سجلوا عندكم

الكابوس

Views: 1128

 

سامي معروف

   قفزَ من فِراشِه كهِرٍّ مذعور.. وجهُه يرشح قطراتِ خوف وقلبُه أتّونُ كآبَة.

إنّه الكابوس عينُه! بل هو القرينَة السّاديَّة ذاتُها.

صبَّ لنفسِه كوبًا باردًا.. مسحَ خدَّيه براحتِه وجلس يشربُ العصير في العتمَة على مَهل. ثمَّ راحَ يبكي أخيرًا كالأطفال.

  منذ سبعة عشر شهرًا.. وهو طريدة كابوسٍ عنيدٍ لا يَنثَني. منذ تلك الجَلبَة في قضيَّة اختفاء عامر متري في ظروفٍ غامضَة، والزّاحفُ اللّيليُّ القاهر يتسلّلُ إلى دماغِه بانتظام ويقضّ عليه مضجَعَه. وما أن انتهى القاضي من التَّحقيق معه مرّاتٍ عديدَة، وأدلى بما أدلى به، حتى أصبحَ النّومُ غرفة تعذيب والحلمُ الرَّهيب جلاّدًا لا يرحم.

منذ سنةٍ ونصف السّنة.. والتّعويذة نفسُها تُلوّنُ مشاهدَ رقادِه الحَذِر، فيحاول أن ينام ومقلتاه مفتوحتان علَّ زائرَه المُزعج يخجَل ويَرعَوي. يحاول أن ينامَ صاحيًا! مثل جنديٍّ حارسٍ خيمتَه، صَحوَتُه الطّويلة مرهقة ونومُه عقابٌ حتميّ. ويجاهدُ أن يُبقيَ أذنَيه ساهرتَين علَّه يسمَعُ خُطى شبَحِهِ قافزًا فوق سورِ البورَةِ وصاعدًا السُلَّم وفاتحًا شبّاك الغرفة.. فيَمنعَه من اقتحام عقلِه التّائه المتعَب. وهكذا أصبَحَ اللّيلُ أرجوحَة معلَّقة بينَ الوَهمِ والحقيقة، والنّوم تفعيلاتٍ مارقة في بحورِ اليَقظَة.

 

أمسكَ الشَابّ رَشيد الموبايل ونقرَ على شاشتِه، وتمتمَ والبكاءُ يخنق كلماتِه:

– ميتر.. سأذهبُ الآن إلى القاضي.. سأقول كلَّ شيء!

– ماذا ستقول للقاضي؟! وفي هذه السّاعَة المتأخّرة! قال الميتر مستاءً.

بقيَ رَشيد صامتًا.. ثمَّ أقفلَ الخَطّ. ولكنَّ الميتر ساءَلَ نفسَه عمّا سيبوحُ به الشَابّ للقاضي وهو لا يعرفه!

  لم تنتهِ القضيَّة البتّة.. عامر متري مفقود وهو صديق رَشيد منذ الطّفولة، وحيث لا وجودَ لجُثَّةٍ أو اعتراف بعمَلٍ عنفيّ، لا تأكيدَ أو دليل على حدوث جريمَة.

لم يَطوِ سفرُ رَشيد إلى ألمانيا، حيث أمضى في ضيافةِ خالِه شهرَين من الزَّمان، صفحَةَ هذا العبَثِ الحَزين. ولا مَحا السَّفرُ ثانيةً إلى الأردن، صورَ الذّكرى التي انبثقَ من رُكامِ صداها كابوسٌ غريب راحَ يناطحُ عقلَه بلا هوادة. ثمَّ عادَ إلى الوطَن، وأرادَ أن يحاربَ عدوَّه الدَّخيل بالعمَل الكثير: نهارًا في الفندق وليلاً في المَطعم.. ولكنَّ جبَروتَ التَحرُّشاتِ اللّيليَّة الملِحَّة قلبَتِ الحياةَ نفسَها إلى ليلٍ مؤرقٍ طويل.

ولكنَّه حاولَ الخروجَ مع بناتِ الهَوى.. واستقلَّ القطار من محطَّة إلى أخرى.. فتعرَّف في إحداها بالصّدفة على فتاةٍ طيَّبَة أعطته من اهتمامِها أشياءَ طيّبة جميلة. وحضر أيضًا جلساتٍ طويلة عند مُعالِجَةٍ تعمل في المخيَّم لدى الأمم المتّحدَة، ولكنَّ حالتَه النَّفسيَّة ساءَت لدرجَة أنَّ بكاءَه الهستيريَّ حوَّلَ الجلسات إلى فوضًى عارمَة. ثمَّ ارتبطَ أخيرًا بحبِّهِ الزّاغبِ الجَديد بالخطوبة، آملاً أن يكون الحُبُّ خلاصَه من الجَحيم، فإذا به يرمي وردتَه الجَميلة في الهَشيم.

  ركنَ سيّارتَه بمحاذاة الطّريق بعيدًا عن العمارة الفخمة، وخرج يُنفّخُ سيكارَةً وهو يخطو خطواتٍ بطيئَة، في ليلةٍ ظهر القمَرُ فيها بَدرًا كبيرًا.. كأنَّه عينُ السَّمَاء الشّاهدَة على ماضيه وحاضرِه في أنٍ معًا. كانتِ الأفكار في ذهنِه تتدافع والكلمات مسعورَة، وذاكرتُه تحبلُ وتتورَّمُ وتكاد تنفجر. لا يدري ماذا يريد أن يقول وكيف يقولُه، وهو يدركُ جيّدًا أنَّ كلامَه الآن هو التّرياق الوَحيد للتخلُّص من سمومِ الحادثة المشؤومة. سارَ بجانبِ البستان حتّى وصل إلى مدخلِ البناء. لم يكن هناكَ حراسَة. رمى اللّفافة من يدِه وووثبَ كالنّمِر فوق بوّابةِ الحديد الأرجوانيَّة. سمع نباحَ الكلب بين الشُجَيرات ورأى غرفةً تضَاء، فأسرعَ إلى الدّاخل وقرعَ جرسَ الباب، وفتحَ له رجلٌ خمسينيّ ذو ملامح مريحَة وهو يفركُ مقلتَيه. ولسوءِ حظِّ هذا القاضي أنَّه كان وحيدًا في تلكَ اللّيلة. سألَ:

– مَن أنتَ وكيف دخلت؟ ماذا تريدُ في هذه السّاعَة؟!

فأجابَ رشيد:

– أريد أن أقول لكَ شيئًا يتعلَّق بقضيَّة عامر متري يا ريّس.

عقدَ القاضي حاجبَيه.. وراحَ ينقّبُ في دروجِ ذاكرتِه. قال له: “أدخل”.

وما إن جلسَ الشَابّ يحاول أن يتكلَّم، حتى انفجرَ باكيًا بكاءً لا ينتهي، وفي قلبِه يعلم يقينًا أنَّ الدّموع لن تغسلَ سوادَ فعلتِه، ولن تستدرجَ عاطفة الغفران إليه أبدًا. فقال القاضي منزعجًا: “هيّا.. تكلَّم يا فتى أرجوك.. ماذا تريد أن تقول؟”. فلم يقوَ رَشيد إلاّ على كلمات قليلة متوتّرَة، تختصر المعاناة كلّها:

– لقد دفنتُ جثَّةَ عامر في الوادي القريب من البلدَة.

فسأل القاضي بنبرةٍ عالية: “ولكن لماذا قتلتَه؟! إنَّه صديق الطّفولة!”، فتمتمَ رشيد مثل مخبولٍ معتوه:

– أخذتُ ساعتَه ومالَه.. ٥۰۰ دولار.. كانَ ناجحًا.. أفضل منّي.. كنتُ أحبُّه.. لا كنتُ أغار منه ربَّما.. كنت بحاجة إلى المال لأسافر.. كانَ الطّقسُ ماطرًا.. كنتُ قد شربتُ الكثير من الكحول…

وقفَ القاضي وصاحَ ثائرًا: “قتلتَ صديقَ الطّفولة لـِ ٥۰۰ دولار!!”.

 

وعندَما رأى رشيد القاضي غاضبًا، أصابَه الهلَع! فخرَجَ من أمامِه وهرَب.. وقفزَ فوق البوّابَة وراحَ يعدو نحو السيّارَة الرّاكنة تحت الأشجار. ولكنَّه جمَدَ في مكانِه! كأنّه أدركَ فجأةً بأنَّه قدَّمَ اعترافًا صريحًا. فأمسكَ حجرًا من البستان، وعادَ وقرعَ الجرَس، وفتحَ له القاضي المسكين وهو يلعنُ ويشتم. فسارعَ رشيد بضربةٍ على الرّأسِ طرحَتِ القاضي أرضًا، وانحنى فوقَه بضربةٍ ثانية وثالثة.

وفي صباح اليوم التّالي، قرأَ الميتر على الموبايل خبَرَ مصرَع القاضي في منزله، فاتّصل من فورِه برشيد.. ولم يكن هناكَ مَن يُجيب! فانطلقَ بسيّارتِهِ إليه. ورأى عند باب المَدخل عساكرَ الأمن ورَهطًا من النّاس. ركنَ السيّارة، ومشى ببطء. سأل أحدَ المارَّة عمّا يجري في بيت رشيد؟ وكان الجواب:

– لقد انتحرَ رشيد.. أطلق النّار على نفسِه البارحَة.

فجلسَ على الحافّة الحَجريَّة، وسكَّنَ نفسَه.. ثمَّ أشعل لفافتَه بهدوء.

لقد أدركَ الميتر أنَّ اتّصال رشيد اللّيليّ به نقلَ لعنةَ الكابوس إليه. فهو الآنَ يحتاج إلى تفسيرٍ منطقيّ مقنِع لثلاثيَّةِ الجاني المنتحِر والضَحيَّة المفقودَة والقاضي المغدور. ومجَّ مجَّةً هامسًا في قلبِه:

هكذا دائِمًا.. الاعتراف مَشبوه والجريمَة ضائعَة والعدالة ميّتَة.       

تشرين الثاني 2021     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *