تظهيرُ الجَمالِ بالقلم

Views: 235

 الدكتور جورج شبلي

لقد حبَّبَ الزّمانُ للناسِ مسالكَ قيادةِ المُلك، والتمكّنَ من الجاهِ والأَنَفَة، موقِظاً في نفوسِهم دواعي القوّةِ والسّلطة، كما حفَزَ أصحابَ المواهبِ، لا سيّما الكتابيّة منها، على البلاغةِ وبَواعثِ النّشاطِ الإبداعي. وإذا أرخى الزّمانُ العِنانَ للقَدَرِ فوارىالسّلطانَ واضمحلَّ نفوذُه، ولم يأتِ عليه التّاريخُ إلّا بالإشارة، فهو يعجزُ عن كَبتِ الرّغبةِ الى تظهيرِ الجَمالِ بالقلم، ليصيرَ الجَمالُ غايةً في صفتِهِ، لذا، لا يستطيعُ الزّمانُ أن يجعلَ حظَّ الكتابةِ كَحَظِّ الممالك. وإذا أدبرَ الذِكرُ عن المدوَّناتِ لِوَقت، لأجلِ انحطاطٍ أيّاً كان سببُهُ، فهذه لا تلبثُ أن تتوهَّجَ، لتربحَ، بذلك، بها، دَعوى الحضارة.

الجَمالُ لم يُخلَق من عدم، ولم يُبعَث مرةً واحدة، لكنّه، في الظّهورِ والإتّقاد، على نَحوِ ما تفعلُ تباشيرُ الصّباح. إنّه جذوةٌ تُلهِبُ ما تَمَسُّ من أوتار المشاعر، وتَحفِزُ الحِراكَ الذَّوقيَّعلى تَلَمُّسِ طريقِ التَّعبير عمّا يرتاحُ إليه، فيمتدُّ على الحبرِ ظلُّ الجَمالِ الذي هو ياقوتةُ الذَّوق. من هنا، تعجزُ القوالبُ الجامدةُ عن ممارسةِ رِقِّها عليه، وكذلك،يَخيبُ أملُ الوصفاتِ التّقنيّةِفي بسطِ سلطانِها على سرائرِه، لأنه يَكمنُ في صافي الأحاسيسِ لا في الرّأس.

في سابقِ العهد، لمّا لم يَبسمِ الجَمالُ للقلم، خجلَ الحبرُ حتى ارفَضَّ عَرَقاً، وقضى بأن يُغمِضَ جَفنَيهِ عن مقاماتِ الإبداع إلّا برفقةِ مُحَسِّنٍ طَيّاب، تُصمَدُ الدّهشةُ بين يَدَيه، للفنِّ به سَكرة، وللمشاعرِ مسرحُ تَصاوير. وكان الجَمالُ شلاّلَ مجالسِ الكتابة، وسليلَ أعيانِ القرائح، ما تنفَّسَ القلمُ، معه، إلّا تَحلِيَة، إذا لَحَظَه تَهَلَّل، وإذا ناقلَهُ تَدَلَّل. والكتابةُ، مع الجَمالليست دَميمة، وهي طريقٌ مسلوكٌ بهدايةٍ كطريقِ المَجوس، ومؤيَّدةٌ، لحظةً بلحظة، بالصُّوَرِ التي استنباشُها لا يحصلُ إلّا لِمَن وُلِدَ في برجِ السَّعد.

إنّ اشتغالَ القلمِ بالجَمال يشبهُ اشتغالَ الحناجرِ بالموسيقى، هذه التي تتبعُ قواعدَ وأصولاً تفرضُ شروطاً تطالُ الأصواتَ على اختلافِ طبقاتِها، وتشكّلُ معضلةً لأكثرِ المُشتغلين بالغناء. وكذا الجَمالُ يفرضُ أبجديّاتِ الإجادة، صعبةً، عصيَّةً على العاديّين، فمَنْ أتقنَها تَبَوَّأَ، وحدَه، صدارتَه. وكما أنّ جفاءَ المهارةِ في الأداء ليس له علاج، كذلك، مَنْ لم يكتملْ عندَه احترافُمدمكةِ الجَمالِ في التّعبير، لا تنفعُ معه وساطةٌ، ولا دَعوى استئناف.

عندما لبسَ الحبرُ جَمالاً تبَدَّلَ لونُه، وارتدى رقَّةً، واتَّسعَ مدى الصُّوَرِ في مساحتِهحيثُ مخابئُ الدرّ، واستقلَّ متنَ الإحساسِ الرَّشيق وهو تذكرةُ الطَّوافِ فوق تُحَفِ الإبداعِ، هذه التي تكسرُ قيودَ المألوفِ لتخلقَ مناخاً يروقُ للكلامِأن يتجوَّلَ في أرجائه. إنّ المحتوى الجَماليّ في تفاصيلِ الحبرِ، بين صُنوفِ إنتاجِه، يعتلي، وحدَه، سُدَّةَ البدرِ بين الكواكب، لأنه يستطيعُ أن يضعَ الذَّوقَ في حالةِ انبهار، والنّفسَ في جَوِّ نَشوة، كيف لا، وفي كلِّ مرّةٍ يحملُ الحبرُ بين يَديهِ جَمالاً، يشعرُ فَيضُ الجَمالِ أنّ قوةً خرجَت منه.

الجَمالُ حالةٌ قدسيّةٌ، مَنْ أَقدرُعلى انتهاكِ حرماتِها منَ القلمِ المُبدِعِ الذي يُقيمُ الجَمالُ في ثناياه،وهل يَحلُّ استلامُ تمثالِها لغيرِ الحبرِ الخلّاقِ الذي غُرَّتُه الجَمالُ الزُّلال ؟واستناداً، أَلا يجدرُ أن يتعرَّضَ لأَقسى العقوباتِ مرتَكِبو الحَشوِ من ” القَبّاحين “، في زمنٍ نَفَقَ سِعرُ المواهبِ، وانتقلَت مطالعُ الجَمالِ الى مأوى النّسيان ؟

إنّ نعيمَ الكلامِ بالجَمال، ولو استُقِيَ من وشوشاتِ الجنّ، وسيقَت مَجازاتُهُ شطحاتٍ ليس للعقلِ، فيها، ظلٌّ، ولا شخص، فهي مِثلُ رقعةِ الشّمسِ في خُدودِ المِلاح. أمّا نَعتُ الجَمالِ في الكلامِ بأنّه زخرفةٌ جوفاءُ، أو صيغةٌ تتولّى رموزُها إدهاشاً فانتيزيّاً لا يلبثُ أن يضمحلَّ، كالبُروق، فهذا افتراءٌ يأتيه مُتَصَنِّعو النَّقدِ من غيرِ المحتَرِفين، أو العاجزونَ عن تَكحيلِ جَفنِ الكلامِ بِمِيلِ الجَمالِ فلا يَشعرُالذَّوقُ بالرِّضا.

الجَمالُ هو رسمٌ بالكلمات، وحِليةُ الحبر، وبقَدرِ ما تحظى الحِليةُ بالحلاوةِ، بقَدرِ ما يكونُ الحِبرُ صائغاً بارعاً. ويُخطئُ مَنْ يَحسبُ أنّ إحالةَ قيمةِ الكلامِ الى مُعطى الجَمال، هي فَضلةُ لسان، أو ضربٌ من العشوائيّةِ في التَّقدير، فالجَمالُ هو الأَسرعُ ممازجةً للقلب، تَصِلُه به أسلاكٌ من الشُّعورِ المتَحَرِّرِ من إملاءاتِ الإرادة،ليهيمَ في مزاجٍ خلّابٍيشبهُ رابطَ العشق.

لقد صدقَ مَن قال : ” وُلِدَ الجَمالُ يومَ قالَتِ الحيّةُ لحَوّاء : ما أَطيَبَ أَكلَ التفّاح، ولم تَقُلْ لها: كُلي تفّاحاً “.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *