نقولا دانيال… إرتباطٌ بالإبداع

Views: 876

الدكتور جورج شبلي

 

بالرَّغمِ من توافرِ الشّخوصِ في الأداءِ التّمثيليّ، ما ساهمَ في ازدهارِ البرامجِ والمسلسلاتِ والمسرحيّاتِ على أنواعِها، غيرَ أنّ مَنْ يُحكَمُ لهم بالبراعةِ، لأنهم أَعرَفُ الواقفينَ أمامَ كاميرا، أو فوقَ خشبة، لا يتجاوزُ عددُهم الآحاد، في حين يعجزُ الأكثرون عن أن يتكرَّموا بالإرتقاءِ الى هذا المَصاف.

في المُضيءِ من لحظاتِ التّمثيل، لا يستحيلُ أمرٌ على ربيبِ الموهبة، فالعبقريّةُ، إذ تتجلّى، تَلِدُ المُدهِشات. من هنا، نقفُ مع نقولا دانيال، المُتعالي بالتّواضُع، أمامَ العلاقةِ الكيانيّةِ بين الشّخصِ وأدائِه، حيثُ الملعبُ الإبداعيُّ أَرحَبُ لِمَنْ نَبضُهُ من نار، وأحاسيسُهُ من أَشعّة، وحيثُ تَمَلْمُلُ الحياةِ مُشَوِّقٌ للإنفعالِ ونتائجِه. 

إنّ وَقفةَ نقولا دانيال دخلَت وَعيَ التّمثيلِ، وجعلَتِ المستحيلَ يتلاشى في رِحابِه، فهي عَصفُ ولادةِ المشهديّةِ على غيرِ أنين، لتتجلّى عظمةُ الفنِّ، وأَطيَبُهُ. فدانيال يخلعُ على ظهورِهِ متعةً تزيدُ من قيمةِ المشهد، ويتركُ للمُشاهِدِ أن يتلذَّذَ بالصّورةِ، ولَو نَسَجَها نقولا بخيوطٍ من صَمت، على غيرِ ما هو مألوف، ولا عَجَب، فهلِ الفنُّ إلّا تَطوافٌ في أبعادٍ تنحتُ جَمالاً، ونقولا لم يبخَلْ في كميّتِهِ، أو هو صرخةٌ قريبةٌ من الدّمعة، تُوَثِّقُ بين الإنسانِ ونوازِعِه ؟ لذلك، جاءَت أعمالُ دانيال رقعةً خارجةً عن ظلِّ نفسِه، وريشةً لم تُغَمَّسْ بالحِبرِ الأحمر. 

 

        نقولا دانيال متمرِّدٌ على العاديّ، وكارِهٌ للسّائدِ المُتَداوَل، لكنّهُ لم يكنْ في غربةٍ عن الواقعِ حتى لا يراهُ بشكلٍ صحيح، لذلك، هو لم يُقِمْ في مكانٍ معزولٍ عن الزمانِ والمكان، لكنّه لم يتلبَّسْهما حتى لا يكونَ أداؤُهُ مجرَّدَ تقطيعِ وقت، فهو رفضَ أن تتحوَّلَ حواسُهُ جَماداً، وذِهنُهُ صفحةً سوداء، لأنه أرادَ أن ينقشَ التحَدّي في أدائِه الذي نقلَه من الميكانيكيّةِ الى الوقوف، وصعَّدَ، فيه، درجاتِ حرارةِ الإبتكارِ، حتى الرّيادة. إنّ الموهبةَ، مع نقولا دانيال، ليسَت تزييناً مستعاراً كهيكلٍ من خشب، لكنّها جوهرٌ منسولٌ من خلجاتِه، أو هي ترصيعٌ لا يتقنُهُ سوى الأقَلّين، ما يُميطُ اللِّثامَ عن الفَرقِ بين العاجِ والتّراب، من هنا، لا يزالُ نقولا دانيال يجمعُ، حتى السّاعة، الخواتمَ المرَصَّعة.  

لقد أرانا نقولا أَحسنَ ما صُنِعَ في بابِ التّمثيل، وأَدهَشَنا، بذكاءٍ ساحر، وظَرفٍ محَبَّب، وفطنةٍ ليس فيها تَكَلُّف، فغرفَ التّمثيلُ من مواهبِهِ كثيرَ النّجاح، وهو الذي رفضَ أن يكونَ صعودُ أيِّ عملٍ مُتَعَسِّراً، لِما عندَه من طبيعةٍ صافيةِ التألّق، وابتكارٍ جعلَه يُحلِّقُ، وبطلاقةٍ، في جميعِ الأجواء، فنقولا عارَكَ المزيجَ من الأَدوارِ، فطَوَّعَه، وأَغارَ على المستحيلِ من الوَقفاتِ، فتَحَكَّمَ به، فكانَ رَجُلَ كلِّ الأَدوارِ التي أَمَدَّ نارَها بروحِهِ، فوَلَّتهُ عرشَها.

فيما تَنضُبُ منابعُ الإبداعِ في التَّركةِ الفنيّة، ولا يَهدِرُ جَريُها إلّا بِخَفَر، لا سيّما في مجالِ التّمثيل، فتحَ نقولا دانيال لوازمَ الأداءِ بحماسة، وللحماسةِ سلطانٌ أَفعَلُ من السّحر، وكأنّه يقصدُ الى وَقْعٍ يُرصِّعُ به يواقيتَ التّمثيلِ، وهذا ما لا يدَّخرُهُ إلّا المُتَرفون بالموهبة، أولئكَ الذين سهروا على نقاءِ هذا الفنِّ ليبقى حاملاً حقائقَ جماليّةً مطبوعةً بالذَّوق، ومنتميةً الى رقعةِ الحضارة.

 

نقولا دانيال الخَصبُ الإنتاج، عاشَ للتّمثيلِ ولم يَعِشْ منه. إنّه محاولةٌ بارعةٌ في عِلمِ احترافِ التّمثيل، لِما هو عليه من انفرادٍ بجرأةِ الموهبة، وإقدامِها على مواجهةِ صعوباتٍ وعقبات، كان من نتيجتِها أنّ نقولا أصبحَ متمكِّناً من أن يسبحَ في جميعِ المسارب، مُتَلَمِّساً الإتّجاهَ الذي يقودُهُ الى المياهِ العذبة. أمّا ما عزَّزَ نشاطَ التميّزِ معه، فهو تَمتُّعُهُ بقدرةٍ على اتّخاذِ مبادراتٍ توجِدُ حلولاً فوريّةً يُطَبّقُها في النُّطقِ وفي الحركات، وهذا التّركيزُ النّوعيُّ عندَه، كان الفاصلَ بين الفنّانِ الإصطناعيّ والفنّانِ الأصيلِ الذي ينبغي أن يكونَ نموذجاً قابِلاً للإقتداءِ به، من هنا، فشهرتُهُ ليسَت صُدفة.    

 إنّ صورةَ نقولا دانيال، أمامَ المُتَلَقّين، ليسَت مُسَطَّحة، بحيثُ يحتاجُ هؤلاءِ الى ما يُسعِفُهم لملاقاةِ المُمَثِّلِ، وتَقَبُّلِهِ، فهذا الإحترافيُّ الماهرُ يُفتَحُ له ما أُغلِقَ على سواه، إذ يُنشِئُ وَشائجَ نوعيّةً مع المُرسَلِ إليهم، فالعلاقةُ بينهم وبينه، قائمةٌ عن طريقِ تَجاوُبِ إحساساتِهم بالإنفعالِ الذي يصِفُهُ عِلمُ النّفسِ بالصّدمة، أي المفاجأةِ النّاتجةِ عن تأثّرٍ أمامَ مُدهِشٍ، يُتقِنُ نقولا، ببراعتِهِ ، تشكيلَه، ليحُقَّ له، بالتالي، أن يقول: ” إنّ الإبداعَ يتبعُني”. 

 لقد تحوَّلَ التّمثيلُ، مع نقولا دانيال الذي وصلَ نادي الكِبارِ من دونِ كتابِ توصية، نَهجَ حياة، فذابَتِ الإزدواجيّةُ، معه، بين الواقعِ وظلِّه، وتماهى نقولا الممثِّلُ بنقولا الإنسان، وإنّنا، بذلك، لا نبالغُ إذا قُلنا إنّه، في بابِ التّمثيل، يجري في عُروقِ نقولا دانيال دَمُ الأَسياد.

 

     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *