قراءة في رواية “مكاتيب النارنج” للروائي الفلسطيني الأردني محمود عيسى موسى

Views: 1054

غاده رسلان الشعراني

رواية من هيام وحنين ، أحرفها مكاتيب و رسائل حب و انوجاع و غياب أو ربما حضور في الحياة ، محاولة لفهم و عيش ، مقارعة للظروف والهموم والمسؤوليات واختلاف الأزمان والأمكنة بين الشرق والغرب … أزيز صاخب يقلق راحة المحبين ، يقشر أغلفتهم التي وثقتها التربية و أكدها المحيط للعودة نحو الطفولة الكامنة في نقاء الداخل والأعماق حيث اللعب بالبالونات واللعب بالكلمات ، لعبة الحياة ، لعبة الحب ، لكنها غدت لعبة القسوة والقرارات الوائدة لكل الجمال و لكل جنة على الأرض …

و كم من جني وجنية قد تجاذبا حديثاً عن أمير و أميرة متساويين في صفاء السريرة ، خلقا من عجينة واحدة ، نائمين ، تطالهما الشفقة ، يستفيقان بمفعول إكسير سحري و هما على يقين بأنهما التقيا فعلاً دون معرفة سر اللقاء ، يفتشان عن بعضهما ويعذبهما انعدام التمييز بين الواقع والحلم …

المحبوبة التي هام بها كاتبنا شجرة نارنج من نارنج الشام ، مقلوعة من أرض الديار ، التقاها بين أعضاء أحد الوفود فما رأى غير عينيها تحت العدسات الزجاجية و هي رأت ما رأى ، بات مأخوذاً بما وراء زجاجات الكوزلك ، دارت الدنيا و دار معها ، مشت الشام نحوه خطوة فمشى نحوها ، خطأ قدومها هو بيت القصيد الذي لا يعرفه غيرهما ، هي المزهوة بتواضعها تعلن أنها بشر مثله ، و في كلامه هو ، سحر أكثر من السحر …

ابتسامتها بعذوبة مجرى نبع مجهول بين الجبال ، تميل برأسها خجلاً و يسيل صوتها إلى المسامع بندرة بين الأصوات …

صوتها الشاميّ عمّر ثقته في الوصول إلى اللب وشجعه البريق الآمن في عينيها …

بادرها مباغتاً ليأخذها إلى ( أم قيس ) فأخذته معها قبل أن يأخذها معه … و ابتدأ اللقاء كأنه آخر يوم لهما في هذه الدنيا …

أمعن بطلنا ومحبوبته في إزاحة هذا اللقاء المنفرد إلى أقصى نقطة في بعد البعد ، نقطة غلفاها بالقداسة وأحاطاها بسياج سرابيّ و حرّما على حالهما الذهاب إليها أو الإمساك بها و الخوض فيها أو مسّ هالتها …

حرّما مناقشة شرعية اللقاء ، بين إعلانه والاحتفاظ به كسِرٍّ أبديّ سرمديّ حتى توارى و اختبأ و ابتعد يوماً بعد يوم فضاعت من عمرهما الفرصة الحلوة دون اغتنام ولم يغنما من الحاضر لذّاته كما قال الخيّام ، توّجا سرهما على عرش القداسة والسحر و كذبة المياه الصادقة …

يحاور كاتبنا حارسه ، صديقه الصدوق ( حجان ) لأن الصديق أهم من المحبوبة و أهم من الحب ، فكأننا معه في مونولوج داخلي مع ذاته العميقة المختبئة في حالة الصفاء ، تتلقى الرضى والطمأنينة فيغدو البوح كصعقة كهرباء ، كنقطة سوداء في ظلمة حالكة و يغدو الحال صعب كالدهر …

لقاء لمرة واحدة يشبه الروايات فجر بينهما كل هذه العلاقة السلكية واللا سلكية عبر آلاف الأميال …

صورة المرأة المسنة المعلقة في الغرفة الرطبة المعششة برائحة الدخان والمشروب تنطق أنه الخائن الأهم في التاريخ ، تنطق بحزن فاخر لمرة واحدة ثم تصمت بفخر إلى الأبد ، فهو الخائن الوحيد القادر على اضطهاد الصور المعلقة و تعذيبها على جداره المهجور في غرفته المهجورة التي لا يدخلها إنس و لا جان ، غرفة عُمِلت لشيطان شارد من مزرعة الشياطين كي يكويها بنار عذاباته ويحرقها بلهيب حزنه الذي لا ينضب حطبه ، ليغدو(الشيطان الخائن) …

فاحت رائحة عطر النارنج في الغرفة و حدث الانفجار فتطايرت شظايا عصيرها في الأرجاء و سالت المياه و أغرقتهما للرُكب -مياه عطرية- برائحة لها نكهة والنكهة لها مذاق والمذاق له حلاوة و حموضة و مرارة و هذا هو سر النارنج و البيوت أسرار …

الروائي محمود عيسى موسى

 

للنارنج سرٌّ لا يفضحه العصير فالمياه تفوح وكاتبنا يبوح شعراً و نثراً وكلاماً و موسيقى لها طعم ربما كالفاكهة مثلاً ، يؤنس أوجاع الغياب والبعد باستحضار كل الفيروزيات وأغاني الزمن الجميل على مدى المكاتيب والتسجيلات الصوتية ، يلفظ اسمها لفظاً له رائحة …

جرجرته إلى قوس النصر رمز خلود انتصارات الجيوش الإمبراطورية بباريس في فرنسا و الذي يقع على رأس طريق الشانزلزيه المزين بالأشجار ، حمل السر معه و العلن وما أبقى شيئاً -قلة أقواس في بلادنا- !!!

هي التي رحلت و ما قالت حتى مرحباً ، سلبت اللب و الحشا و انصاعت له ، و من لهفةٍ أوقعه بها الانصياع و لوثة السفر ، حشرته و عذبته باتهاماتها لصمته و كأن صمته ليس هو الكلام …

هو الذي ولد بصمت و عاش في أعماقه و ها هو يخونه بالكلام الذي هو مجرد كلام ، معها حق فهي لم تتلقَ منه أي رد على مكاتيبها كل هذه السنوات …

كاتبنا دائم الفوران كمياه الينابيع المعدنية ، دائم الغليان و سريع الاشتعال ، سيرد على رسائلها دفعة واحدة برسائل مفعمة بالكلام الصامت ، ليقول سكوته الذهبي ، سيضع الشيطان الأخرس بين يديها لعلها ترتدع ، فهو يجلس قلقاً على كرسي العقرب فلا تأخذه سنة و لا نوم …

لذا قرر أن يكشف المُخبّأ فكان صديقه الناجح بحراسته مخبأه وملجأه فلا صمت بعد اليوم و الأوراق كالعقارب لا تتوقف عن اللسع ، لكن الحقيقة أن شجاعته كما جرأته و صموده لا تسعفه أمام النارنجة البعيدة و هو الذي يعرف خوفه من المسافات – البحر – النساء وآخر الدنيا ..

محبوبة كاتبنا هي المرأة التي غابت ابتسامتها الفاخرة بين الأمس و اليوم ، التي لا يحتاج مثلها إلا إلى فيض من الحب والحراسة ، مثلها من يحتاج إلى الخفقة و النبرة و اليسار الذي في العين و في الكتف ، إلى النبضة و الرقة و لقوس حنانٍ من قزح ..

كان يقرأ مكاتيبها ، لا بل ينشدها و يرتلها ترتيلاً ، كان في حبه كل المعاني بكل تناقضاتها و بكل اتساعه ، غدا الصفات كلها و بلا صفات ، سبق ذاته إلى صفاته منشداً نشيد إنشادهما بين قوسين ( من حارس الشرق الخائن الأزلي إلى نارنج ) وكأن الحياة كذبة ، نرقص ، نضحك وننصب لها الأقواس فكيف انهزما في عز دين يقظة حقولهما و فورة الحبوب و طقطقة الصنوبر في الأكواز ؟ و كأن الهزيمة مغفرة الجهل و هما يتجرعان الانتظار عطاشى ، و السماء قبة القباب ، ذاك الضباب ، ذاك الماء الذي يسقيهما و لا يروي العطش ، يغتسلان به و يتطهران ، يخلعا عيونهما ويتبادلان المحاجر هدايا و أحجار كريمة كي يريا ما كانا لا يرياه ، و تبتل الشقوق في الشفاه ..

في لقائهما الأوحد الوحيد زارا ( أم قيس ) عند ملتقى الأردن بسوريا و فلسطين ، ملتقى سحري سري عجيب ، بكى عنده كل الذين أخذهم كاتبنا إليه ليتطهروا فيه و يطهروا أنفسهم من ذنوب ارتكبوها أو لم يرتكبوها فكان الملتقى مثلث البكاء ، أضلاعه البلاد الثلاثة ، مغطس للروح ، معبد، هضبة و نهر و بحيرة ، فكيف يسرقون الجمال الأخاذ من الأوطان ، من أهلها ؟ بلاد مفعمة بالحياة والحسن .

 بكت النارنجة المهاجرة المعتقة على أضلاعها الثلاثة عصيراً مرّاً حلواً حامضاً ، معقوداً مخبأً لأيامها الصعبة ، بكت نارنجاً مثلثاً مقطراً ، عرقاً مثلثاً يسكر و لا يفرح …

رسم مثلث الأمس قبل آلاف السنين أقسى الصور للقاء وحيد بين أضلاع تفرقت و باعدها الطرش الذي في زفة الأمس ، كان و ما زال …

بدأت تنثال المكاتيب انثيالاً بعد اللقاء وفاضت المكالمات الهاتفية و الرسائل كأنما الحب كلام و مكاتيب فكان المكتوب الأول – من النارنجة المرة إلى الحلاوة السرية في عينيه ، إلى الحارس ، حارسها –

تشتاق لعينه التي تهدهد الروح و لزاوية شفته التي تكشف البسمة الحانية التي تعدل مكر الدعابة في الناحية اليسرى ، تشتاق ليده العطوف و صوته الشفوف و قوسه الحزين الذي يبكي لمجرد فكرة .

حلمها ربطها بالحياة فسرقت شيئاً من نار السعادة التي ظنت أنها خمدت للأبد ، حلمت به يأتي ليحممها بيده كما الصغار ، يده مليئة برغوة الصابون تنزلق على بشرتها فيغمض عينيه ليطبق على السعادة و يمسح عنها تعب الطريق والشوق ، حلمت أن يأتي إليها إلى عنوان أكثر العاشقات اشتياقاً ، نسخت له مفتاح شقتها و أرسلته في البريد ليأتي متى أراد فهو الجذاب المهضوم الذي وقعت في هواه من النظرة الأولى ،كانت (تضوج) لأجله كل مساء و هي تقاوم الرغبة الحارقة في الاتصال به تلفونياً – هكذا همست الفلة وأوراق (اليوكا) له في شقتها حين حلمٍ عابث ، حلم يقظة فلم يغرق بين الخيال و الواقع ، و انتابه ما نعرف من البلل و النداوة …

ليتحول مجرى البلل و سيول المياه بقدرته إلى أعلى فتنساب النداوة من مجاري العيون بدلاً من مجاري العشق الملتهبة التي تقوست منذ أن دخل فرنَ خزفها قوسٌ فريدٌ مرة ما و ما عاد كررها و لا عاد

هو الأناني الذي كتبت له مشاعرها جملة و تفصيلاً و لزم صمته ، صبت فيه فيض العشق حتى لا يسخر من عواطفها و اندفاعها فهذا يخيفها كما الحرب أو القيامة أو الموت قبل أن تراه من جديد و تغفو على كتفه الأيسر بأمان .. بعدها لا يهم .

استغراق وهيام ، و كبرت العلاقة السلكية و تنامت مع المرأة النارنج ، تطورت و بلغت ذروة العلاقات السلكية و الورقية حتى وصل الحال به أن يطلب منها رسائلها الصوتية مسجلة على أشرطة كاسيت فكانت العلاقة تقنية سلكية ورقية كاسيتية تكنولوجية، توطدت و استمرت قوتها من ذاك اللقاء الحبي الوحيد …

مجنون مسه جنون الأعماق عبر الأسلاك الممتدة على طول المسافات و الجغرافيا ليكون هذا السلك الأثير ، خط الأفق الحقيقي عجيبة من عجائب الدنيا السبع زائد واحدة ، فالعجائب لا تحتمل زيادة و لا نقصان …

وصلت الكاسيتات عبر البريد بطرد خاص به من بلاد الإفرنج فكان ال ت.ن.ت و اندفعت الشظايا و سمع الفرقعة و الدويّ ، حملت الأشرطة صوتها ، حملت كنزها الذي طير تالي العقل ، رن صوتها في التلابيب و تجسدت روحاً انبعثت أمامه من آلة التسجيل كملامسة الكهرباء كانت ( من نارنج المرة الحامضة إلى حارسها ) ، أصبح كل ما حوله ممتعاً و أوقظ أنواراً جديدة داخله و شعر بالارتياح ، هي دقائق يسرقها من حساب الزمن و يمر نسغ الحياة في عروقه و عروقها فالمتعة تشحذ بريقها عندما تتجاوز مواضع الألم في جسده المتعب …

كيوبيد الذي يوقع القلوب في شباك الحب بقوس و سهم يصوب ، يسدد ، يصل المرمى ، ويلٌ للقلوب و المهج حينها إذ تصبح كثمار النارنج الدمشقية ما بين الحلاوة و المرارة و الحموضة …

يدخل كاتبنا خلوته فالأوراق له وحده ، يقرأ و يتذكر ويحفظها كما فحول الشعراء لقصائدهم ، يغنونها بخيلاء مُسكر و هيام مهيمن و بشجى أخاذ مزمجر ، و هي تبكي في فراشها و لا تعرف النوم هناك ، تبكي من صمته و على صمته … هو يصرخ  و هي الضحكة المجلجلة في الأثير يفز القلب معها من مكانه و يخرج عن طوره …

أيتها الشرق في الغرب ، الغرب الذي سرق نارنج الروح و فغم دراقن الجسد فحارس الشرق لا ينام …

صوتها الهامس يدق صيوان أذن البلاد البعيدة ، يهمس من خلف الخلف و يوقظ البياض في الفلة …

صوتها الدامسكو ، الثياب المزركشة بالرسوم ، الحرير و الكتان ، أعاد أمامه يوم النقش ، يوم حنائها ، فكان حاراً لاذعاً ، يوم بكت من شدة الألم لكنها تحملت على مضض لتبقى بعد ثلاثة أيام علائم النقوش بارزة بألوانها البنية …

كلمة السر نارنج لا يحلو طعمها إلا بمرارها و التي تؤكل حتى القشرة عندما تربى و تعقد ، فتزوج ربات البيوت ثمرة النارنج بثمرة اللوز و يا للذة الطعم و جمال المظهر و حرارة الحب ، ما أمتع كلمة لوز بين الشفاه ، يُنصح بلفظها لذوات البسمات العريضة اللواتي يسعين إلى إيقاع هواة الأفواه الصغيرة في شباكهن …

اللوز حنون في خضرته الهادئة و هو طازج ، عوجا أو منحنية ، فالشكل المنحني المتقوس جزء من تراثنا العربي كالهلال و السيوف و الخناجر … يا للمازوشية !

تغدو قشرة اللوز الداخلية قاسية بعد أن كانت تذوب ليناً و عذوبة لتحمي لب الطفولة الغضة خشية قهر الدهر فيصبح من الصعب نزعها دون عنف ، دون دق أو كسر …

ظل باب القوس يزمجر صدئاً كلما أراد فتح ضرفتيه فزيت اللوز لم يعد يفيد و الحل الوحيد زيت الزيتون …

هي أخت البرتقال و أخت الكباد و الأترج اقتلعت من أرض دياره في زمن غفلته قبل موسم الحراثة فما الذي فعله الغرب به حتى انغمس في كوبه ككيس الشاي الليبتون المربوط إلى خيط أنيق اعتصر كل هذا العمر …

” الذكرى ناقوس يدق عالم النسيان ” جملة جغرافية محضة فليس صدفة أن جيلهم بأكمله طلع من هواة المراسلة ..

تتأرجح هي من أقصى التظاهر باللا مبالاة إلى أقصى أبعاد الاندفاع فهي لا تجيد التهديد بل التنهيد و لا الوعيد بل انتظار تحقيق الوعود و لا يسعها إلا الامتلاء بالشوق …

يريد الهروب من الحب ، هكذا قال له العطار العجوز ، قرأ الخوف في عينيه من وطأة مسؤولية جديدة ، همومه كثيرة و يخشى أن يزيدها ثقلاً بحب جديد ، استقر فيروس شقاء الحب في دمه كما الكثر ففقدوا مناعتهم المكتسبة فطرياً بالإحساس بسعادتهم  والتنعم بها

تحمّل العذاب أقوى من تحمّل السعادة واستقبال الحب بلا عذاب كالحبل بلا دنس و الولادة بلا ألم و كلاهما يشبه المعجزات …

لدى العطار العجوز ترياق بأن يغدو كما شجرة الزيتون تجمع بين صلابة تُكسر و لين يُعصر لفائدة الحياة و أبناء الحياة …

فالزيتون ينجح في كل أنواع الأراضي لأنه يحتمل العطش و الإهمال دون أن يبخل بعطائه ..

التركيبة اسمها ذاكرة النسيان و مستحضر آخر يغلب عليه الصبر ، ليس ذلك الذي هو مفتاح الفرج و لا مفتاح الفرح ، الصبر المر العلقم المحنظل الذي يثبّت حمرة الحناء في شعر صبايا هذه البلاد … نصحه أن يمسح بالزيت ويردد ( السعادة حق ) لأنه من حقه و الحق يؤخذ و لا يعطى ..

أبى عناده ، طلب العلاجين فابتلع العلقم و إكسير النسيان

 ” عشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني ” ..

في الأسطورة شطر زيوس كل مخلوق شطرين متساويين كما البيضة بشعرة هكذا جاء في مأدبة إفلاطون و بدأت رحلة البحث .

 يردد صوتها آيات العشق فهي قد عادت إلى قوسها ، إلى مُنحنى الروح و سلّم الأمان ، تطلب إليه أن يصعد بقوسه إلى قبة القباب و يأخذها في ليلة الجمعة .

هما المتلازمان المتباعدان بحكم المبدأ و المنطق كقوسين لجملة اعتراضية حين تولد حاجة ضرورية لإضافة طارئ على ما هو مبرمج مسبقاً مع ثبات الرغبة الأكيدة في استئناف المسيرة الأولية فنشق الدائرة نصفين كمن يقسم ثمرة النارنج و ينادي كل قوس نصفه الآخر عله يستجيب ، القوسان ضرورة أساسية للاعتراض ، فلو تذكر ديكارت حكايتهما لقال بدلاً من أنا أفكر أنا موجود ، نعم ، لقال دون شك أنا بين قوسين أنا أعترض ، أعترض على السلبية في الفكر و الفعل و القول ، على السلبية في الحب ، أعترض على الخوف الذي يجعلنا نصمت حين يستوجب الكلام ، على الاندفاع أمام برود الآخرين ، أعترض على جانب من أنفسنا الأمارة بالسوء عندما يتسلل النسيان أو الإهمال إلى الروح …

تجرأ وباح و وصف اللقاء الأوحد كما لو وقع في الفردوس المفقود ، كما رحلة الخروج من الجنة الأولى ، رحلة الطرد ، عقوبة الثمرة الأبدية بهالتها من السحر والإغواء المكور و خبث التفاح و مكر الإبليس و ثقته الملائكية بحتمية السقوط على الأرض ، رحلة البحث الأولى ، بحث الآدم عن الحواء أطول و أصعب رحلة ، العثور و الالتقاء …

لقاء يشبه السحر والحلم ارتقيا به و اقتنعا أنه لم يكن صدفة إنما قدرة قادر و علم عليم وتقبلاه بصفاء الإيمان المطلق إلى أن بلغ بهما مبلغاً مقدساً فصار لزام عليهما أن لا يخدشاه …

نحن أبناء الحوض الذي توسط العالم و حشر الأنبياء جميعاً فوق تراب شطآنه الشرقية ما زلنا أقدر الناس على السعادة و كذلك أمهر الكائنات في تعذيب الذات ..

الحياة مجموعة لحظات هانئة لا ضرورة للترابط و التلاحم بينها ، ليست لوحة جدارية مائية أو زيتية بل لوحة فسيفسائية مكونة من مربعات صغيرة لكل منها كيانها الخاص تشكل تحفة بديعة .

هل يعرفان مدى ارتباط معنى وجودهما ببعضهما ؟

ضم ولادتهما خريف واحد ، و لوحتها تكاد تكتمل و لا تريد الرحيل دون أن تحمل بصمات حبه لها ، فيد واحدة لا تصفق .

وصف كاتبنا محبوبته وصف أبّهة فهي الحورية التي سقطت من الجنة و ما تكسرت شفافيتها ، خرجت من البحر إليه مكسرة الزعانف ، هي المرأة بيضاوية النصل ، مؤنفة ، تامة الحواف ، جاء ماء الزهر منها ، ليست خالية إلا من العيوب ، ليست قمحية و لا حنطية لكنها مشبعة و معشقة برائحة قمح حوران الذي يصعد إليها ، شجرة نارنج كاملة مكملة ، فهي المرأة النارنجية التي حمحمت حِمماً حملتها إليه ، و اعترتها فجأة بين يديه حمّى الشرق الحميمة و حماه وسخنت رمال هنا و هضاب هناك و هاج طوفان الحمّام و ماج .

فالمرأة في عرف كاتبنا الجميل جميلة بمنظرها و مظهرها لا بكحلة عينيها و لا بأسود شعرها الفاحم المنسدل فوق لوحيها  بل بجرار عسلها ، فالنارنج عسل من بلاد و عصير من بيوت ، النارنج خشخاش العقل والخشخاش نارنج القلب …

تريد هي أن تعيش قدرها كزهرة فهي الأكثر وعياً بين الكائنات لقصر العمر و عبور الزمن بسرعة الضوء ليوقف الزمن طيرانه كما يقول الشاعر الفرنسي لا مارتين ، ليوقف سرقة العمر …

أدرك أن التضحيات لا بد منها في مسيرة أي حياة و أسياد العالم الموازي منحوه قدرة خارقة امتناناً منهم لمحافظته على سر لونهم -لون الدم و العرق و ليلك القميص- و على ثمن الحياة ، منحوه سراً يشابه عروس البحر الصغيرة فارتبطت قوته بالصمت والصبر ، وكان الصمت كالتعاليم المقدسة فلم يذق حلاوة التفاح و راحت عليه

و لا يُسمع لخلخال الشرق صوت لامتلاء في ساق النارنج …

أحوال الفعل العربي تتلخص في حالة الماضي المبني دائماً على الفتح والفتوحات أو مبني على النصب أما في حالة المضارع فلا يجرؤ على المغامرة في الطريق المعاكس بسبب الخوف المغروس في النفوس منذ نعومة الأظفار ، منذ بدء الخليقة …

إن أنجبت القبائل العربية كائناً ( ذكراً أم أنثى ) يرفض صيغة الأمر لن يجد مكاناً لا في القبيلة و لا في اللغة و لا في النحو و لا في القرى و المدن …

مفهوم السعادة نسبي و مختلف ، تقول أنا أحيا فأنا موجود ، وكل ما يأتي يكون إضافة رغم أن الكثر لا يحصلون على الحد الأدنى فلو اقتنع الجميع بالحد الأدنى لاتسع الكوكب للجميع و لسدت حاجات الجميع …

الانعزال ليس أنانية و لا تضحية ، فلا داعي لتصنيف الأفعال لدى الناس في خانات و بنود ، فالهدف الأمثل أن نحقق أقصى رغباتنا الدفينة بوجه آخر هو خدمة الآخرين لتتساوى الفائدة الذاتية بالفائدة الغيرية ، لا دائن و لا مدين و تتحقق معادلة الخدمة و المتعة .

الحروب و الأوبئة و المجاعات ليست ضرورة ملحة من أجل بقاء الأقوى ، لكن المشكلة في اغتصاب الحقوق عنوة حيث يستسهلون الحصول عليها عند الأضعف و الأعزل و المسالم ، فغابت الحكمة و صارت تؤخذ من أفواه المجانين …

كما خطأ ظنونه بنهر النيل أنه يصب بالحبشة ، والحبشة أنثى لا يمكن أن تكون ديكاً فالنيل ينبع منها ، لأن النهر لا يمكن أن ينبع من ذكر .

جرجروه إلى الحبش ، الحبس ، الحب .. بس ، الحب سعره بسعر السجن ، الحبش ديك ، والحبس ألف ديك فأدرك سبب وقوعه في الخطأ الجسيم بعد ما جرجروه ، وكلما دق الكوز بالجرة يجرجروه ، ليتهم أدخلوا الخازوق بالكرة من قطبها الأسفل إلى قطبها الأعلى كي تدور دورتها بمجرد لمسة …

لحق به أخاه (ترهز دئار) بصمته الحجري كما الصمت على البلاد التي ضاعت فكلهم في العائلة ورثوا صورة التحجر الذي تحول إلى صمت خانق ، صمت ظالم ، صمت الغضب على أكل الحق ، صمت الصبر و صمت الزعل على موروث اللغة و خبث الناس و حقدهم غير المشروع ، غير المبرر ، تم إيقافه لتأخر تسديد نفقة العيال و أم العيال …

ذكّره بصمته فهو الصامت الأكبر ، علم أخاه و كان المثل الأعلى الذي لا يشق له غبار إلى أن هاجمه و اجتاحه الغبار و شق صورة الأخ الأكبر – تشقشقت يا أخي-

أدخلوه الزنزانة وكان السطل و الساطل والمسطول في نفس الغرفة ، فهل هي عقوبة قبل بدء المحاكمة ؟

لا يتوفر قاموس ليفسر و يوضح كلمة بسيطة مثل الحق و المنطق و الغرفة النظيفة و المجهزة بحمام تواليت لقضاء حاجة ، خاصة في حالات الإسهال نتيجة برودة البلاط ، كيف يمكن الصبر و ضبط النفس و التعايش مع المشهد و مع الرائحة و منعكسات الإقياء لدى صاحب الشأن  الخرائي و لدى الآخرين ؟

 كيف يمكن تحمل وقبول ذلك في غياب الماء و أوراق التواليت والصابون والمعقم والمطهرات والمناشف ، لماذا لا يوجد مياه شرب و لا يوجد طعام ؟ فالحيوانات في الحظيرة يضعون لها الماء والطعام …

البهدلة هي الغاية المنشودة والتعذيب هو الهدف المطلوب ، تعذيب البشر فوق عذاباتهم ، والبهدلة درجات استناداً إلى لوائح حقوق الإنسان …

النظافة كبند أول مع البق و القمل الذي يسرح ويمرح في معتقله الاختياري و يستلذ بالأجساد الملفوفة داخل البطانيات ، والدقة كبند ثاني بتحديد ساعات التوقيف و البت في مدتها ، مطمطتها ، المزاج الملول الكسول الذي ارتاح على راحته هو الذي يحدد ، و البند الثالث لكل مواطن بطانية ، كانوا خمس بطانيات و كنا ستة ع النبعة إجا الموقوف صرنا سبعة …

البهدلة درجات ، فإذا جاءت الظروف عليك جاء عباد الله عليك ، دفع أجرة البيت ، دفع فاتورة الكهرباء والماء ، دفع الديون ، كلها درجات بهدلة ، و إذا سكرت و ضجّت أم العيال و بلغت الدرجات ألف درجة و درجة لتدرك أن الفضيحة ليست أهون ألف مرة من البهدلة …

صوت المحبوبة شلال من عصير النارنج ينهمر من أعلى الجبل إلى ثنية الوادي يسميه ( وادي النارنج ) …

وصلت الأشرطة ، عشرة أشرطة ، أدار آلة التسجيل ليفرغ الرسائل على الورق ، لم يسمع إلا الأزيز و جملة في نهاية كل شريط بصوت رخيم ( بين قوسين لنا وحدنا افتح قوساً و أغلق قوساً ) ، لم تكن مزحة ساذجة بل جد الجد ، سجلت له الصمت و أرسلته له بسخرية مريرة و قرأ على الشريط العاشر كلمة (الختام) ، انتفض ، تشوش و اعتراه التوتر مع الخفقان و الارتباك و تفجر كل شيء …

بحث عن قلبه كي يجمعه و يعيده فلم يجد غير صقيع الرخام ، بات البيت مهجوراً من العيال الثلاثة كالقطط الصغيرة و أم العيال ومن النارنجة ، مهجوراً من الأمس و كأنه من قبل آلاف السنين …

مع كل رواية تنتهي قراءتها للعالي محمود عيسى موسى

 و مع كل مكتوب عظيم بحبر ماء نهر الأردن أتعمد …

أشعر بالفرح و بالفرج بعد صبر أني نلت شرف القراءة

شكراً بهياً كاتبنا الجميل …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *