الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركيوز

Views: 735

وفيق غريزي

يشهد تاريخ الفن أن الفن ليس مجرد ظاهرة جمالية فحسب، صحيح أن الظاهرة الجمالية تمثل البعد الماهوي للفن، لكن من الصحيح ايضا أن الفن يمثل ظاهرة تاريخية، اعني ظاهرة تنشأ في سياق ظروف سياسية واجتماعية معينة، من ثم فأن البعد الجمالي للفن لا يكون ابدًا بعدًا خالصًا ومجردًا، وانما يكون مرتبطًا بواقع سياسي واجتماعي. ومن هذا المنطلق، فرغم أن فلسفة هربرت ماركيوز قد حظيت باهتمام واسع في ثقافتنا العربية المعاصرة، فأن هناك ندرة ملحوظة في الاهتمام بالجانب الجمالي من فلسفته، على الرغم من أن هذا الجانب قد شكّل جزءًا مهما داخل نسيج فلسفته العامة، ونظرًا لأهمية هذا الجانب، فقد كرّس ماركيوز له عمله المعنون “البعد الجمالي”. وكأنه بذلك يبلور هذا البعد المتناثر في ثنايا فلسفتهالعامة. حيث يرى ماركيوز أن راديكالية الفن وطابعه الثوري قد اصبحا مطلبًا ملحًا في المجتمع المعاصر الذي اصبح يسلم بالتشيوء والاغتراب، مما أدى الى التبعيد بين الفنأن والمجتمع. وهذا ما دفع ماركيوز الى التأكيد على الفردية والذاتية في مواجهة النزعات السلطوية المختلفة التي تحاول تسييس الفن وقمع طاقته الثورية، وهذه الراديكالية المميزة للعمل الفني عند  ماركيوز لا ينبغي أن تطمس البعد الماهوي للفن المتمثل في بعده الجمالي.

 

ماركيوز والرواية الالمانية

إن الارهاصات الأولى لنظرية ماركيوز الجمالية ظهرت اطروحته عن “فنان الرواية الالماني”، حيث تظهر في هذا العمل الجذور الأولى لعلاقة الفن بالواقع، والتي تعد حجر الزاوية في فلسفته الجمالية، فقد استطاع ماركيوز من خلال هذا العمل أن يقدم تحليلا دقيقًا للعديد من نماذج الأدب الالماني، محاولا بذلك الكشف عن الجوانب الثرية التي يحملها هذا الأدب، والتي توضح بشكل أو بآخر علاقة الفنان بالواقع سواء كان ذلك عن طريق التأييد او الرفض لهذه الروايات، وذلك من خلال تحليلها والكشف عن جوانبها الايجابية في بعض الاحيأن أو اوجه القصور المتضمنة في بعضها احيانا اخرى.

هذا ويرجع تأثير ماركيوز بهيغل الى أنه قام بوصف التقدم والتطور الحادثين للاشكال الأدبية المتحققة بعيدا عن التفاعل تارة، ومن خلال الصراع القائم بين بعضها البعض تارة اخرى، فاطروحته تقول المؤلفة حنان مصطفى: ” إن فنان الرواية الالماني تحتوي على البنية الهيغلية والايقاع اللذين يشكلان مسبقا تبنيه المؤخّر للمنهج الهيغلي، ففي كل فصل بعد اختيار ووصف نمط الحياة على نحو تعاطفي يكشف ماركيوز عن التناقضات وأوجه القصور المتضمن في الروايات ترجع الى أن الرواية تنطوي في ذاتها على تناقضها وأوجه قصورها الخاص بها، محاولا بذلك حل الصراع القائم بين الفكر والواقع، الفن والحضارة. ونجد أن الشكل الاصيل للرواية عند ماركيوز هو نفس الشكل الموجود عند هيغل، وهو أن “الرواية تشكّل بحثًا عن الوحدة المفقودة وتجسدها محاولة في ذلك أن تتجاوز الفردية، فالاتحاد الحقيقي عند كليهما هو الذي يقوم على تجاوز الفردية، في علاقة الفرد بالعالم، وإن كان هذا التجاوز لا يعني القضاء على الفردية”، وفي هذا الصدد يقول هيغل: “إن تجاوز الفردية يعني اعلاء الفردية والتسامي بها، الى نطاق أعلى فتكتسب ثراء وخصوبة كانت تفتقد اليها في حالة الانفصال والانعزال”. وذلك ما اوضحه ماركيوز عندما اكد أن فكرة “الفن للفن” فكرة عقيمة، وإن إنعزال الفنان عن واقعه برغم الحفاظ على فرديته ووعيه الذاتي، قد يرضي الفنان في بعض الاحيان الا أنه لا يودي الى رسم رؤية موحدة للحياة الاجتماعية، ويبعد الفن بذلك عن مهامه الحقيقية التي تكمن فقط في اعادة انتاج التجزّء الثقافي والاجتماعي داخل الوعي الذاتي.

وترى المؤلفة أن ماركيوز في اطروحته متابع لكل من هيغل وجورج لوكاش، يفرق بين الرواية والشعر الملحمي، فالشعر الملحمي يعبِّر عن الحياة الاجتماعية وحياة الناس الداخلية، بينما تعبّر الرواية عن اغتراب الفنأن الفرد عن الحياة الاجتماعية، فالرواية تعبر بوضوح عن رغبة الفرد وسعيه الدائم نحو السمو الى حالة اكثر اصالة من الوجود.

 

الثقافة البرجوازية

يحاول ماركيوز من خلال مناقشته لفكرة الثقافة التأكيدية، والمقصود بها الثقافة البرجوازية، أن يتتبع التطور التاريخي لهذه الثقافة بدءًا من افلاطون وارسطو، فيقول: “لكي نقتفي اثر تطور الثقافة التأكيدية وتنوعه الخاص، يتطلب الأمر العودة الى الفلسفة الكلاسيكية، والتي تكمن في اعمال ارسطو، والاعمال الاخيرة لافلاطون حيث يستطيع المرء أن يكشف الفكرة الشديدة الارتباط بهذه الثقافة التاكيدية”. فالنظرية المثالية عند افلاطون تقوم على اساس التمييز بين ما هو ضروري وبين الخير الاقصى، وكذلك الحال عند ارسطو الذي مثلت عنده الفلسفة الاولى اعلى خير، تشير المؤلفة الى أن البرجوازية حاولت أن تبحث عن السعادة كمطلب حقيقي، فوجدت أن فكرة السعادة قد اخذت معاني جديدة، فلم تكن السعادة هي سعادة الروح، ولكن ظهرت السعادة المادية كبديل، فالشخص يصبح سعيدًا عندما يحقق رغباته واحتياجاته، لذا فقد انحصرت السعادة في بحث الافراد عن اكبر قدر من الاشباع، وذلك هو المخطط الاساسي الذي يستهدفه المجتمع الرأسمالي حيث كان يعمل على توطيد للفكرة التي ترى أن السعادة تتحقق من خلال كلية السعادة عن طريق الاشباع. فاذا كانت الرؤية البرجوازية تتفق مع الرؤية الكلاسيكية المثالية في ضرورة العالم المفارق كأساس للسعادة في العالم المادي، الا أن الاختلاف بينها يرجع الى أن البرجوازية لم تقف فقط عند ذلك، ولكن اصبح العالم الروحي الثقافي عنده هو الأساس المباشر للعالم المادي، وهذا لم يقره الفلاسفة المثاليون، فلم يقروا بهذه المباشرة، لأن الاهتمام الأول للأنسأن عندهم هو الحفاظ على وجوده، ويبدي ماركيوز هنا احتراما شديدا للرؤية المثالية للثقافة البرجوازية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، برغم فصلها للواقع المادي العملي عن الواقع الروحي المثالي، الا أن ماركيوز يحاول أن يبرر هذا الفصل بقوله: “لا تعبر المثالية البرجوازية في عملها عن مجرد ايديولوجيا، لأنها تعبر عن محتوى موضوعي حقيقي مرتبط بالوضع القائم، ومن هنا فأن معالجتها ليست بالمعالجة العنيفة ولكنها معالجة حقيقية”.

إن الفن الخاص بالثقافة البرجوازية يخلق عالما كليا مستقلا بذاته، ويمثل عزلة عن الحياة اليومية، كما أن المذهب الانساني الخاص بهذا الفن يرفض كل المحاولات لجعل الفن متوافقا مع الاهتمامات المباشرة العملية للوجود الاجتماعي. ويكشف ماركيوز على أن الوظيفة النقدية الموجودة في الفن وحدها هي التي يمكن أن توضح ذلك وهذا يتجلى من خلال طبيعة الشكل الجمالي، التي تجعله يمتلك لغة جديدة مغايرة غير مركزية تختلف كل الاختلاف عن اللغة العادية، وتمثل مملكة مشتركة بين البشر تتوحد خلالها خبراتهم وتعبر عن الجوانب المكبوتة داخلهم، وذلك كما يظهر في الاعمال الفنية المختلفة. ثم الخيال الجمالي. والذي وفقًا لقواعده الخاصة لا يعبر عن الامنيات والاحلام، غير المتحققة في الواقع، لكنه يمثل في الوقت نفسه قوى كامنة من شأنها أن تعيد ما قد تم ادراكه من قبل، لذلك فالفن يقدم لنا محتوى مختلفا بشكل نوعي عن الحياة الاجتماعية العادية.

الروح داخل الثقافة البرجوازية

يرى ماركيوز أن الحركات الفنية الطليعية كالدادية والسريالية والتعبيرية قد مثلت عنده خير تعبير عن الفن الاصيل الذي ينبع فيه الرفض من فاعلية الشكل، وقد ابدى اودرنو اعجابه بهذه الحركات، لأنها تمثل في نظره نوعا من التمرد الفني – الاجتماعي، إلا أن ادورنو يختلف عن ماركيوز، لأن الاول قدم تفسيرًا اجتماعيًا لهذا التمرد الفني من خلال ديناميات الرأسمالية المتطورة، لكن ماركيوز رأى أن هذا الرفض من قبل هذه الاتجاهات يمثل سمة من سمات الفن الاصيل. وتؤكد المؤلفة أن نظرية الفن عند ماركيوز تعد من بدايته ابمثابة العرض المسبق لاعماله المتاخرة مثل: “الحب والحضارة” و”البعد الجمالي” ومنذ البداية وهو يحاول أن يطور نظريته في الفن على اعتباراته صورة يوتوبية للأنجاز والسعادة التي تقضي على العالم المغترب، ولذا جاءت اطروحته منذ البداية مرتكزة على تحليل مصادر الاغتراب وطرق تجاوزه من خلال البحث عن مجتمع يتسم بالحرية والأنسجام، وذلك هو المحور الذي سيصبح في ما بعد مهيمنا على فكره بأكمله، مما جعل بعض الباحثين مثل دوغلاس كيلنر يذهب الى أن نظرية ماركيوز النقدية الجمالية قد بدأت في الظهور منذ بواكير فكره، وذلك من خلال عمله المبكر “فنان الرواية الالماني”، وأن هذا الموقف المتأخر كان له توقع مسبق، خاصة في حديثه عن عن الرفض الاعظم الذي كان موجهًا للمجتمع ذي البعد الواحد وللفن في ذلك المجتمع.

ويعتقد ماركيوز أن هناك اتجاهات جمالية أخرى حاولت أن تعبر عن نفسها من خلال تبني شعار باكونين الفوضوي “التخريب هو الابداع”، وذلك النوع من الفن تقول المؤلفة: “يمثل فنًا مضادًا ويعد من أكثر الفنون المضادة شهرة، واكثرها تمثلا هو الدادية عند مولدها”. فالدادية استطاعت أن تقدم قصائد شعرية ليس لها معنى، واختارت من الشعر المتشابه الذي ضم مجموعة من القصائد، جميعها مكتوبة بلغات مختلفة في وقت واحد، او قصائد سليمة يحاول فيها المؤلف أن يتجنب اي اصوات او حتى كلمات تقريبية. وعملهم هذا في رأي ماركيوز يعد أنجازا فنيا، وذلك لأنه يمثل ثورة على كل ثبات مميت.

 

الخيال الفني الحر

يعمل الخيال الفني بطبيعته على ايجاد نوع من التصالح بين الفرد والكل، وذلك من شأنه أن يحقق السعادة، كما أن المعالم الاساسية لمبدأ الحقيقة يمكن ايجادها داخل فكرة الخيال الحر كما عند ماركيوز، لذلك فالهدف الاساسي للخيال الفني عنده هو شل قوى القمع والسلب والتغلب على التخاصم الدائم مع الواقع، والاستطيقا والجمال وحدهما هما اللذان يستطيعأن تجسيد هذه الافكار، لأن الاستطيقا وحدها هي التي تقدم لنا الاسباب اليانعة على ضرورة تقدير الجمال، ولكي نتعرف على وظيفة الخيال هذه لابد لنا من البداية أن نقدم تعريفًا محددًا لوظيفته عند ماركيوز الذي يقول: “إأن تحليل الوظيفة الادراكية للتخيل او للخيال يقودنا الى الاستطيقا كادراك معرفي، لأن فكرة الفن نفسها هي فكرة الخيال الحر”.

ولذا نجد ماركيوز يعرِّف الخيال على أنه ادراك معرفي مختلف، يرجع اختلافه الى احتفاظه بالحقيقة سواء كان ذلك عن طريق الايجاب او الرفض، وبناء على ذلك تكون الحقيقة التي نصل اليها من خلال عمل الخيال هي تلك الحقيقة التي لا ريب فيها. فماركيوز يتفق مع فرويد على أن الخيال يتمتع بقدر عال من الجرأة، مما يجعله قادرًا على السلب والتجاوز والابداع ورفض القمع، وذلك لأنه يمثل قوة نفي وسلب للواقع، كما أنه يمثل طاقة خلق وابداع في الوقت نفسه، فالحقيقة التي نصل اليها عن طريق الخيال لا تغدو وهما، فاذا كانت موضوعات الخيال غير مطابقة للواقع القائم، لكنها تطابق سياق الوعي وهو يتوهم أو يتخيل، وهكذا يتحوّل اللاتطابق الى تطابق، وتؤول اللاحقيقة الى نوع من الحقيقة…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *