مئوية ولادة وديع الصافي… تمرّ بلا صوته ولا صداه
سليمان بختي
هذه السنة هي مئوية ولادة الكبير وديع الصافي (1921-2013) الذي اتسع صوته ليحمل كل ترصيعات وأصداء لبنان في الغناء والموسيقى. والمؤسف أن تمر مئوية وديع الصافي ولا تلفت انتباه أهل المغنى والإعلام الورقي والمرئي والإذاعي والتلفزيوني ولا المعاهد والفرق الموسيقية هو الذي زرع لبنان بالأغاني من النهر الكبير حتى الناقورة. هو الذي غنى “جايين يا أهل الجبل جايين” وأعيد تسجيلها 3 مرات لإضافة قرى وتضمين ما سقط سهوا أو لطول الأغنية أو لجبر الخواطر.
ولد في نيحا الشوف 1921 واسمه الحقيقي وديع بشارة يوسف فرنسيس. تأثر بخاله نمر شديد العجيل الذي لقب بعاشق الطرب والذي علمه العزف على العود. ترك المدرسة باكرا وعمل في العديد من المهن لمساعدة والده في إعالة العائلة. عمل لفترة في محل نوفوتيه وفي صالون حلاقة وفي معمل للقرميد والزجاج.
انطلاقته الفنية كانت حين تقدم للإذاعة عام 1938 في مسابقة للعزف واللحن والغناء وحل أولا. كان في اللجنة الفاحصة ميشال خياط وسليم الحلو ومحي الدين سلام وألبير أديب (صاحب مجلة الأديب) الذي هتف بلهجته المصرية بعدما أنهى وديع الصافي وصلته “إيه الصوت الصافي ده”. وهكذا أطلقت عليه اللجنة اسم وديع الصافي.
أول أغنياته الناجحة كانت “طل الصباح وتكتك العصفور”. وغنى في مقاهي بيروت وحلب مع صباح ولور دكاش.
1944 سافر إلى القاهرة محاولا دخول الفن من عاصمة الفن في العالم العربي. بقي لسنة وأكثر ولم يحظَ سوى بظهور عابر في فيلم “زهرة السوق”. عاد إلى لبنان متابعا الغناء في المقاهي حتى جاءته دعوة من مغترب في البرازيل وهناك ذاع صيته من خلال أغنية اشتهرت هناك وهي “ع اللوما اللوما اللوما” ومن كلمات عبد الجليل وهبي.
في بداية الخمسينات غنى في الإذاعة أكثر من دويتو مع فيروز مثل “عيد القطاف” و”فيلسوف الضيعة” و” روكز خطب”و”روكز تجوز”وغيرها. وأيضا مع صباح ونور الهدى ونجاح سلام ومجدلا وسميرة توفيق وفدوى عبيد وهناء الصافي ونجوى كرم ورويدا عطية. وأعلن أكثر من مرة أنه يرتاح في الدويتو مع صباح وموضحا:”إنها توأمي”.
ابتسم القدر لوديع الصافي في بعلبك في إطار “الليالي اللبنانية” 1957 و1958 وغنى وأجاد وأطلقت عليه الألقاب: “نجم بعلبك” و”مطرب الأرز” و”عملاق لبنان”. عام 1960 كان على خشبة بعلبك في المسرحية الغنائية الفولكلورية للأخوين الرحباني ” موسم العز” ومع صباح. وغنى “عمر يا معلم العمار” و”الحلو لبنان”. وأكمل سطوعه مع فرقة الأنوار وقدم “حكاية لبنان” وغنى رائعته “لبنان يا قطعة سما” ومن كلمات يونس الإبن. و”ليلتنا من ليالي العمر” ألحان زكي ناصيف وغنى له أيضا “طلوا حبابنا طلوا”. ومن ألحان فيلمون وهبي “حلوة وكذابة” و”قالت بترحلك مشوار”. وغنى من ألحانه “حبي اللي تركني وراح”. سجل الصافي الكثير من الأغاني في الإذاعة اللبنانية وكان تواجده فيها شبه دائم. يروى أنه كان ذات مرة بالإذاعة فتأخر أحد الشيوخ ليؤذن لصلاة المغرب فحل مكانه وديع وإنهالت الاتصالات على الإذاعة تسأل عن ذلك الشيخ صاحب الصوت الشجي.
عام 1959 كانت له أغنية مفصلية من ألحانه وكلمات أسعد السبعلي وهي “ولو” عندما سمعه محمد عبد الوهاب قال:”صوت كل مطرب في فمه أما صوت وديع الصافي ففي يده” أما عبد الحليم حافظ فمن إعجابه بالأغنية أنه غناها بلهجته في تسجيل نادر وموجود على اليوتيوب.
عام 1964 كان مع فرقة الأنوار في مهرجانات بعلبك من جديد في “أرضنا إلى الأبد” ومع صباح. واستمر رقما ناجحا في المهرجانات حتى كانت مسرحية ” نهر الوفا”مع نجاح سلام عام 1965 وكانت من إنتاجه وإشراف الموسيقار وليد غلمية وفشلت فشلا ذريعا. وجال في مدن الاغتراب لسنتين لكي يسدد ديون مهرجان “نهر الوفا”.
عائدا إلى لبنان عام 1967 وعلى موعد مع أغنية رائعة ستعلّم في نتاجه وهي “يا عيني ع الصبر” من كلمات الشاعر المصري نجيب نجم وألحان رياض البندك. عام 1971 كان في بيت الدين مع مجدلا في مسرحية “مدينة الفرح” إعداد إلياس الرحباني وجورج ثابت وغنى “المجد معمرها” و”زرعنا تلالك يا بلادي”. شارك عام 1970 بفيلم ” نار الشوق” مع صباح ورشدي أباظة وهويدا وغنى فيه أغنيتين من أحب الأغاني إلى قلوب المصريين وهما:”على رمش عيونها” و” دار يا دار” ومن ألحان بليغ حمدي علما أنه أعد نشيدا لمصر هو”عظيمة يا مصر”.
عام 1973 جمعته مهرجانات بعلبك مع فيروز ونصري شمس الدين في “قصيدة حب” رائعة الأخوين الرحباني. وغنى “سهرة حب” مع فيروز ونصري شمس الدين و”ع البال يا عصفورة النهرين”. وغنى من كلمات ميشال طراد وألحان الأخوين الرحباني رائعة “رح حلفك بالغصن يا عصفور”. ويذكر أن الشاعر أنسي الحاج كتب في ملحق النهار ملحا على الأخوين الرحباني بضرورة الاهتمام بهذا الصوت النادر!
في تلك الفترة كان له أكثر من تعاون مع كبار الملحنين في مصر. غنى من الحان فريد الأطرش “ع الله تعود” وغنى لحنا للموسيقار رياض السنباطي وكلمات جورج جرداق “نغم ساحر” غناه على العود ولم يسجله. وغنى من الحان محمد عبد الوهاب “عندك بحرية يا ريس”. عام 1974 نادته بعلبك ثانية ليختتم آخر مهرجان فيها قبل الحرب ( 1975-1990) وغنى من ألحانه وكلمات طعان أسعد “قومي تنمشي يا حلوة الحلوين”.
خلال الحرب غادر إلى الشام وغنى في مطاعمها ثم القاهرة ومنها إلى بريطانيا (1978) واستقر ردحا في باريس. عام 1989 كرمه معهد العالم العربي في باريس في اليوبيل الذهبي لإنطلاقته. وفي بداية التسعينات عاد إلى لبنان بهمة عالية وغنى في المطاعم والمسارح. وغنى في برنامج غنائي مشترك مع الأسباني خوسيه فرنانديز والمطربة حنين.
نال وديع الصافي الجنسية المصرية والفرنسية والبرازيلية. ونال أوسمة من خمس رؤساء لبنانيين ومنحته جامعة الكسليك الدكتوراه الفخرية في الموسيقى 1991 ومنحه سلطان عمان وساما رفيع المستوى عام 2007 .خضع وديع الصافي لجراحة في القلب 1990 ولم يؤثر ذلك على عطائه وإن راح يؤثر تلحين الترنيمات الدينية وإنشادها.
عام 2013 تعرض لأزمة قلبية وأسلم الروح في 11 حزيران 2013 وشيع في كاتدرائية مار جرجس وسط بيروت ودفن في مسقط رأسه نيحا الشوف.
له تماثيل في عاليه والدكوانة والمرادية كسروان.
ولكن المطرب الكبير الذي خلد لبنان في أغانيه “لبنان يا قطعة سما” و” زرعنا تلالك” و”جايين يا أهل الجبل جايين” ليس له شارع باسمه في وطنه وهو المستحق. عاش 92 عاما أمضى 75 منها في الفن والغناء والموسيقى وتخطى ريبرتواره الألف أغنية.
نستعيد في مئويته صرخته “عمرها…” ونحن نشهد الوطن يغرق في دماره وجحيمه وما عاد يسعفه الصوت ولا النطق.