قراءة نقديّة لرواية “شرق المتوسط”

Views: 14

لطيفة الحاج قديح 

 

بدعوة من “ديوان الأدب”، وحضور نخبة من أساتذة الجامعات والكتاب والمثقفين، في رحاب “جمعية تقدم المرأة” بالنبطية، عقد في الثالث من شهر حزيران الجاري لقاء لمناقشة رواية الكاتب عبد الرحمن منيف “شرق الأوسط”، وهنا قراءتي النقدية للرواية:

 

يتربع  الروائي عبد الرحمن منيف على عرش عدد من الأعمال الأدبية من أشهرها: “مدن الملح”، و”الأشجار” و”اغتيال مرزوق” و”حين تركنا الجسر” و”عالم بلا خرائط “وكتب أخرى، وحصل على العديد من الجوائز أبرزها “جائزة القاهرة للإبداع الروائي” و”جائزة العويس”.

وكما نلجُ البيوت من عتباتها، فسوف نلجُ الرواية من  عنوانها، الذي اختاره  الكاتب، واسعاً، فضفاضاً، فلم يحدّد لها زماناً أو مكاناً  في ذلك الشرق الفسيح … وطبعاً  ليس ذلك سوى لأسباب معروفة، منها أن من يتصدّى ويكتب كاشفاً عن وضع سياسي محتقن تعيشه الشعوب، ممكن أن يتعرّض لما لا تحمد عقباه…

يصوّر الكاتب في روايته الحياة خلف القضبان، ويناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء من خلال توثيق يومياتهـم وتجاربهم البشعة داخل السجن. وهذا  إن دل على شيء فإنما يدل على جرأة وشجاعة نادرتين، وطبعاً الهدف من ذلك ليس سوى تحفيز المواطن العربي الشرق أوسطي على مواجهة هذه الأساليب القمعية بالصمود والتحدّي والصبر على البلاء، والثورة ورفض العجز والاستكانة والاستسلام ..  

جرأة غير مألوفة

والرواية الصادرة في  خمسين بعد المئتين من الصفحات تصف بدقة متناهية وبجرأة غير مألوفة ما تتعرض له المعارضة السياسية في بعض دول المنطقة. وعندما نتخطى عتبة الرواية وندخل في متنها، تطالعنا الشخصيات تباعاً في خط زمني تصاعدي، فنعرف أن “رجب اسماعيل”، وهو الشخصية الرئيسية، قد بدأ حياته مناضلاً عنيداً، ولكنّه لا يلبث                                                                أن يعتقل ويسجن لمدة إحدى عشرة سنة، وتبدأ حفلات التعذيب وإرهاصاته و لكنّه يصمد. يقول: “السجن في أيامه الأولى حاول ان يقتل جسدي ولم أكن اتصور أن أتحمّل كل ما فعلوه . ولكنّي احتملت. كانت ارادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات ، وتردّها نظرات غاضبة وصمتا..”

ولكن ذلك الصمت لم يلبث أن تحوّل إلى مرض عضال، تشخّص بروماتيزم خطير في الدم، هدّد حياته بالموت، وذلك بفعل التعذيب الذي مورس ضده.

  ويعلمنا الراوي (وهو نفسه البطل) بأن رجب تعذّب كثيراً كثيراً في سجنه، وكان السجان يطفىء سجائره في جسده، ويضرب رأسه بالجدران، ويعلقه من قدميه ليعبث بجسده العاري بحرية.  وطالما كان يجرّه من خصيتيه، وقد صبر واحتمل حتى وجد أن السجن قد بدأ يسرق منه كل شيء: عمره المنصرم، صحته، أحبّته، فرأى أن استمرار  مكوثه فيه سوف يوصله حتما إلى حتفه، من دون أي أفق شعبي، أو تعاطف من أي كان،  كان قوياً في فترة فصبر وصبر وصبر، واستحمل العذاب وما لبث أن سقط، حيث قسوة السلطة وتعسّفها المتمثل بسياط التعذيب هدّد حياته بالموت، فانهار دفعة واحدة،  فقرّر الاستسلام والتنازل، واضطر إلى استنكار ما قام به والتوقيع على ورقة أدان بها نفسه، معترفاً أنه ندم على ما فعل، فتركوه يخرج من السجن، بشروط، بعد خمس سنوات من اعتقاله وتعذيبه. وما لبث أن ترك البلاد وفي نيته موصلة النضال بأساليب جديدة..

 

مسافر إلى بلاد الحرية

    نراه مسافراً إلى بلاد الحرية، إلى مدينة “مارسيليا” بالتحديد، على متن الباخرة العملاقة “أشيلوس” التي نقلته إلى عالم مختلف، فيقصّ علينا سيرة عمره عن طريق الاسترجاع (فلاش باك)  وما تلبث  الشخصيات أن تتوالى في الرواية، فرجب هو البطل الأول من دون منازع تعقبه الأم النموذجية بحنانها وصمودها الأسطوري، ورفضها استسلام ابنها الذي دافعت عنه قبل أن تموت دفاعاً  شرساً، وحبيبته التي تخلت عنه بعد دخوله السجن ، وشقيقته المتزوجة أنيسه التي لم  تستطع أن تلعب دور الأم ولكنّها لم تتخل عنه، وولديها اللذين أحبهما البطل كثيراً، وصهره حامد الذي صار بعد أن سافر رجب كبش فداء عنه..

وعندما وصل إلى فرنسا  وبدأ العلاج صمّم على البوح، يبوح لهؤلاء الغرباء الأحرار عن مظلوميته وعن تعاسته وسوء حاله، ويقرر اللجوء الى مركز الصليب الأحمر في سويسرا بالذات لكشف ممارسات السجانين في دول شرق الأوسط، فهناك سوف يستطيع الكلام على سجيته من دون أن يمنعه أحد أو يكمّ فيه.  ولكنه لم يستطع الاستمرار، فقد اضطر للعودة إلى بلاده لينقذ حامد  من دخول السجن…

الهم الانساني

الرواية تحملّ الهم الانساني بامتياز، “ذلك الإنسان الذي لم تعد تربطه بالحياة رابطة”: يقول: “أنا ذاك الإنسان. لا لست إنسانا.. ظللت صامتا كنت أحس نفسي عارياً ..”

ولكن ما يلفتنا أن الظلم الذي وقع على رجب في شرق المتوسط، قد وقع مثله أو ربما أشد منه في سجون أخرى خارج تلك المنطقة، وإلا فماذا نقول عما يحدث في  سجن مدينة كوينز التينانغو الغواتيمالي، وغيره من سجون العالم الكبير حيث تمارس أفظع انواع التعذيب والقتل وأشدها قسوة ووحشية… ؟

يبقى أن نقول: إن هذه الرواية التي تنتمي إلى “أدب السجون”، الذي ُيكتَب عندما يكون المرء محتجزاً على غير إرادته، فيصور معاناته وعذاباته وصموده. وشرق الأوسط،  تصف واقع الإنسان العربي التعيس عندما يقرر أن يقول، لا، للنظام الذي يحكمه، وهي تعدُّ من أكثر الروايات العربية جرأة، وسوف تظل شعلة مضيئة في عالم الرواية العربية، كونها توقع على قصة مأساة  إنسانية كاملة حوّلها الزمن إلى ملحمة أسطورية، تحكى الغضب والنقمة والخوف والحزن والشجاعة والبكاء والصمت.. وسوف تبقى شاهدة على عمليات التعذيب الوحشية والممارسات التعسفية والاضطهاد، الذي تمارسه بعض الأنظمة ضد مواطنيها الذين يرفضون الظلم ويرفعون الصوت عالياً صارخين بكلمة “لا”…!  

(hikeaddicts)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *