كلمة الإمام الصدر عام 1972 في حفل تأبين نعيم محمد بربر

Views: 591

د. محمد نعيم بربر

 

*إلى روح والدي “أبي محمد نعيم بربر” رحمه الله، وطيّب ثراه

 

تِسعٌ وأربعونَ سنةً، تكاد تُشَارِفُ على الخمسين، وما زالت ذكراكَ يا أبي تفُوح بالعطر والطّيب كأزهار الربيع وأشجار الصنوبر، حيث وقف الكبارُ في يوم ذكرى مرور أسبوع على وفاتك من ربيع عام 1972م، رحِمكَ الله وطَيّبَ ثراك، لكي يتحدثوا عنك ويستذكروا مآثرك وسجاياك أمام الحشود الغفيرة من أصدقائك ومحبّيك وعارفيك وأبناء بلدتك الأوفياء وأبناء بلدات الجوار الكرام. كان بين هؤلاء المُتَحدّثين الكبار سماحة الإمام السيد موسى الصدر، شاعر لبنان الكبير الأستاذ سعيد عقل، سيادة المطران أندره حداد، الأستاذ الجامعي الدكتور إبراهيم كوثراني، المُربيّ الأستاذ حسين الحاج، المحامي الأستاذ يحيى وردة، الشيخ الفاضل الأستاذ محمد نجيب زهر الدين.

 إنني أودُّ اليوم تكريمًا لذكراكَ يا أبي رحمك الله، أن يشاركني الأصدقاءُ والمُحبّون والأهلُ في الإستماع إلى كلمة سماحة الإمام المُغيّب السيد موسى الصدر أعاده الله إلى أهله ومحبّيه، على أن يسعفني الله أيضًا لتقديم باقي الكلمات الخالدة للمشاركين الكبار في حفل التأبين المذكور بإذنه تعالى.

كلمة سماحة الإمام المُغيّب

” رحمك الله يا أبا محمد، ما كنت مثقفًا، ولكنّك اجتذبت رمز الثقافة الأستاذ سعيد * (الشاعرالكبير الأستاذ سعيد عقل )، بجسمه وعقله وقلبه، اجتذبته من مكان بعيد لكي يتحدث عنك. ما كنت رجل دين ولكنّك جمعت في بيتك وفي ذكراك علماء أبرارًا ورجال دين أوفياء. جاء سماحة العلاّمة السيد عباس أبو الحسن حفظه الله على الرغم من مشاغله وكان مندفعًا للتحدث عنك، وقد أنابني أنْ أتحدث عنّي وعنه، فأعزّيكم جميعًا ونقبل العزاء جميعًا. وجاء فضيلة العلاّ مة الشيخ محمد علي ناصر حفظه الله، من مكان بعيد على الرغم من وظائفه وأشغاله وهو يتحدث بعينه وبقلبه، ويحزن ويتألم لاْجلك، وجاء سيادة الرئس العام الأب أندريه حدّاد وتحدث بإيمانه وبفكره وبلسانه، إلى جانب ما سمعناه من الدُّرر من أخينا المفضال الفاضل الأستاذ محمد نجيب. ما كنت رجل دين، ولكن اجتذبتنا جميعًا لكي نتحدث عنك، نُعَزِّي ونَتعزَّى. ما كنت رجل أعمال ولكن في ذكراك اشترك رجال أعمال كثيرون، النُّخبة تركوا أعمالهم ليشاركوا أبناءك البَرَرَة وأبناء بلدتك الأوفياء. ما كنت غنيًّا ولا متمكنًا من معالجة نفسك، ولكنّك سخَّرت بوفائك أخاك الوفيّ الأستاذ سالم * (النائب عن قضاء الشوف الأستاذ سالم عبد النور، ابن بلدة جون وصديق المرحوم أبي محمد نعيم بربر) حفظه الله. وأسجّل هنا كلمة شُكر، فكان يقوم بما يقوم به كلّ وَفِيٍّ وكلّ أخ وكلّ ابن بَارّ لواجبه تجاهك. ما كنت كلّ هذا، ولكنّك جَنَّدت كلّ هذا في حياتك وفي يوم ذكراك لأنّك كنت الإنسان، لأنّك كنت العمل. وقد سمعنا ونقرأ في كتاب الله : (وأنْ ليسَ للإنسان إلّا مَا سَعَى).  أثني على كلام الأستاذ سعيد * (الشاعر الكبير الأستاذ سعيد عقل )، أنّ الشُّرفاء حضروا والنّخبة اشتركت في ذكراك، وأنّ الكثير من الشُّرفاء تمنّوا الحضور ولكنّهم لم يتوفقوا لموانع خاصّة، فقلوبهم معنا تعزّينا ونعزّيهم. قلت : إنّك كنت الإنسان، إنّك كنت العمل، (وأنْ ليسَ للإنسان إلّا مَا سَعَى ) . 

أيُّها الأخوة المؤمنون، إنّ الإنسان يسمع بالخلود على الرغم من المساوئ التي سمعناها في الخلود. كلّ إنسان يرغب إلى الخلود، ولكنْ هل يمكن أن نعتبر هذه الرغبة الشاملة العامة سُخطًا وهذيانًا ! كلاّ، إنّ الإنسان يحبّ الخلود لإنسانيّته، لا لجسمه، إنّ الإنسان يحبّ الخلود لحقيقته، لا لشَعره وظِفره وبَطنه وَفَرجِه. إنّ الإنسان يحبّ الخلود لذاته، وذاته هو الإنسان وذاته هو العمل. جسمنا، أيّها الأخوان، يدخل تحت الأرض فيتفاعل مع التراب ولا يبقى بعد فترة إلاّ العِظَام الرّميم. جسمنا لا يبقى طويلاً، وحتى اذا بقي بعدنا نتبرأ منه، لاْن هذا الجسم العَفِن المضطّرب المغلوب على أمره عاجز. إذًا، ما هو الخلود ولماذا الخلود وأيّ شيء يخلد !؟. إن العمل هو خلاصتنا، ليس هذا مبالغة ولا شعرًا سحريًّا، إنه حقيقة الأمر. أيّها الأخوة هلْ رأيتم الشمعة؟ الشمعة قطعة من الشَّحم أو من البروتين أو من مختلف المواد. هذه الشمعة عندما تشتعل تُضيء، تتحول ذرّات هذه الشمعة إلى الشعلة، إلى النور، و يتحول نورالشمعة إلى الثقافة، إلى الدراسة، إلى العبادة، إلى الخدمة، إلى العمل الصالح. في ضوء نور الشمعة أوالكهرباء يقوم الصالح بصلاحه، ويقوم الطبيب بعلاج مريضه، ويقوم المُتَهَجِّدُ إلى صلاة ليله ودعائه، ويقوم الإنسان إلى البرّ بأخيه الإنسان.

 فإذًا، الجسم الجامد من الشمعة تحوّل إلى شعلة والشعلة إلى نور والنور إلى الخير والخلود. ( فأمّا الزَّبد فيذهب جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) إلى ما شاء الله. الماء يجري في النهروالزَّبد يطغى ويتعالى مغترًّا على وجه الماء. عندما يدخل الماء في الحقل، يتقلّص الزّبد ويفنى ولا يبقى، ولكن الماء ينزل في الحقل فيسقي الأصول والجذور ويتحول إلى النّبت وإلى الفاكهة وإلى الوردة. والوردة تتحول إلى العطر، إلى الحياة، إلى اكتمال إنسانيّة الإنسان، والفاكهة تتحول إلى الجسد، والجسد إلى العمل، إلى الفكر. فإذًا، حقيقة الشمعة شعلتها، وحقيقة الإنسان عمله، وهذا العمل هو ذرّات جسمي تتحول، أو بالتعبير المصطلح تتفجّر بواسطة أعصابي إلى الحركة، إلى العمل، إلى العلم، إلى الخلود. والعمل هذا ألا يفنى ؟؟. أيّ شيء يفنى في هذا الكون، أيّ شيء لا يكتب في كتاب الله الكبير، كتاب الكون. العمل هذا يتحول الى خدمة إنسان آخر.المعلم يقدّم دروسًا، كلمات المعلم لا تذهب هدرًا في أصداء الغرفة. إن هذه الكلمات تدخل من مسامع الطالب إلى قلبه، فتتحول إلى ثقافته وإلى تفكيره وإلى تربيته وإلى تهذيبه. فتزيد كلمات المعلم حجم الطالب، وبُعد وجوده وإمكانيات عمله.

 المعلم صرف دمه، ولكن دمه المتبلور بشكل الكلمات تحول إلى علم وثقافة وأبعاد، تحول إلى بقاء الإنسان. فإذًا، الإنسان هو العمل، وليس هذا كلامي، إنه كلام الله : (وأنْ ليس للإنسان إلّا مَا سعى * وأنَّ سعيَه سَوفَ يُرَى ). الإنسان هو العمل والعمل هو الخالد، ويخلد الإنسان بخلود عمله: ( يوم تجدُ كلُّ نفس ما عملت من خير مُحْضَرًا.. ). هذا العمل لا يفنى. لا تفكر أنّك ساعدت أحدًا أو نصحت محتاجًا أو أصلحت خلافًا أو أيّدت مظلومًا أو حاربت ظالمًا. لا تفكر أنّ هذه النشاطات التي حدثت منك في السّر قد لفَّها السُّكوت ودُفنت في مقابر النسيان. كلّا إنّ هذا العمل سيتحول الى عمل آخر وإلى سيرة أخرى، وسيتجسد ويبقى بقاء الأرض، كلّ الأرض. إذًا، الإنسان يميل إلى الخلود، وخلوده عمله، فالإنسان يتمكن من الخلود إذا أراد، وإذا لم يُرِد فلا عمرَ له، إنّه ميّت بين الأحياء. وحتى في أيام شبابه وقوته، حتى في أيام تمكّنه ومَقدرَته، إنّه غير موجود حتى يسمع بالخلود، فالخلود بالعمل، والعمل في متناول أيدينا. عِبْرةٌ أخرى، نأخذها من حياة أبي محمد. إنّ الرجل تمكن بإنسانيته، وعمله أن يُسَخّر طاقات الخير في هذا الوطن. تمكن من العمل أن يَخلد من خلال عمله. كما أنّ العبرة الأخرى وليست الأخيرة، في أن الرجل سيخلد باْبنائه البَرَرَة الذين ربّاهم أحسن تربية، فبذل جهده، وصرف دمه واحترق مع أعصابه في سبيل إنارة هذه الشعلة التي نرجو أن تبقى ثابتة، متزايدة، مؤمنة. وعند ذلك،عزاؤنا بهم وبخلوده.

 نساْل الله أنْ يبارك فيهم، وأنْ يُقِرَّ عينه بعد وفاته بهم وبالأوفياء من أصدقائه الذين حضروا في هذا الحفل الكريم. وإلى روحه، الفاتحة..”. 

 سماحة الإمام السيد موسى الصدر

***

* ملاحظة:  بعد نشر هذه المقالة على موقع “ألف لام” الإلكتروني ، سيتم نشرها لاحقًا على صفحتي ( فيسبوك ـ الشاعر محمد نعيم بربر ) ، مع تسجيلٍ صوتي للكلمة المذكورة أعلاه ،  بصوت سماحة الإمام السيد موسى الصدر  في حينه في بلدة جون ــ الشوف بتاريخ 25 / 3 / 1972م.         

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *