جورج برنارد شو كان قد زار ضريح ابن عربي في العام 1925، وهو العام الذي فاز فيه بجائزة نوبل للآداب.

 

وسألتُ بورخيس: كيف كانت سيّدي، صلتكم بمحي الدّين ابن عربي، القطب الصوفي الأكبر و”فيلسوف شمس الروح البشريّة المُطلقة” على حدّ تعبير الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث؟.. أجابني:

محي الدّين ابن عربي هو قطبنا جميعاً، نحن معشر الشعراء والأدباء والفلاسفة ورموز اليوتوبيّات الصوفيّة، وغير الصوفيّة، ممَّن أَتينا بعده على مرّ القرون والعصور. هو بعبارة أخرى رجل مؤتلف الأديان وأنساق الروحانيّات وتكاملها بعضها ببعض، بما في ذلك الأديان الوثنيّة والأديان الوضعيّة، بخاصّة القديمة منها، وفي الطليعة بينها البوذيّة. وممّا زاد يقيني في ذلك أنّ بعضاً من الرهبان البوذيّين كان قد زارني في جنيف في ربيع العام 1979، وكان من أبرز ما ردَّده كبيرهم أمامي، أنّه يعتبر نفسه أحد التلاميذ المُبتدئين والقُصَّر في حضرة مَقام إمام المحبّة وصحنها الأوسع الشيخ محي الدّين ابن عربي، وأنّ العديد من نصوص هذا الشيخ المُتسامي تحيا فيه ويحيا فيها.. لا فَرق، إنّما، طبعاً، وفق مجرى ديانته البوذيّة الخصوصيّة.

وأشار محدّثي الراهب البوذي الكبير – والكلام لبورخيس – إلى أنّه كان ولا يزال، أكثر انخطافاً بالأسفار: الثالث والتاسع والحادي عشر والعشرين والسادس والعشرين من “الفتوحات المكيّة”، وكذلك بالعديد من الأبواب التي تتضمّنها أسفار هذه الفتوحات العظيمة.

واسترسلَ الراهبُ البوذي يقول إنّه وَجَدَ في كِتاب ابن عربي “فصوص الحُكم” كَوناً فلسفيّاً روحانيّاً داخل الكَون.. كَوناً يتبعه كلّ شيء ويتبع هو – أي ابن عربي – طموحاته الكبرى خلاله، وعلى طريقته العرفانيّة فائقة التحليق والمُكاشفة.

وثمّة راهب بوذي آخر من رهبان الوفد الزائر حدَّثني هو الآخر عن أنّه مفتون بكِتاب “شجرة الكَون” للشيخ محي الدّين ابن عربي؛ وأنّه دائم الغَوص بأسئلته الروحانيّة ذات الطقسنات المُفارِقة بأبعادها الامتثاليّة والسريّة والذوقيّة.

… وبينما تركتُ بورخيس يأخذ رشفةً متمهِّلةً من كوب الشاي الأخضر الطويل أمامه، قلتُ له بعدها: سيّدي، تُرى من أين استقى هؤلاء الرهبان البوذيّون بعض مَعارفهم شبه التفصيليّة عن ابن عربي؟ هل كان ذلك عن طريق الفلاسفة الأوروبيّين من أمثال الهولندي باروخ سبينوزا، والإيطالي جوردانو برونو، والألماني ميستير إكهرت، وكلّهم كما تعلم، تأثَّروا بالشيخ الأكبر، ولاسيّما بنظريّة وحدة الوجود عنده (خصوصاً سبينوزا) وكذلك بنزعة الحبّ الإلهي لديه (خصوصاً برونو)..؟ أَطرق بورخيس بعض الشيء ثمّ قال معلّقاً:

ما تفيد به أيّها الصديق ربّما يكون صحيحاً، فتعميم النِّتاج الصوفي لابن عربي في زمننا الحالي، وعلى مستوى العالَم، غرباً وشرقاً، جاءَ عن طريق الأوروبيّين من فلاسفة هولندا وإيطاليا وإسبانيا، ثمّ لاحقاً عن طريق بعض فلاسفة ألمانيا ومُفكّريها. وألمانيا اليوم هي الدولة الأوروبيّة الأولى التي تهتمّ الدوائرُ الفلسفيّةُ والفكريّةُ والأكاديميّةُ فيها بمصنّفات ابن عربي اهتماماً قلّ نظيره، وفي الطليعة بينها أسفار: “الفتوحات المكيّة” حيث تحظى بإقبالٍ شديد وغير مسبوق من أصحاب الميول الفلسفيّة والصوفيّة الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة.

على مستوىً آخر، كان قد وَصَلَ تأثيرُ ابن عربي إلى شبه القارّة الهنديّة، ثمّ الصين كذلك، فاندغَم المُسلمون الصينيّون بصوفيّة الشيخ الأكبر، بدءاً من القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وأسّسوا هناك مدرسةً صوفيّةً صينيّةً تَستلهِمُ أطاريح ابن عربي ومَراتِب علومه ومُنازلاته التأمّليّة، وصلَ رشاش تأثيرها حتّى إلى أتباع الديانة البوذيّة/ الشنتويّة في اليابان. وقد أَطلق المثقّفون الصينيّون واليابانيّون على هذه المدرسة اسم “كِتاب هان”. وكان المفكّر والأديب الفرنسي الكبير أندريه مالرو واحداً من كِبار العارفين بأطوار هذه المدرسة الصوفيّة الصينيّة ومُتتبِّعي تعاليمها وطقوسها، وحتّى نِتاج الفنّانين التشكيليّين والنحّاتين فيها، إلى جانب طبعاً ما كانت تبثّه هذه المدرسة من تعاليم فلسفيّة روحيّة مُستقاة من المجد الروحي والأسرار العظيمة لمحي الدّين ابن عربي.

هنا قاطعتُ بورخيس قائلاً له، أودّ أن أذكّرك سيّدي بأنّ الاتّصال الثقافي البوذي – العربي يعود إلى ألف سنة قبل ظهور الدعوة المحمديّة في شبه الجزيرة العربيّة، وذلك عن طريق الجماعات الهنديّة الوافدة من أرض الهند مَوطن نشوء الديانة البوذيّة (مع بوذا سيدهارتا غوتاما 566 – 455 ق. م.) إلى الموانىء العربيّة منذ القرن السادس ق. م. ولاسيّما ميناء البصرة في جنوب العراق، حيث كانت تقيم أيضاً في البصرة نفسها، وبشكلٍ ثابت، جالياتٌ هنديّةٌ تعمل في التجارة. ولكنّ هذا الاتّصال وقتها كان ضعيفاً بالطبع، ولم تقوَ شوكته إلّا بعد ثلاثة قرون من ظهور الإسلام، وتحديداً مع واصل بن عطاء (700 – 748) مؤسِّس مَذهب المُعتزلة الذي تعرفه أنتَ جيّداً سيّد بورخيس. ثمّ في ما بعد مع الكاتِب عمر بن الأزرق الكرماني الشارح الأوّل للتعاليم البوذيّة في وسط الجمهور العربي والإسلامي خلال الحقبة الأمويّة. أمّا في الحقبة العبّاسيّة، وتحديداً في منتصف القرن الثامن الميلادي، فكان الاتّصال الثقافي البوذي – العربي الإسلامي أقوى وأفْعَل، وقد اتَّخذ شكلَ هيئة باحثين مؤلَّفة من الطرفَيْن، تَشرح وتتناقَش في الأمور المُعتقديّة وغير المُعتقديّة برحابةٍ عقليّة أَظهرت ثقةَ المُسلمين بدينهم وتسامحهم مع الآخرين، من بوذيّين وغيرهم من أصحاب دياناتٍ وضعيّة مُشابِهة.. ماذا تقول؟

هنا علَّق بورخيس على تساؤلي المطوَّل قائلاً إنّني ربّما أخذتُ الحوارَ إلى مَواضِع أخرى، رآها هو مهمّة طبعاً، لكنّه لم يتوقّعها، مُردِفاً: ولكنّني سأجيبكَ أيّها الصديق العربي؛ نعم، العبّاسيّون، والأمويّون من قَبلهم، كانوا على درجةٍ عالية من الثقة بأنفسهم وبمشاريعهم الإمبراطوريّة والدولتيّة. فعندما قرَّر، مثلاً، المنصور الخليفة العبّاسي الثاني (حَكَمَ من العام 754 إلى العام 775) بناءَ مدينة بغداد (ومعناها بالسنسكريتيّة “هِبة الله”) التي طبَّقت شهرتها الآفاق في ما بعد، استقدمَ مُهندسين معماريّين هنوداً مُعظمهم من البوذيّين، وقد حرصوا على أن يكونوا أمناء جدّاً وعلميّين جدّاً جدّاً لما أوكلوا به، وكان الخليفة المنصور يُشرف بنفسه على مخطّطاتهم وعلى حركة البناء والعمران في المدينة التي صارت لاحقاً عاصمةً مركزيّة للإمبراطوريّة العبّاسيّة. وأَكمل الخليفةُ المنصور فعلَه الحضاري التنفيذي ببناء “بيت الحِكمة”، وهو بَيت التثاقُف التاريخي الأوّل بين العرب واليونان والهنود، حيث خَرجت منه كُتُبٌ فلسفيّة وطبّيّة وأدبيّة وعِلميّة مُترجَمة إلى العربيّة، كان لها ما لها من انتشارٍ حضاري تنويري مُفيد لكلّ الجماعات والأقوام.

ثمّ جاء الخليفة المهدي العبّاسي (حَكَمَ من العام 775 إلى 785) الذي كان قد دعا وقتها إلى “بَيت الحكمة” في بغداد مُترجِمين مرموقين من الرهبان البوذيّين من سكّان الأديرة البوذيّة في شمال الهند، وطلبَ منهم ترجمةَ أهمّ المخطوطات الطبيّة المدوَّنة باللّغة السنسكريتيّة إلى العربيّة. وفي المناسبة كان الطبّ متقدّماً جدّاً في الوسط البوذي الهندي، وقد حرص العبّاسيّون على الاستفادة القصوى من الخزانة الطبيّة البوذيّة تلك وبخاصّة منها كِتاب “محيط التحصيل” للراهب البوذي الأحمر “رافيغوبتا”. كما اهتمّ البوذيّون بصفة خاصّة بالاكتشافات الفلكيّة ومدوّنات عِلم النجوم ونَقلوا معظمها إلى اللّغة العربيّة عن الأصول السنسكريتيّة.

وتطوَّر دَور “بيت الحكمة” مع الخليفة الشهير هارون الرشيد (حَكَمَ من العام 786 إلى 809)، من خلال تركيزه على نقلِ الفكر اليوناني إلى العربيّة، والذي كان بدأ يَفرض بقوّة مصنّفاتِه العِلميّة والفلسفيّة والأدبيّة والتي كان يؤتى بها مباشرةً من بلاد الروم. لكنّ هذا لم يكُن ليَعدم ظهورَ مُناظراتٍ حيّة وجديّة بين باحثين بوذيّين وباحثين مُسلمين أيّام الرشيد، ومَن أتى بعده من خلفاء عبّاسيّين متنوّرين، وخصوصاً في القرن العاشر الميلادي، فظَهرت ترجماتٌ بالعربيّة عن السنسكريتيّة لمصنّفاتٍ بوذيّة دارَ بعضُها حول حياة بوذا نفسه. لكنّ فكرَ اليونان كان قد بدأ يَجِبُّ ما قبله، أو على الأصحّ يُضعِف من الاهتمام بغيره من نِتاجاتِ الحضارات الأخرى. وعَرف “بيت الحكمة” ذروة نشاطه العِلمي والفكري والفلسفي أيّام الخليفة المأمون (786 – 833)، حيث لم ينقطع رُسُلُ هذا الخليفة/ العالِم يوماً عن السفر إلى بلاد الروم والاطّلاع المباشر على ما يُنتَج فيها في حقول الطبّ والهندسة والرياضيّات وعِلم الفلك والفلسفة والأدب والسياسة وجلب مصنّفاتها إلى البلاد وترجمتها إلى لغة الضادّ، التي رَعاها رعايةً خاصة، وأَسهم في جعْلها لغةَ العِلم والفلسفة إلى جانب كونها لغةَ الشعر والنقد والخطابة.

وعُرف عن الخليفة المأمون تكريمه رجال العِلم والمُترجمين والأدباء، بحيث كانوا يتقاطرون إلى بلاطه من عموم بلاد العرب والمُسلمين وبلاد الروم والهند والسند. ومن شدّة اهتمامه بالعِلم قيل إنّه كان وراء استعجال العُلماء اختراع الإسطرلاب، وهو عبارة عن آلة فلكيّة قديمة مهمّتها كشْف النجوم والأجرام السماويّة وقياس حرارة الشمس… إلخ.

 

مع أندريه مالرو وهنري كوربان

بعد ذلك قلتُ لمُحدّثي بورخيس: لقد ذكرتَ اسمَ الفرنسيّ الكبير أندريه مالرو، وهو خبير طبعاً بالثقافات الدينيّة والفلسفيّة في الصين واليابان وأغلب دول جنوب شرق آسيا، فضلاً عن إلمامه الواسع والتفصيلي بفنون تلك البلدان المهمّة و”المعقّدة” التي كَتَبَ عنها وصارت مَصدراً مَعرفيّاً ونقديّاً لكلِّ دارسٍ ومُطَّلع… لقد جَعَلَني ذكركَ لاسم مالرو سيّدي أتذكّر فرنسيّاً آخر لا يقلّ أهميّة عنه، بل يبزّه تعمُّقاً وتخصّصاً في الفلسفة الإسلاميّة والتصوّف الإسلامي: إنّه هنري كوربان الفيلسوف والمُستعرِب المعروف والذي أَشْهَرَ إسلامَه في العام 1945 ثمّ وَضَعَ كِتاباً مُهمّاً عن ابن عربي سمّاه “الخيال الخلّاق في تصوُّف ابن عربي”، فما رأيكَ؟

نعم.. نعم هنري كوربان قرأ جيّداً محي الدّين ابن عربي وكاد يتخصّص في سِفره الأكبر: “الفتوحات المكيّة”. كما كان قرأ مليّاً أيضاً المتصوّفة الكِبار قبله من أمثال معروف الكرخي، والحارث بن أسد المحاسبي، والجنيّد بن محمّد البغدادي، وأبو يزيد البسطامي والحسين بن الحلّاج، القطب الصوفي الأكبر وأستاذ ابن عربي في الظلّ والعَلَن من وجهة نظري الشخصيّة طبعاً.

نعم، الحلّاج يُضارِع بأهميّته الصوفيّة أهميّة ابن عربي، ويُقال إنّه أحد المَصادِر المعرفيّة السريّة لمحي الدّين ابن عربي؛ وسبب السريّة هنا أنّ مَقتل الحلّاج ذبحاً وحرقاً وذرّاً لرماده في مياه دجلة، أدّى إلى إعراضِ كثيرٍ من شيوخ المتصوّفة ومؤرّخي التصوّف عنه (أي عن الحلّاج)، حتّى لا يُنبذ ويُهان ويُقتل أيضاً من يتناول حتّى سيرته، ولَو بعد طولِ سنينٍ أو قرونٍ فاصلة. ومَن تجرّأ وتناوَل الحلّاج، ومنهم ابن عربي، كان تناولُه له حذِراً وعامّاً وفي الحدّ الأدنى من التناوُل العابر.

وأَردف بورخيس يقول إنّ مقتلة الحلّاج الشنيعة تُذكِّره بمَقتلة الفيلسوف واللّاهوتي الإيطالي الكبير جوردانو برونو الذي اتَّهمتهُ مَحاكِمُ التفتيش بالزندقة وحَكمتْ عليه بالحَرْق، وهو حيّ، وكان له من العمر 52 عاماً.

لكنّ برونو، من جهة أخرى، حَصَدَ مَجداً مُهمّاً في إيطاليا وأوروبا والعالَم أجمع في ما بعد، وخصوصاً كداعيةٍ للتسامُح ونبْذِ الحروب على أنواعها، بخاصّة الدينيّة منها. كما كان يحلم بمؤتلفٍ ديني روحاني واحد يزيل الحقد والضغينة والتعصُّب من قلوب البشر ومَشاعرهم وذاكرتهم إلى غير رجعة.

هل كان الشيخ محي الدّين ابن عربي أقلّ جرأة بمَواقفه الجوهرانيّة من الحلّاج؟ وهل كان دونه عرفانيّاً وذوقيّاً وإيغالاً في عِلم الكشف؟

لا.. لا.. المُقارَنةُ على هذا الصعيد خطأ هنا بين القطبَين الكبيرَيْن.. قال بورخيس ذلك وأَردف: أنا أعتقد أنّ الحلّاج، إلى جانب تصوّفه المُعجز، كان سياسيّاً راديكاليّاً، وكان لا يخفي انحيازه للقرامطة المُعارِضين للسلطان العبّاسي في ذلك الوقت، وهو ما جَعله يدفع حياته ثمناً لمَوقفه السياسي هذا. أمّا موقفه الصوفي العرفاني العميق والجهير، فكان الغطاء والذريعة لاستباحةِ دَمِه، ودوماً تحت عنوان المروق والشرْك والزندقة. هذا ما أَعتقده شخصيّاً.

أمّا محي الدّين ابن عربي، فقد أشار في أكثر من مَوقف له إلى إنّه مُسلمٌ اعتيادي، يؤمن بكلّ ما جاء به القرآن الكريم من تعاليم وأحكام، وبلغ به الأمر حدّ القول إنّه كان يعارض التأويل القرآني مُعارَضةً شديدة، وخصوصاً إذا جاء من أفرادٍ سُذّج ما فقهوا يوماً مَضامين كِتاب الله، على الرّغم من حفْظهم له وترديدهم لآياته. ومن هنا جاء قول شيخ المتصوّفة في “الفتوحات المكيّة”: “لو اعتُبِرَ القرآنُ لما اختلف اثنان، ولا ظَهَرَ خصمان، ولا تَناطَحَ عنزان”.

من جهة أخرى، وعلى ما أرى وأجزم، كان ابن عربي ينتمي إلى العقلانيّة العرفانيّة المفتوحة التي أوحى بها لأتباعه، أو على الأصحّ لمُعاينيه، من خلال العديد من مصنّفاته، وخصوصاً في “الفتوحات المكيّة”. ومن هنا سرّ تعلُّق الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا به، وسَعْيه من خلاله لقراءة الوجود قراءةً عرفانيّة وعقليّة شاملة والوصول إلى المُعادلة الذهبيّة القائلة إنّ العقل يلتقي بالروح في نهاية المطاف.. وبقي سبينوزا حتّى آخر يومٍ من حياته يعتقد، مثل ابن عربي، أنّ العقلَ الإنساني يظلّ قادراً على فهْمِ الطبيعة ونظامها الشامل.

غير أنّ هذا لا يعني، في المُقابل، أنّ الشيخ الأكبر لم يغذّ السَّير عميقاً في دربِ المقامات التي لا بدّ منها تصوّفيّاً، وخصوصاً في فترة إقامته في مدينة فاس المغربيّة، وكان بدأها بمَقامِ الوجْدِ ثمّ مَقام الوله فمَقام الفتح في العبارة ثمّ مقام الفناء ومَقام القيوميّة… إلخ. ومن دروبه الصوفيّة التقليديّة هذه وثبَ ابن عربي إلى الضفاف الجوهرانيّة غير التقليديّة، فبدلاً من المغالبات الجسديّة الهالِكة والمُهلِكة على طريقة معظم المتصوّفة، عَرف شيخُنا الأكبر كيف ينخرطُ في المَعارِج الروحانيّة الكبرى ويُعبّر عن ذلك بأنساقٍ فلسفيّة ذاتيّة غير مسبوقة.

 

تكلّمتَ عن السياسة عند الحلّاج سيّد بورخيس، ولكنْ ألا تدري أنّ ابن عربي كان سياسيّاً أيضاً، إلى جانب مخاضاته الصوفيّة العميقة. فقد كَتَبَ كِتاباً سمّاه “التدبيرات الإلهيّة في إصلاح المَمْلكة الإنسانيّة” تطرَّقَ فيه إلى إصلاح ذات البَيْن بين الحاكِم والمحكوم، ليس في دنيا العرب فقط، وإنّما على مستوى أهل المعمورة برمّتهم، وكان في نقْده السياسي صريحاً وواقعيّاً. واعترفَ الشيخُ الأكبر أنّه حذا في السياسة حذو أرسطو الذي كان بدَوره مُنخرِطاً حتّى الذروة في السياسة، فكان مثلاً صديقاً لنائب الملك المقدوني “أنتيباتر”. وكانت مهمّتة (أي أرسطو) توجيه الحُكّام ورجال الدولة الكِبار وصنّاع القرار السياسي الحاسم لديهم، وكان دليله المباشر في ذلك كُتُبُ أفلاطون في السياسة، وفي مقدّمتها: “الجمهوريّة” و”رجل الدولة” و”القوانين”؟… أجابني بورخيس:

صحيح ما تقوله أيّها الصديق. نعم، كان محي الدّين ابن عربي سياسيّاً في الصميم، لأنّ التصوُّف في أساسه قنطرة سياسيّة كبرى لمَن يُعايِن، ولمَن يفهم، ولمَن يقرأ الدروس في خلاصاتها. لكنّ النهجَ السياسي الذي اتَّبعه ابن عربي يختلف جملةً وتفصيلاً عن النهج السياسي الميداني الانقلابي المُباشر الذي اتَّبعه الحلّاج وأودى به إلى المصير المُفجع الذي أتينا على ذكره. بوجيز العبارة، كان ابن عربي يُواجِه الأمور السياسيّة المُستعصية بهدوءٍ ورويّة، وكانت كلمتُه النقديّة على سخونتها تنزل برداً وسلاماً على الحكّام والسلاطين. وكان يُعمَل بها أحياناً من قِبَلِ الحُكّام على حدّ ما ذكره أحد الباحثين الألمان المُختصّين بالشيخ الأكبر.

وهل قرأتَ سيّد بورخيس “الفتوحات المكيّة” أو أيّاً من المصنّفات الأخرى المعروفة للشيخ الأكبر من مثل “فصوص الحُكم” و”شجرة الكون” و”ترجمان الأشواق”… إلخ؟

نعم، قرأتُ لـ “سلطان العارفين” صفحاتٍ مطوّلة من “الفتوحات المكيّة” وليس كلّها طبعاً، إذ هي تتألّف من 37 مجلّداً و560 باباً، وأعجبني في بعض ما قرأت تلكم اللّغة الرمزيّة العالية المُكلَّلة بالإشارات الإلهيّة السامية وذات العلامات المُتغايِرة والمُتناظِرة، لكنّها جميعاً تظلّ تنشبك في كتلةٍ مؤتلِفةٍ واحدة، وخصوصاً إزاء عمليّة رسْم الرؤيا الصوفيّة الخاصّة بشيخنا الأكبر، والتي من شأنها هي الأخرى (أي الرؤيا) أن تضعَ الناظرَ المُعاين لها مباشرةً في مناطق اللّاوعي والخيال المجنّح لديه، فتكتسحُ كلَّ القيَم ونُظُمَ الفكر والتفكير القابعة فيه، ويستحيل بعدها عنصراً مشعّاً ومولِّداً لسلسلةٍ من المرئيّات القادرة بدَورها على الترميز الزماني والمكاني في مُطلقاتهما.

ومهما شرحتُ ما توحي لي به نصوص ابن عربي في “فتوحاته” وفي “فصوص حُكمه”، فسأبقى عاجزاً عن إدراك عُمق أعماقها والقبض على منتهى مداليلها. واختتمُ كلامي بهذه العبارة الساطعة من “الفتوحات”: “لا أحد أعرف من الشيء بنفسه”.

***

(*) مؤسّسة الفكر العربي

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *