“أغصان وجذور” من خشبٍ وورق

Views: 13

د. عماد يونس فغالي

 

لافتٌ وصفُ الكتاب في رديف عنوانه “مراحل من سيرة ذاتيّة”. كأنّما د. إلهام كلّاب توضح منذ ما قبل التدوين أنّها في صدد إضاءاتٍ من سيرتها ليس إلاّ. فإذا هي تطرح إشكاليّةً عن غير عمدٍ ربّما: علامَ تضيء في سيرتها؟ وما الدافع إلى عدم نشرها كاملةً؟

من العنوان قد نأخذ الجواب ليتأكّد لنا في الصفحات كلّ افتراضٍ وضعنا فيه. “أغصانٌ وجذور”، تفرضُ اعتقادًا: أغصانٌ تمتدّ من حذور، أو تأخذ إلى جذور. وكأنّها تصنّف نفسها غصنًا في شجرة لم ترتفع عاليًا لو أنّ جذورها لم تكن متينةً بالقدْر الذي سنقرأه… لأنّنا في سيرةٍ ذاتيّة، الكاتبةُ بطلةُ السياق، وضعت نفسَها في المقدّمة وأضاءتْ على مراحلَ في ذاتها امتدّتْ وأثمرتْ لأنّها انطلقتْ من جذرٍ عميقٍ عنيد!

لم تضئ بمفردها. الجذور أفرختْ أغصانًا عدّة، غذتها باللبنِ كتابًا وإنسانًا في مجتمعٍ بائدِ الذكوريّة وغير مهتمٍّ لعلمٍ وانفتاح!

في ستّينات القرن العشرين، تنطلق فتاةٌ جبيليّة من عمشيت، ضيّقةُ البيئة، إلى التعلّم في بيروت، مقيمةً فيها، ومن ثمّ إلى باريس حتى الدكتوراه، ليس هذا فتحٌ وحسْب، هو ثورةٌ. وإن أتت النتائجُ مرجوّةً إلاّ أنّها مستهجَنة، وفي اعتقادٍ غيرُ مجدية!

السيرة الذاتيّة نصٌّ ذاتيّ بامتياز، يتكلّم فيه صاحبُه، على نفسه، كمن يجيب عن سؤال: من أنا. إذن الأنا فاعلُ كلّ السياق. (conversionwise.com) “أنا” ضميرُ المتكلّم، في كتاب د. إلهام كلاّب، خفيفٌ وهجُه قليلاً. ضميرُ المتكلّم متحرّكٌ في الامتداد النصيّ، ليّنُ الطواعيّة، يتحوّلُ بطبيعيّةٍ عذبة إلى “نحن”. فأجدني أقولُ في ارتياح: هي سيرةُ عائلةٍ ذاتيّة. “نحن” كم عنتْ أباها رفيق وأمّها جوزفين. وكم طاولت أخوةً ثلاثة وأخواتٍ خمس، دعتهم بالاسم وعرّفت القارئ بهم، أشخاصًا وطباعًا وتخصّصًا… ودورًا في مسيرتها التي تشكّلوها على مرّ الحياة…

ليست سيرةً ذاتيّة تقليديّة بقدر ما هي انطباعيّة. لكنّها مُرسلَةٌ إنسانيّة عابرة كلّ انتماءٍ إيديولوجيّ وإيمانيّ وتربويّ. قالت كلّ شيء في مرورٍ لطيف لا يخدش ولا يُلزم. قدّمت الكاتبةُ ذاتها لوحةً في إطارٍ، ومشهدًا في دراما، يمكّنكَ من إعجابٍ أو تعجّب. قد تحبّ فتتبنّى، أو تتذمّر فتتخلّى.

لكن في كلّ الأحوال، نقلتْ واقعًا في صورةٍ جليّة لمكاناتٍ محدّدة خلال مرحلةٍ زمنيّة واضحة، لا ضيمَ في اعتمادها وثيقةً ومرجعًا. جبيل وعمشيت، بيروت وباريس، في ستّينات القرن الماضي. إضف إلى ذلك الفكر المجتمعيّ السائد في الإطار.

كلّ هذا فعلته الكاتبة، لا بقصد إصدار كتاب. ولا نشرِ نفسها سيرةً ذاتيّة. دفعها إلى هذا دافعٌ من خارج. استضافةٌ في إذاعة صوتِ لبنان. وكلمةٌ واجبة خلال احتفال تكريمها في الحركة الثقافيّة إنطلياس. كلاهما تمّا منذ أكثر من عقد. اليوم، كتابٌ جامعهما كأن تقول: وفاءً لكلّ محبّة، ونشرًا لِما أفضتم عليّ، هذا أنا، في صورتي الإنسان وفيض حبّي!

شكرًا د. إلهام. دعيني أقرّ أنّي أعرفكِ على جيرةٍ عزيزة، قامةً ثقافيّة وجامعيّة كبيرة. في الكتاب تعرّفتُ بكِ طبيعةً إنسانيّة نقيّة كوجه ماءٍ، وعشقَ قلبٍ ليّنٍ، قُدَّ من خشبٍ وورق. في ذاتِ قراءةٍ، بين مراحلَ من أغصانٍ وجذور، تبيّنتْ لي شخصيّةٌ وارفةُ الكلمة والقناعات…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *