د. مصطفى الحلوة… ” ساهمت في إسكان عبدالله شحاده في ثقافتنا!”

Views: 265

د. أدونيس العكرة

دكتور مصطفى

انت متّهم بالتواطؤ مع المساجين، فجاز تكريمُك…وجرمُك الأفدح هو إسهامك الى جانب السيدة ميراي في إسكان عبدالله شحادة بيننا، ليس فقط في مكتباتنا بل في ثقافتنا ايضا.أما أنت الذي وضعتَ لكتابه “ليالي القاووش” مقدمتَه البهيّة؟؟

صحيح ان عبد الله أعلى منّي رتبة لأنه تخرّج قبلي من السجن بحوالي الأربعين عاما. ولكننا نبقى زملاء قاووش. ونحن نعرف انه الآن في زيارة خاصة لما بعد هذا الكون، ولن يستطيع الآن مشاركتنا في تكريمك. لست أدري إن كنت تعرف، ولكنني انا اعرف بأننا، نحن ابناء السجون، خريجي الزنزانات، نفهم على بعضنا بالإشارة. انها لغتنا أيضا،وقد اكتسبناها بالخبرة. فمن “ليالي القاووش” فهمت منه انه كلّفني بالنيابة عنه في تكريمك بـشيء من تجربتي السجنيّة المشابهة لتجربته،لأكونَ أوفى وأصدق تعبيرا عمّا كان سيقوله، هوشخصيا، لوكان مكاني في هذه اللحظة.وكان شرطه أن أدخل كلماتي، من باب تكريمك، في سياق الحرية. تلك الحرية التي ما استطعت اليها سبيلا في ذلك الزمان، لا من أبواب الشمس والبحر، ولا من أبواب كل رياح الأشرعة.

 

أخي مصطفى

في ذلك الزمان غير البعيد كفاية، كان المواطن ممزّقا بين الرغيف والوطن: إذا ناضل من اجل الوطن دخل السجن فجاعت عائلته وصرخ أبناؤه: ماذا فعلت بنا يا أبي. وإذا وقف عند أبواب الرغيف، واقساط المدارس، وتكاليف الطبابة والسكن، تاركا وطنهم بين أيدي الشياطين، سوف يحاسبه أبناؤه: ماذا فعلت لنا يا أبي؟

إن ما يقرّب الحزن اليّ أحيانا، هو ان العديدَ من أصحاب الجرم، في ذلك الزمان، لا يزالون يتصدّرون المجالس، وضحكاتهم ترنّ على الشاشات وفي المنتديات، ولكن ركابَهم معفّرةٌ، وعلى رقابهم صدأ الحديد ظاهر. أما الناس، أصحاب الذاكرة التعبة، هؤلاء اللاهثون خلف الرغيف، وحبة الدواء، وقسط المدرسة… فترى الكثيرين منهم، عندما يكون في ساحات الوطن ظلمٌ وقهرٌ، يقبعون في زنزانات بيوتهم المفتوحة ابوابُها والشبابيك على الهواء والشمس، فلا يجرؤون على الخروج منها ليشاركوا في دفع الظلم… وهناك آخرون، عندما يقع الظلم على المختلفين عنهم في الرأي والمعتقد، يفرحون لانتصار الظالم، ويصفّقون لانكسار المظلوم… ولكن الظلم أعمى ليس له صديق.

 

أخي مصطفى

ما جئت اليك شاكيا، ففي الشكوى الى غير الله بعضٌ من كثيرِ مذلّةٍ أو قليلها. انني، في حضرتك، أشكو الى عبدالله زميلي في السجن، بعد أن أصبح في روح هذا الوجود وفي تكوين وحدته.

يا زميلي عبد الله، يا سيدي،

في ذلك الزمان القابل للتكرار في تاريخ بلدي، عندما خرجت من السجن، رأيت المدينة تمتدّ أمامي رحبةً، واسعةً، أوسع بكثير من الزنزانة التي كانت لا تزال عالقة في ذهني وفي جسدي. رأيت الشمس، والضوء، والناس، وسيارات… رأيت الأفق الواسع يمتدّ خلف البحر.. يشبه الحرية. في تلك اللحظة، التفتّ الى الوراء نحو الزنزانة، ثم التفتّ الى الأمام صوب الأفق، فلم أستطع أن أحدّد بيقين في أيّ من الاتجاهين كانت توجد الحرية.

هذه الفكرة دفشت بي الى التفكير بشركائي في الوطن، بالمختلفين منهم مع رأيي السياسي، بمعزل عن الدين، والمذهب، والجنس، وسائر الاختلافات الطبيعية والثقافية الأخرى:

كلما كانت تشتدّ عليّ المظالم، وانا في السجن، كنت افكّر فيهم: بعضهم أصدقائي، وبيننا خبز وملح؛ وبعضهم أعرفهم ويعرفونني، وبيننا احترام ومودّة؛ وآخرون منتشرون على ارض الوطن، لا أعرف لهم وجها، ولكنهم موجودون في كياني وضميري…

كلما فكّرت فيهم، كان يحتلّني الخوف من أن يمنع الظلمُ الاختلافَ في وطني..

فلكي أشهدَ ان اختلافنا تنافسٌ على حسن تحديد الخير العام، وشرطه الحرية،

وأن الحرية مِلكٌ عمومي، كسبناه معا في نضال طويل، وتعاقدنا على حمايته معا،

ولكي أشهدَ أن ظلمَ الحاكم عليّ هزيمةٌ للمختلفين مع رأيي السياسي وليس انتصارا لهم،

وأن ظلمَه عليهم يوما هزيمةٌ لي وليس انتصارا…

ولكي أشهدَ اننا معا مصدر السيادة والسلطة العادلة، وأن اختلافنا في الرأي يوحّدنا بالمواطنة في الانتماء اليها،

ولكي أشهد للحق بالاختلاف، عبّرت عن رأيي، فدخلت السجن: دخلت السجن عن كلّ المواطنين المختلفين عني في الرأي.

يا سيدي عبدالله، كلّفتني بتكريم مصطفى فشرّفتني… وتكريم مصطفى واجب.

 

***

(*) ألقيت في حفل تكريم منتدى شاعر الكورة الخضراء الباحث الدكتور مصطفى الحلوة احتفاء بإطلاق كتابه “مطارحات في أروقة المعرفة مراجعات نقدية وبحوث في الفكر العربي المعاصر” في “أوديتوريوم الزاخم” حرم جامعة البلمند- الكورة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *