“البروفيسور الصبي”… بيتر مدوّر في عين جوزف أبي ضاهر

Views: 455

يوسف طراد

قلّما كتب أحد الباحثين سيرة عالم أو أديب من بلاد الأرز، كما كتب جوزف أبي ضاهر سيرة العالِم بيتر مدوّر. نفتخر بأننا آباء الحضارة، وأن أبجديتنا اشرأبت من أنين ضجرٍ وترهل، لتشهد حصادًا زرع حبوبه كبارنا وحصدت محصوله الإنسانية جمعاء.

لم ترتوِ العيون من دمعة حارقة بين رحيل وآخر، فقد اجتاز نقولا اغناطيوس مدوّر الشوارع إلى المرفأ، جاهلًا اتجاه غربة الحلم والوهم الجميل، حيث همس في أذنه حنّون، وسمع جهرًا صوت قدموس. تواصل الهمس والجهر الصارخ من أفواه بحّارة إنكليز، جعل نقولا يحزم أمره وصرّته: “… سمع ابنها نقولا، مرّة، كلمات تفوّه بها إنكليز زاروا (القرية البحرية) المغمورة بسكينة لا يعكّر صفوها، إلّا البحر عندما يرتفع موجه ويصخب…”. وكانت محطّته الأولى بريطانيا العظمى. لم يكن يدرك مدى المغامرة ونهايتها، حين صعد الباخرة، بعد أن دوّنت عساكر السلطنة العثمانية إسمه على لائحة المغادرين من مرفأ بيروت.

ذكر سليم ميغال في رواية “الكوة البرازيل ذهابًا… وإيابًا” والتي نالت جائزتي ظافاري- بوربون ورابطة نقّاد سان باولو في البرازيل، ذكر عمق أغوار الحسرة وعذابات الإبحار، التي تعرّض لها والده قبل وصوله إلى البرازيل. لكن جوزف أبي ضاهر، لم يذكر أي تفاصيل إبحار للوالد نقولا، وكان التساؤل سيد السطور: “كيف استطاع تأمين عيشه وسكنه وهو لا يتقن الإنكليزية ولا يعرف أحدًا يمدّ له يد العون والمساعدة؟”. وكان الجواب مقتضبًا في سطور الكتاب على لسان ابنه العالم بيتر نفسه: “سافر والدي مثل الكثير من الفينيقيين، وسافر بحثًا عن الثروة… كان الفنيقيون عظماء، وأبي كان من المسافرين”.

توجّه نقولا مع زوجته البريطانية إلى البرازيل بصفة وكيل “لشركة بريطانية تصنع المنتجات الخاصّة بالأسنان”. بعد أشهر من اندلاع الحرب الكونية الأولى 28/2/1915 وُلد لنيقولاس وزوجته موريال صبيّ سمّياه بيتر نسبة إلى المدينة التي ولد فيها في البرازيل (بيتروبوليس).

نبغ بيتر مدوّر منذ دراسته الابتدائية فالثانوية، وكانت بحوثه في نموّ الأنسجة أولى بشائر نجاحه. حصل على منحة دراسية بدعم مؤسسة (سيينو ديمي شب). عند بلوغه عامه الثالث والعشرين، مُنح جائزة (إدوار شايمان) للبحوث عن بحثه في تطوّر النموّ الجيني، وغيرها من الأبحاث التي وضعت الإنسانية على الطريق الصحيح لعلم زراعة الأعضاء.

“لا يفسد الاهتمام بالعلم ودًا إذا أصابت سهام (كيوبيد) القلب”، أحبّها وأحبّته، إنها (الليدي جين)، التي دوّن الكاتب خواطرها، ونقْلها نصيحة أقربائها وجيرانها، بالابتعاد عن بيتر كونه ليس إنكليزيًا: “أتصوّر أنك سمعت أنه ليس إنكليزيًا”. وكبر الحبّ ودخل الحبيبان الفضاء الذهبي كما ورد في الكتاب على لسان (الليدي) الحبيبة: “بدأنا زواجنا وكأنه استمرار لحبّ بدأ قبل عامين”.

كما أحبّ الحياة شغفًا، عشق بيتر البحوث العلميّة، مستغلًا كل دقيقة من وقته حين قال: “الوقت هو المادّة المصنوعة منها الحياة”. لقّبه العالم البريطاني (صولي زاكرمان) بلقب “البروفيسور الصبيّ” لصغر سنه مقابل انجازاته، حيث كان في الإثنين والثلاثين من عمره عندما اكتشف “المضادات المناعية” والتي تؤدي إلى “رفض الجسم لزراعة الأنسجة والأعضاء الغريبة” كما اكتشف عدّة عقاقير لكبح هذه المناعة.

حصل على لقب (سير) تتويجًا لجهوده وبحوثه المتطورة التي شغلت المعاهد الكبرى والجامعات في بريطانيا، “منحته ملكة إنكلترا إليزابيت الثانية أحد أرفع الأوسمة، تقديرًا لبحوثه ومنجزاته”. وتابع مسيرته في طريق العلم فارضًا عبقريته ببحوث لا تنتهي.

يقول الكاتب: “بعد شهر الحصاد تُجمع الغلال، يسقط الزؤان، ويبارك من كانت مواسمه وفيرة، عامرة بالخير”. فقد تُوّج بيتر مدوّر، بإحدى أشهر جوائز العالم، ألا وهي جائزة (نوبل) مع العالم الأوسترالي فرانك بورنت، لاكتشافهما “التّحمل المناعي المكتسب”، وكان ذلك في شهر تشرين الثاني سنة 1960. كما نال بيتر مدوّر قبل وبعد (نوبل) جوائز علميّة وتقديرية عدة من أبرزها جائزة: “كالينغا لتبسيط العلوم” عام 1985 وهي جائزة تميّز دولية أنشأتها منظمة الأونيسكو عام 1925.

لم ينسَ العالم بيتر مدوّر، شروق الشمس من جباه أجداده العالية، فقد بدّد هذا الشروق أرقًا من حنين معلّقًا في خزائن العمر: “…وعاد الفينيق إلى موطنه، ليس من رمادٍ بل من توّهج نجاح عالمي”. عنْونت الصحف اللبنانية حدث قدوم السير بيتر مدوّر إلى لبنان ومنها الجريدة الأسبوعية في عددها الرابع والأربعين تاريخ 20/8/1961: “العالم اللبناني الفائز بجائزة نوبل يتعرّف هذا الاسبوع إلى وطنه الأول… ولكنه لن يحمل وسام الاستحقاق اللبناني”. سبب عدم منحه هذا الوسام كان تحذيرًا من دولة صاحبة الجلالة جاء فيه: “رفضت الحكومة البريطانية، أن تمنح الحكومة اللبنانية وسامًا للدكتور بيتر مدوّر لأنه من كبار العلماء الذين يجب أن يظلّوا على مرتبتهم العلمية الرفيعة… كما يُحظر على أي مواطن بريطاني أن يتلقى وسامًا من أي دولة ما لم يكن أدّى لها خدمات خاصّة تستحق التقدير”.

جال العالم الشهير في أرجاء الوطن (بعلبك، برمانا) وغيرها من المعالم السياحية، أقيمت له مآدب الملوك على ضفاف نهر البردوني، زار بفخر كبار رجالات الوطن (فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيسي مجلس الوزراء والنواب).

عندما نرحل طوعًا من منازلنا، لا نحمل معنا مفاتيح بيوتنا القديمة. حاول بيتر مدوّر استباق الزمن الهارب من على عتبة منزل والده في غادير (حيّ مار فوقا)، فخيّم ثقل اللحظات القاسي على المكان، ولم يجد ملامح لحياة أو كيان، بل وجد خربة دون باب. وقد جاء على لسان جوزف أبي ضاهر عن وصفه المشهد: “حين يؤخذ عمود البيت منه يسقط السقف، فالمداميك حجرًا حجرًا، لا يعود من حاجة إلى مفتاح تحتفظ به”، وليس لدينا علم إذا بقيت هذه الخربة أم رمِّمت أم شُيّد مكانها ناطحة سحاب.

أمسك الكاتب بالوقت، وجعل العناق الطويل، الذي لم يصل إلى عتبة منزل جدّ العالم بيتر، شوكة في الحلق وغصّة في الروح، لكنه التقط الحقيقة التي تداوت بها الشعوب، وسكبها في حبر الكتاب الذي استقينا منه المعلومات الوافرة الواردة في هذه المطالعة المتواضعة.

بجهد جهيد ومثابرة وإتقان، جمع جوزف أبي ضاهر، تفاصيل حياة، وانجازات وأوسمة وجوائز العالم النجم بيتر مدوّر من مراجع عديدة، أهمها جريدة الأسبوعية، النهار، البيرق، وصدى الأرز وغيرها من تدوينات لشارل مالك، محمد شيّا، غسّان غصن، كمال مدوّر ومفكرة جورج سكاف. نهلنا عصير قلمه الراقي رحيق مجد فوق الورق، سكنت فؤادنا سلاسة تعبيره عن أزمنة العزّ والعلم والإبداع التي عاشها كبارنا، وعبروا عبر انجازاتهم إلى مآسي الإنسانية، مبلسمين الجراح، محولين المجتمعات إلى أماكن أفضل وأرقى.

إذا كان المرحوم الصحافي بطرس العنداري، صاحب جريدة النهار الأوسترالية، قد كتب سيرة العالم فيليب سالم، وأبهرنا بوهج اغترابه، فإنّ جوزف أبي ضاهر كتب سيرة العالم بيتر مدوّر. نحن بإنتظار من يكتب سيرة عظماء من بلادنا، مثل “فتى العلم الكهربائي” العالم حسن الصبّاح. والعالم رمال حسن رمال، الذي أطلق عليه لقب أصغر عالم في جيله، بحصوله على الميدالية البرونزية، التي يمنحها سنويًا المركز الوطني للبحوث في فرنسا، لأفضل الباحثين وذلك عام 1984. والبروفيسور مايكل دبغي، الذي ابتكر وهو يبلغ من العمر 23 عامًا، المضخّة الدوّارة لتصبح جزءًا أساسيًا من آلة القلب_ الرئة، ومنطلقًا لعصر جراحة القلب المفتوح. وأستاذ الرياضيات اللبناني، من أصل أرمني، مانوك مانوكيان الذي عمل على مشروع الصواريخ، الذي أبصر النور في جامعة هايغازيان في بيروت، وقد صنع صواريخ يصل مداها إلى 600 كلم، وبعد التجربة، عام 1961 وقع أحداها في البحر، على مقربة من جزيرة قبرص، مما أدى إلى احتجاج بريطانيا أمام مجلس الأمن لحجّة حماية أمن إسرائيل. والبروفيسور رئيف ملكي الذي درس العنبر اللبناني دراسة وافية وأكّد مع البروفيسور الأميركي جورج بوينز وجود أقدم نظام إيكولوجي للحشرات في الصمغ المتحجر في لبنان. وغيرهم من العلماء اللبنانيين، ليصح ما جاء على لسان جوزف أبي ضاهر: “علّنا نساهم، بتواضع، في مسح بعض الرماد الأسود الذي تساقط على وجه بلادنا، ممّن ظنوا أنفسهم وجهها”.

***

(*) “النهار” 24 تموز 2020

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *