د. إلهام كلّاب في “أغصان وجذور” … “الحبّ يعود دومًا بشكل مختلف”
زياد كاج
ليس بجديد أن يعكس غلاف كتاب ما مضمون صفحاته. فهو الواجهة التي تدعو القارئ لمعرفة المحتوى. وكما يلعب العنوان دور الطعم في جذب القارئ، كذلك يفعل الغلاف.
في كتابها الصادر حديثاً عن دار نلسن بعنوان “أغصان وجذور: مراحل من سيرة ذاتية”(2021، 127 صفحة)، استعانت الدكتورة الهام كلاب بلوحة بريشة ابنتها، الرسامة المبدعة رنا بساط، بعنوان “شرفة في جبيل”، فخرج الكتاب الى الجمهور جميلاً شفافاً تغلفه لوحة شفافة تعكس حياة عائلة مناضلة حافظت على قيم الضيعة وطلب المعرفة وحب الناس(كل الناس) وتحدي التقاليد البالية. وهو يتضمن صورًا خاصة عائلية وشخصية من مراحل حياة الدكتورة كلاب في فصل بعنوان: “حكايات لا تنتهي” مما أضفى المزيد من الغنى والجمال وعبق الماضي.
الدكتورة كلاب غنية عن التعريف. فهي حائزة على دكوراه في تاريخ الفنون والآثار من جامعة السوربون في باريس، وهي أستاذة جامعية وأديبة وباحثة في مجال التاريخ والحضارات والفنون والتراث والمرأة والتربية. واللائحة تطول.
تقول كلاب في مقدمة كتابها الذي أهدته الى أبيها وأمها، رفيق وجوزفين، “.. هو ماض يتردد صداه في ذهني كإلحاح أغنية، وكانهمار متواصل لماء حي.. اليوم وأنا أنشر هذا الحقل من الزهور والثمار أحاول إزاحة الزمن الحاضر بزمن مضى.. لقد حاولت أن أنقل فرح هذا النص وتوهجه، كمن يتأمل بين دفتي كتاب قديم.. اليوم.. إذ أتلمس الظلال على جدران الماضي.. أكشح الغيوم بيدي.. ربما تنتظرنا شمس.. هناك..”
في حي “المعبور” في عمشيت ولدت الكاتبة في بيت حجري جميل هندسه والدها العاشق والشغوف بفن الزخرفة والجمال. أيام الطفولة كانت في كنف أب عطوف وأم ذكية حنونة. ” عشق أبي الخشب ورائحة الخشب”. ثم كان الانتقال إلى جبيل حسب نصيحة الأم. حاجز الطبقية كان عالياً بينهما فقررا الزواج خطيفة رغم انتمائهما لأصول عائلية واحدة. لم تكن حياتهما معبدة بالورود: فقدا ثلاثة أطفال، عدا عن مقاطعة أهل الأم لها سنين طويلة. ولعمشيت مكانة خاصة في ذاكرة الدكتورة كلاب..” كانت عمشيت قرية من الأهل المتحابين، الكل يعرف الكل، والطرقات للأنس، والبيوت للجميع”.
لجبيل مكانة خاصة في قلب وعقل الدكتورة كلاب فهي ملعب الطفولة ومسرح الصبا. بيت العائلة “أرجوحة جميلة بين حقول الليمون والموز والرمان.. من موجة الشاطئ حتى سور المدينة القديم”، والمدرسة كانت “البيت الثاني”. بيت الأهل كان مفتوحًا للناس وملتقى أهل الفكر والثقافة. فيه مكتبة ضخمة ضمت 12 ألف كتاب جمعها الأب الشغوف بحب المعرفة. تفتخر الكاتبة بشمول ثقافة الأب ووطنيته وعلمانيته وكرهه للطائفية، بينما كانت الأم-الإلهة الهندية التي تملك عشرة أذرع وترفض وجود خادمة في البيت.
من جبيل البحر والآثار والزهور والأشجار تنتقل إلهام الى بيروت لمتابعة دراستها المدرسية ثم الجامعية في الأدب والتربية. “كانت بيروت منتصف الستينيات”، وكانت الجامعة اللبنانية مصنع أحلام وحلاوة انطلاق، وبيروت سجادة ألوان ترسم لنا المستقبل الزاهر والآفاق الوسيعة”…
بفضل منحة جامعية لدراسة الفن في باريس تسافر الكاتبة الى العاصمة الفرنسية بتشجيع من أبيها. “كانت باريس النار الإلهية التي صهرتني وعلمتني وصنعتني… كانت مرحلة الستينيات في باريس…”
تعود الكاتبة من باريس الى بيروت وهي تود احتضان العالم في كل الوقت. جربت في الاذاعة والتلفزيون لتستقر في التعليم المدرسي حيث أبدعت واستمتعت في مهنتها في مدرسة الحكمة بسبب أجواء الحرية السائدة. فأسست برنامج تعليم ديني أسمته “التعليم الديني في مجتمع متعدد الأديان” وكانت لها تجاربها التعليمية في عدد من الجامعات. ونشطت في مجال تغيير الصورة النمطية عن المرأة اللبنانية في الكتاب المدرسي وحملت تلك القضية إلى المؤتمرات المحلية والعالمية.
مع اندلاع الحرب الأهلية تخوض إلهام حربها الخاصة: الزواج في قبرص من رجل مسلم الدكتورهشام البساط، المصرفي والاقتصادي المعروف، ستعيش حياة زوجية رغيدة اثمرت جاد ورنا وعمرت 30 عاماً. “كان صعباً أن تكون لا طائفياً في مجتمع مطيف حتى العنف”، تعترف بألم وأسى.
وللفقدان حضور في حياة الدكتورة كلاب حين فقدت شقيقتها الجميلة والفائقة الذكاء أسمهان. والظريف انها كانت تتبادل الحضور معها في الجامعة لشدة التشابه دون أن ينتبه المحاضر.
الأب والمحب حاضر بقوة في “أغصان وجذور” حيث تمنحه الكاتبة الكثير من الاهتمام وتورد تفاصيل لشخصية أول رجل في حياتها. “كنت أرصد آثار الحرب تتراكم على قلبه، وهو يجاهد ليؤكد لنا، أن لبنان هو الحلم الذي أراد، لا هذه الهمجية العابرة”… بعد رحيله تكتب بحسرة “فقدت أبا، ولكني فقدت قارئًا وناقدًا كان يتابع مقالاتي وكتابتي بحس نقدي ثابت”…
مدينة جبيل وبحرها مربط خيل الكاتبة؛ تعود اليها، الى بيت العائلة لترتاح من ضغط المدينة. وهل من لبناني أو زائر لم يقع أسير سحر المدينة منذ الزيارة الأولى؟ تلك المدينة الخارجة من عبق التاريخ الفينيقي وجارة البحر حتى تحسبهما في صداقة قديمة .
تعود بنا الدكتورة إلهام الى ذلك البيت حيث لا تزال رائحة الأم عابقة فيه: “كانت أمي ملجأ الجميع ومصدر اطمئنان وفرح ومدرسة حياة..”، وبعد رحيلها تقول:”.. كنت قد أيقنت أن المحبة هي القيمة العظمى في الإنسان، مهما علت الرتب ومهما قست الدنيا”.
“أغصان وجذور” كتاب عابق بجو عائلي دافئ واستثنائي، رعاه أب وأم طلبا العلم لأولادهما اينما استطاعوا إليه سبيلا. بيت عابق بطيف أب استثنائي مثقف وعطوف، وأم مثالية متفانية. وهو عابق بتاريخ قلعة جبيل وكنيسة مار يوحنا والمسجد، وسوق جبيل القديم ..”وفي السوق رائحة الحجر والعرق والتعب… والبحر مغامرة اسماك ملونة… ورحيل صياد على أمل رزق… أسمع خطوات أمي وكأنها تأتي من عمق العمر”…
“الأشياء التي نحب معرضة دوماً للفقدان..لكن الحب يعود دومًا بشكل مختلف”(فرانز كافكا)..تظهر هذه العبارة في صفحة الإهداء، هي خير مرآة لمسيرة الدكتور إلهام كلاب.. مسيرة من ورود وشوك وشمس تغيب كل يوم خلف أفق بحر جبيل.