النقيب يضرب بيد من حديد 

Views: 275

 زياد كاج

   كانت المرة الاولى التي أرى فيها النقيب كرم بشحمه ولحمه، أسمع صوته مباشرة. جلس في الجهة المقابلة أمامي وبدت بشرته أكثر اصفراراً مما تبدو على شاشة  التلفزيون. كأنه خرج للتو من ذلك المربع الصغير في بيتنا. كان في غاية الغضب على عكس ما كان يبدو خلال إدلائه بتصريح مطول عن  لقاء مع رئيس الجمهورية ومعه وفد كبير من نقابة المحررين يصعدون معه عادة  باللباس الرسمي لشرب القهوة في قاعة القصر الجمهوري.

 “السم  كان ينقّط من وجهه”.

 جلس الجميع حول الطاولة المستطيلة شبه الدائرية بصمت ووجوم نادراً ما  كان يسود  في مكتب الوردية. الكل حضر ما عدا الشيخ: نجيب، نوال، مهى، ربيع، ربيع 2، هادي، عبد الرحمن، كريس، بيتر، وعدد من الزملاء والزميلات.

   كانت جلسة محاكمة لعهد أديب القصير والصاخب.

   رهبة اللقاء مع شخص عملنا في مجلته  لسنوات في مكتب الوردية؛ ومواجهته في عرينه في مكتبه الفاره والملفت بنظافته وترتيبه — ألقت بثقلها ، فجلسناً نتابع بكل انتباه كل كلمة تفوه بها.  نسيت كل المواقف الساخرة التي كانت تحصل معنا في “الغربية” والأخبار الخفيفة والمقابلات الكثيرة التي كنا نعمل على ترجمتها. ونسيت ذلك الشعار الذي كان يظهر مطبوعاً بالخط العريض في كل عدد من كل صباح الاثنين: “علمتني الحقيقة أن أكرهها فما استطعت”. لكن ما طمأنني بعض الشيء —وربما طمأن الزملاء والزميلات الباقين — أن المستهدف من هذا الاجتماع كان رأس نجيب  وكل من يقرر أن يبقى الى جانبه.

    نحن بالنسبة للنقيب كنا ثلة من الموظفين التنابل — ما عدا كريس – الذين كانوا يعتاشون على حسابه  في مجلته حسب الوشوشات  والثرثرات التي كانت تصله بصورة مستمرة بواسطة فاعلي الخير. وما أكثرهم؟  

“أنت خنت الأمانة يا نجيب”، بادر النقيب بالكلام دون النظر نحوه. بدا واضحاً أنه قصد إهانته وتحجيمه أمام الجميع.

 “شو مفتكر حالك تعمل صحافي لامع أو زعيم سياسي على حساب ملحم كرم؟”

   بقي نجيب صامتاً متوجماً. وجهه فاقد التعابير. حسبته ينظر الى اللامكان. سألت نفسي: ” أين ذلك الشاب الذي فرض نفسه علينا لأشهر ببهلوانياته وتأرجحه بين الولدنة والجد؟ أين تلك الضحكات الهستيرية الآتيه معه من عالم الغرب الأميركي الصاخب؟ وأين غيتاره ؟ شعرت بالشماتة ممزوجة بشيء من الشفقة على شاب راح ضحية طموحات أمه المغشوشة بالواقع اللبناني وعالم ملحم كرم وماكينته التي لا ترحم. نظرت الى  ربيع وعبد الرحمن فقرأت أفكاري على وجهيهما. نوال ومهى كانتا تغليان. الأولى سيطرت على أعصابها أما الثانية فصار وجهها بلون البندورة. كريس كعادته كان في عالمه الخاص، يخربش بقلمه الأحمر على ورقة بيضاء أمامه. لا ترجمة لتصحيحها الآن!

“أنت ما فكرت تسألني قبل ما تحط خبر عرس أختك بالمجلة؟ شو أنا خيال صحرا هون؟ ولا أنا مأجّرك المجلة. وكمان حطيت صورة العرس على الغلاف! يا حبيبي ألف مبروك والله يهنيها. بس أنت عارف حالك شو عملت.. أنت كان ممكن تأثر على علاقاتي بالخليج..شو علموك بأميركا بس حابب أعرف ؟”

 لا جواب.

 تحول الفيس بريسلي الوردية الى أبو الهول – الأشرفية.

“ما بتعرف انو قطع الأرزاق من قطع الأعناق يا استاذ. الله يرحم جدي كان يقول ..كل شي بتزرعو بترجع بتقبعو؛ الا بني آدام، بتزرعو بيرجع بيقبعك”.

   أصبح وجه النقيب يميل الى الاحمرار.  خرج القليل من الرذاذ من طرفي فمه، بسبب صراخه المستمر دون التقاط نفس. لم يلجأ الى علبة المحارم القريبة منه. صار بحاجة أكثر للأوكسيجين من كثرة ما تحدث بعصبية. رجل في كامل أناقته، يرتدي ربطات عنق متعددة الألوان لا تتماشى مع موضة العصر. لفتني فيه تسريحة شعره بطريقة غريبة. كان يمشط ما تبقى من شعر رأسه (ربما هي فكرة حلاقه الخاص) من اليمين فوق الأذن الى اليسار في محاولة يائسة لتغطية صلعته. يستخدم نوعاً من المراهم يجعل الشعيرات تبدو كأنه كتلة لماعة واحدة.

  ساد صمت ثقيل في القاعة كان يخرقه من وقت لأخر تهديد ووعيد النقيب  لنجيب الذي استمر محافظاً على اللياقات أو ما يُعرف في بلد “الديمقراطية المعلّبة”: ” you have the right to remain silent .”

    الوجوم سيطر على وجوه الجميع. كأننا في قاعة محكمة في لحظة سماع الحكم الأخير من كبير القضاة.

“لقد قررنا الإستغناء عن خدماتك يا إستاذ   لأنك لم تحافظ على المونداي مورنينغ  كما يجب. بل حوّلتها الى مكان للهو والسهر. منذ اليوم لم يعد لك علاقة بالمجلة . كما قررنا إغلاق مكتب الغربية والعمل هنا في مكاتب الأشرفية. أهلاً وسهلاً بالجميع. الحرب إنتهت  وصار عنّا رئيس للجمهورية وما عاد في لا غربية ولا شرقية؛ ولا معابر ولا من يحزنون. يلي بيحب يكفي معنا، أهلاً وسهلاً. ومن لا يرغب فهو حر”.

   كان  الخبر صاعقاً. 

فمعظمنا ننتمي الى بيئة وثقافة  بيروت، وتحديداً رأس بيروت حيث شارع الحمرا وتنوع الناس والجامعات والمقاهي ودكان “بانشو” قرب مبنى الجيفينور والكورنيش البحري والمصرف المركزي. هنا سنشعر بالغربة. بدا القرار كأنه قرار عزل ونفي. بيروت الشرقية كانت خارجة من أجواء هزيمة ويسودها الإحباط وشعور عام بالإنكسار لما مرت به منذ ما عُرف “بحرب الإلغاء” بين الجيش اللبناني بقيادة الجنرال(الرئيس) ميشال عون والقوات اللبنانية(سمير جعجع)  ثم لاحقاً سقوط قصر بعبدا الرئاسي ودخول الجيش السوري الى المناطق المسيحية. فناس البلد في تلك الأيام لم تكن تعرف بعضها حق المعرفة والتخالط كان شبه غائب — بل مستحيل.

 بالنسبة لنا كانت زيارة الأشرفية كأننا في سفر الى بلد جديد. ساحة ساسين أول مرة أسمع بها. بين تلة رأس بيروت وتلة الأشرفية منافسة قديمة. كنا نتوقع إزاحة أديب، لكن خبر نقل المجلة الى الأشرفية كان بداية لمرحلة جديدة مختلفة وصادمة.

   “على فكرة”، ختم النقيب قبل إنفضاض الإجتماع المفصلي والذي أدى لاحقاً الى إنقسام فريق مكتب الوردية وتشتته، “أسم مديرتكم الجديدة  في مكتب الأشرفية هو ريتا. هي سيدة متعلمة ومحترفة وبتمنى  تتعاونوا معها”.

فيما كان النقيب يهم بالوقوف للمغادرة، إرتكبت مهى خطأ محاولة لعب دور محامي الدفاع  عن المتهم بعد صدور حكم الإعدام.

“بس يا حضرة النقيب. والله الإستاذ نجيب آدمي وضحى كتير. أنا بشهدلو”.

كان وجهها يميل الى الإحمرار مع لمحة مترددة للتمرد ومحاولة بائسة لكسر حالة الصمت التي سيطرت علينا.

ضرب ملحم سطح الطاولة بيمناه صارخاً بها: ” عاملة حالك مريم العدرا ومبارح المسا كنت سهرانة معو”.

تبادلت نوال ومهى نظرات مندهشة خاطفة.

   أغلق  النقيب الغاضب الباب خلفه بعنف.

 إنتهى كل شيء.

 طوي فصل قديم من حياة المجلة ليبدأ آخر جديد.

 نوال قررت المواجهة وتأسيس مجلة جديدة لتحارب بها النقيب وعنجهيته. ستسميها “ Eye On Beirut” وستأخذ معها نجيب وصديقتها وربيع2. أما بيتر فسيلعب على الحبلين؛ سيبقى مع النقيب ويعمل بالسر معها  double) agent). عبد الرحمن سيغيب فترة عن المشهد ليعود  للعمل في مكاتب الأشرفية. ولن يقطع صلاته بنوال وأحلامها. أما أنا وربيع و كريس فكان مصيرنا الإستمرار مع النقيب في مكاتب الأشرفية تحت إدارة السيدة ريتا التي تبين أن معرفتها باللغة الإنكليزية لا تتخطى المستوى الإبتدائي. 

“آه ريتا..” كتب محمود درويش وغناها مرسيل خليفة. وهؤلاء بالتأكيد لم يكونا من ضمن قاموس “ريتا الأشرفية” التي — حسب ما سأكتشف لاحقاً  — إمتلكت براءة  إختراع ما يعرف عندنا  بالإبتسامة الصفراء.

  عُملنا في مكاتب الأشرفية كأننا  هابطون للتو من المريخ! كمخلوقات فضائية غير مرغوب بها. 

 كريس بقي في برجه العالي في أحد المكاتب يعمل وحده دون أن تمون المديرة الجديدة عليه. لا قلم يعلو فوق قلمه الأحمر بقرار من النقيب. كان علينا أن نكتشف عالماً وناساً وُضعنا وسطهم في التوقيت الخطأ.. صبرنا وعانينا. وهم أيضاً تقبلوا وجودنا وسطهم على مضدد. كانت لذة تعب التعلم بالصدمة الثقافية والإكتشاف.

إكتشاف الفرق الشاسع والصادم بين الوردية في الحمرا وبين طلعة الأحرار في الأشرفية. وإكتشاف أن مخالطة الآخر المهزوم والمُحبط هو أمر مستحيل سينتهي الى الفشل والكثير من المواقف المحرجة وأحياناً المذلة للوافد الجديد.

***

(*) فصل من رواية “مونداي مورنينغ” التي تصدر عن دار نلسن في أوائل 2022 .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *