جان جبور بين كيبلنغ وطاغور*

Views: 316

سلمان زين الدين

 

   بين مقولة كيبلنغ “الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يلتقيا أبداً” ومقولة طاغور” إن الشرق والغرب هما في تفتيش دائم واحدهما عن الآخر، ولا بد لهما من أن يلتقيا” تترجح العلاقة بين الشرق والغرب، عبر التاريخ.  وهي طالما شغلت الكتّاب، على اختلاف حقولهم المعرفية، فراحوا يضعون فيها الكتب، ويمعنون في تقصي جذورها ومساراتها ومآلاتها، وينخرطون في تدوين وقائعها وأحداثها، ويرصدون تمظهراتها المختلفة، ويجرّدون من ذلك كلّه الأحكام والتمثّلات. وقد تمخّض هذا الاشتغال عن مكتبة قائمة بذاتها أسهم في قيامها شرقيون وغربيون، كلٌّ من موقعه. على أن، هؤلاء وأولئك، راحو يُصدّرون عن خلفيات مختلفة، وأيديولوجيات متباينة، وأهواء متضاربة، ما ترتبّ عليه نتائج متعارضة، تختلط فيها الموضوعية بالذاتية، والحقيقة بالخيال، والواقع بالوهم، والرأي بالهوى. وكان أن دفعت الحقيقة التاريخية الثمن، وتشوّهت صور كلٍّ من طرفي العلاقة في مرايا الطرف الآخر.

   وإذا كانت المؤلفات العربية التي تعكس صورة الآخر الغربي ليست قليلة العدد، لا سيّما في حقل الرواية، فإن تلك التي تعكس صورنا في مرايا الآخر ليست كثيرة، ولعل كتاب “الشرق المتخيّل في الخطاب الغربي / قراءة تحليلية للنموذج الفرنسي” للباحث اللبناني الدكتور جان جبور هو أحد المؤلفات القليلة في هذا المجال (جروس برس تاشرون). والكتاب دراسة من قسمين، الأول منهما يقرأ في أعمال كتاب فرنسيين، من االقرون الوسطى حتى مطلع القرن العشرين، وقد سبق نشره بعنوان “النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي”، والثاني يقرأ في أعمال القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. 

   دراسة استشراقية

   تندرج الدراسة في باب الدراسات الاستشراقية. ولأنه ثمة استحالة أن تحيط  بكل الأعمال التي صدرت، خلال هذه المدة الطويلة، كان لا بد للدارس من اللجوء إلى اختيار الأعمال الأكثر تمثيلاً لموضوع دراسته. لذلك، نراه يبني كل فصلٍ من فصول الدراسة الثمانية عشر على عملٍ أدبي واحد، باستثناء الفصلين السادس عشر والسابع عشر اللذين يتكئ في كل منهما على مجموعة من الأعمال. على أن الأعمال التي يبني عليها الفصول الستة عشر الأخرى متعددة الأنواع الأدبية، وتتوزع على ستة كتب في أدب الرحلة، ثلاث روايات، ثلاث مسرحيات، ثلاث مجموعات شعرية، وكتاب مراسلات واحد. وهذه الأعمال، بمعظمها، صادرة عن شخصيات أدبية مشهورة، من قبيل: فكتور هوغو في الشعر، لامارتين وفولناي وشاتوبريان في الرحلة، فلوبير في المراسلات، وراسين وفولتير في المسرحية وغيرهم. 

 

   منهج تحليلي

   يعتمد جبور في دراسته المنهج التحليلي، يتقرّى به صور الشرق في مرايا الغرب، وينطلق من النصوص دارساً ومحلّلاً ومستخلصاً الخلاصات والنتائج، ولا يسقط عليها ما هو خارجٌ عنها، وقد يعرّج على المنهج النفسي لتفسير بعض التمثّلات النصية عن الشرق وكشف الدوافع الكامنة وراءها، وهو قد يتابع مجموعة نصوص للكاتب الواحد ليقف على التحوّلات التي تطرأ على موقفه، ولا يفوته أن يعرّج في سياق التحليل على أحكام نقدية يُفنّد فيها هذا الموقف أو ذاك، ويُفكّك المصدر الذي يصدر عنه، وهو في جميع هذه العمليات يكون في قلب الدراسة العلمية.

  على المستوى التقني، يقوم جبور بتوزيع فصول الدراسة الثمانية عشرة على أربعة أبواب، بعدد أربعة فصول للباب الأول، خمسة فصول لكل من الثاني والثالث، وأربعة فصول للباب الرابع. ويربط بين عنوان الباب والمرحلة التاريخية / الفنية التي يغطيها، فيغطي الأول القرون الوسطى وبدايات النهضة، والثاني الكلاسيكية وعصر الأنوار، والثالث الرومنسية والأطماع الاستعمارية، والرابع الإسلاموفوبيا خلال القرن العشرين وما يليه. وهو يمهّد لكل باب بتمهيد تاريخي يشكّل إطاراً للفصول الداخلة فيه. ويذيّل كل فصل بخلاصة يكثّف فيها ما انتهى إليه التحليل. على أنه لا بد من الإشارة إلى التوزن بين الأبواب من حيث عدد الفصول في كل منها، الأمر الذي تفتقر إليه الفصول من حيث عدد صفحات كل منها، بحيث يتراوح طول الفصل الواحد بين تسع صفحات، في الفصل الثامن عشر، وأربعين صفحة، في الفصل التاسع. 

   صورة سلبية

   بالانتقال من المستوى المنهجي / التقني إلى المستوى المعرفي، نشير إلى أن صورة الشرق في مرايا الغرب هي سلبية في الأغلب الأعم، تتصادى مع الصورة النمطية شبه الثابتة عن الشرق، منذ القرون الوسطى حتى تاريخه، فالشرق، في تلك المرايا، يرتبط “بالتخلف والجهل والخمول والعدوانية والتوحّش والتسلّط والاستبداد والتعصّب” إلى ما هنالك من صفات سلبية، دون إقامة الدليل على هذا الارتباط.  وهي صورة لم يطرأ عليها تغيير كبير في النوع إنما في الدرجة. وهي كثيراً ما تجانب الحقيقة التاريخية، باعتبارها صادرة عن الهوى السياسي أو النزوع الاستعماري أو التعصّب الديني أو التمييز العنصري أو الأيديولوجيا المغلقة أو الجهل بالآخر. ومن الطبيعي، في ضوء هذه المصادر، أن تكون الصورة الصادرة عن مثل هذه المصادر مشوّهة ، من دون أن ننسى أنّ ممارسات الشرقيين أنفسهم، على المستويات كافة، قد أسهمت في هذا التشويه. على أن تظهير هذه الصورة يختلف بين نوع أدبي وآخر، من جهة، وضمن النوع الواحد، من جهة ثانية. فكيف تتعامل الأعمال المقروءة في الأنواع الأدبية المختلفة التي تتناولها الدراسة مع هذه الصورة؟

 

  كتب الرحلة

  يرصد جبور صورة الشرق في مجموعة من كتب الرحلة تتوزّع على مراحل زمنية مختلفة لكنها تجمع على سلبية الصورة وقتامتها، وتنطوي على عدائية واضحة، يتم التعبير عنها مباشرة أو مداورة، فيخفي غليوم بوستيل في “جمهورية الأتراك” عدائيته خلف ستار الموضوعية الظاهرية، ويرسم صورة إيجابية لهم، لحث الغربيين على وقف النزاعات فيما بينهم، وحث ملوكهم والأمراء على احتلال الشرق واستغلال خيراته، مُسْفِراً بذلك عن وجهه الحقيقي، ومُصَدّراً عن خلفية استعمارية واضحة. ويقدّم جان تيفينو في “رحلة إلى الشرق” صورة قاتمة عن المصريين مُصَدّراً فيها عن خلفية عنصرية مقيتة تجعل من لون البشرة مَصْدَراً لكل الموبقات، وهو إذ يبدي بعض التسامح إزاء الأتراك، يبدو كمن يقول حقاًّ يريد به باطلاً، فيمدح أشكالهم، ويهجو أفعالهم. 

   أمّا فولناي في “رحلة إلى مصر وسوريا” فيغلّف عدائيته بغلاف العلم، يستخدم آليات علمية في كتابه، “يراقب ويستمع ويحلّل ويقدم البراهين ويستخلص الاستنتاجات والعبر” (ص 155)، خلافاً للسابقين له واللاحقين به، لكن هذه الآليات لم تعصمه من السقوط لاحقاً في العدائية والتمييز العنصري. الأمر الذي يسقط فيه ويصدّر عنه شاتوبريان في “رحلة من باريس إلى القدس” مضيفاً إليه التعصب الديني، فيرى أن المسلمين أعداء، والحكام ظالمون وفاسدون، والعامة خبثاء وأذلاّء ولصوص، ولا تسلم من عدائيته المدن والبيوت والشوارع والجبال، فيضفي عليها من الصفات السلبية ما يجرّدها من أية إيجابية. وفي حين يميز لامارتين في “الرحلة إلى الشرق” بين الشرق والشرقيين، فيبدي إعجابه بسحر الشرق وجماله، ويتعاطف مع الشرقيين في البداية، لكنه ما يلبث أن يقلب لهم ظهر المجن بعد عودته إلى بلاده، ويدعو إلى الهيمنة على الشرق وتملّكه، موفّراً بذلك غطاء أيديولوجياًّ للمشاريع الاستعمارية، ومُسْفراً عن وجهه الحقيقي. وتبلغ العدائية ذروتها مع لويس برتران في “السراب الشرقي”، فيدعو إلى إدارة الظهر للشرق وتركه لمصيره، ويفنّد نقاط الجذب فيه، ولا يرى فيه سوى حلم مجهض ووهم كبير.

  ولا تختلف الصورة في الشعر والرواية والمسرحية والمراسلات والأدب بشكل عام عنها في الرحلة، من حيث السقوط في التعميم وإعلاء الذات واحتقار الآخر، ومن حيث التصدير عن النزعة الاستعمارية والتمييز العنصري والتعصب الديني، ممّا يمكن اختصاره بمصطلح “الاستشراق”. ولعل الفائدة الأهم التي نجنيها من دراسة جان جبور المهمة هو أننا، من خلال مشاهدة وجوهنا كشرقيين في مرايا الآخر الغربي، نتعرّف إلى وجهه الحقيقي الذي يحاول إخفاءه بأقنعة الموضوعية والعلم والحضارة. وعلى الرغم من هذه الحقيقة القاسية، فإن جبور يصدّر عن وعي متقدم وموقف إنساني حين يُحذّر من الوقوع في فخ “الاستشراق المعكوس” والكيل للآخر بنفس مكياله، منطلقاً من أن هؤلاء الكتاب لا يمثلون وحدهم الفكر الفرنسي، وأن هذا الأخير لا يختصر الفكر الأوروبي. وبذلك، يرفض مقولة كيبلنغ القائلة باستحالة اللقاء بين الشرق والغرب، ويتبنّى حكمة طاغور القائلة بحتمية اللقاء.

  “الشرق المتخيّل في الخطاب الغربي” دراسة رصينة، نتعرّف فيها إلى الآخر بقدر تعرّفنا إلى الذات، وهي تفكك التشوّهات التي تعتري نظرة الغربي إلى الشرق، وتحذّر الشرقي من الوقوع في الخطأ  نفسه في نظرته إلى الغرب. وتعكس الجهود الرصينة التي بذلها الدارس في وضعها، وتستحق القراءة أكثر من مرّة.

    ***

* إندبندنت عربية.  

     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *