” قراءة في رواية “عداء الطائرة الورقية”

Views: 985

 لطيفة الحاج قديح

 

ما أروعها من رواية، أشبه ما تكون بدورة الأرض حول نفسها، فاذا البداية هي النهاية، واذا النهاية رجع صدى..!

 نقرأ سطورها من بين أنامل مبدعة وفكر ثاقب، صاغها بعناية  فائقة  فاذا بها عجينة لينة مدعوكة  بماء العيون وحشائش القلب، مجبولة بعلاقة حميمية تأملية  نادرة قل نظيرها، لتخْرُج سيمفونية أدبية خالدة..

ومع ذلك، فقد أنهيتها ومشاعر شتى تنتابني، منها شعور بالخجل، نعم، الخجل من نفسي، حيث لم أتعرف على تلك البلاد الشاسعة إلا من خلالها. وكذلك تأكدت كم أن الدين الإسلامي مخطوف كي تلصق به عقائد ومفاهيم طالبانية ما أنزل الله بها من سلطان…

ولا أنسى مشاعر الحزن والغضب التي انتابتني في آن معاً، فالحقائق التي جاءت في الرواية صادمة، ولكن ذلك لا يعني الانتقاص من قيمتها الأدبية والفنية، واعتبارها من روائع الأدب..

إنها رواية الطبيب الأميركي من أصل أفغاني خالد الحسيني، الذي ولد في الرابع من مارس في العام 1965، في العاصمة كابل.

وقد صدرت باللغة الانكليزية في العام 2003 عن دار “ريفرهيد” للنشر، وترجمت إلى لغات عديدة، وتصدّرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وحوّلت إلى فيلم..

 واسمحوا لي بمصارحتكم بأن عنوانها لم يعجبني للوهلة الأولى، “عداء الطائرة الورقية”، ولكن بعد ان أقلعت سفينتي وأبحرت في متنها ثم رست على ناصية خاتمتها، أيقّنت كم يليق بها ذلك العنوان..

 

وهي قصة من أحد أكثر الأحياء ثراء في مدينة كابل، حي ” وزير أكبر خان” يحكيها على خلفية الأحداث المضطربة التي سادت بلاد الأفغان من زمن سقوط “محمد ظاهر شاه”، آخر ملوك النظام الملكي، في العام 1973، مروراً بالتدخل  العسكري السوفياتي الذي استمر حتى  العام 1989، ومن ثم نشوء حركة طالبان وصعودها وفرض سيطرتها بالقوة على البلاد، ما دفع الأفغانيين للنزوح إلى البلاد المجاورة، أي إن زمن الرواية يمتد من زمن طفولة ويفاع  الكاتب إلى ما بعد الشباب  ..

وتتناول الرواية قصة صداقة جمعت بين صبيين “أمير” و”حسان”، ضمهما منزل واحد، الأول ابن صاحب البيت رجل الأعمال الباشتوني الثري والثاني ابن الخادم الذي ينتمي الى فئة “الهازار” (الشيعة) المضطهدة، وقد تشارك الصبيان: الرضاعة من ثدي واحد، وأمومة مفقودة لكليهما..

أما “بابا” والد أمير فيتمتع بشخصية قيادية تتصف بالقوة والشجاعة، ويريد لابنه مستقبلاً باهراً كما يتمناه هو، بأن يكون الولد صورة عن أبيه، ولكن الصبي كان على عكس ذلك، فهو يميل إلى الأدب والكتابة وحبّ المطالعة  حتى العشق، وكان مغرماً بقراءة الملحمة الفارسية ،”الشاهناماه”، ويكتب القصص القصيرة ويتمنى لو أن والده يطلّع عليها، ولكن بابا لم يكن يفعل، فكان أمير يقرأها مع  قصصه على صديقه الأمي “حسان” الذي يصغي إليه بانتباه كلي….

والعلاقة بين الأب وابنه علاقة مركبّة، فالصبي يحترم من كان سبباً لوجوده في الحياة، ويجلّه ويخافه ويحسب له ألف حساب، ويسعى إلى نيل إعجابه ورضاه، ومن ناحية أخرى يكن له علاقة محبّة، ويتمنى لو يوليه والده المزيد من الاهتمام ويقرأ قصصه..

وحسان ابن الخادم المكلف بحراسة الدار وخدمة أهلها، يعيش مع أبيه في بيت متواضع مجاور لمنزل العائلة الكبير. ونتيجة ملازمتة لصديقه، سرى حبّه في قلبه، كما يسري حبّ المطر في قلب الأرض العطشى. وهو يتفانى في خدمة صديقه، ومستعد أن يفديه بروحه، والأخير يعرف ذلك، ويستغله، سأله مرّة: “ماذا لو طلبت منك سفّ التراب؟” أجاب حسان” لأجلك أفعل”. ثم أضاف: “ولكن هل يمكن أن تطلب ذلك مني أمير أغا؟” ص54

وكانت علاقة بابا بابن الخادم، علاقة غامضة  وملتبسة لم يفهم أمير سرّها، ولم يستطع اكتشاف فحواها، فوالده يحبّ حساناً كمحبّة ولده، ويعطف عليه، ويغدق عليه الهدايا والعطايا، ما جعل الغيرة تنهش نفس الصبي، والحسد يشتعل في قلبه، فشكّل ذلك عنده حاجزاُ نفسياً سميكاً جعله مستعداً  للتضحية بعلاقته بصديق عمره مقابل الاستئثار بحبّ أبيه واحترامه…

وكان كلا من الصبيين مولعين بلعبة الطائرات الورقية التي تقوم على مبدأ تحليق الطائرة إلى علو كبير، وقطع الطريق على غيرها من الطائرات التي تحلّق، في الوقت عينه في السماء، على قاعدة “البقاء للأقوى”، ثم يقوم العدّاء (وهو حسان الذي يعتبر أفضل عداء في كابول) بتقدير مكان وزمان تحليق الطائرة المنافسة، فيصطادها قبل أن تلامس الأرض، فتقع مهزومة..

وقد استطاع حسان بمهارته وإخلاصه لصديقه، أن يوفّر للأخير فرصة الفوز بأكبر مهرجان للطائرات الورقية في كابول في شتاء العام 1975، ما جعله من المشاهير..

وفي الوقت الذي كان حسان يعمل على توفير تلك الفرصة، كان صاحب الطائرة الخاسرة (آصف) وهو فتى أرستقراطي شاذ، من أب باشتوني وأم إلمانية، يترصّد حسان هو وعصبة من الأشقياء أمثاله، مضمراً له الشر، فيقوم باغتصابه جنسياً على مرأى ومسمع من أمير الذي كان يراقب المشهد عن بعد من دون أن يتقدم للدفاع عن صديق عمره، بل آثر الصمت والانسحاب والاكتفاء بنجاحه، الذي لولا حسان لما حظي به، ذلك النجاح الذي سوف  يجلب له ثقة أبيه وفخره، تاركاً صديقه مسربلاً بلباس العار..

ولم يكتف أمير بذلك، بل دبّر لصديقه مكيدة اتهمه فيها بالسرقة كي يدفعه للرحيل، فيستأثر بحبً أبيه وعطفه..

وفي نفس الوقت كان أمير يتمنى لو يقدم صديقه على مواجهته آملاً بحلّ عقدة الذنب التي تشكّلت لديه جراء تلك الخيانة، ولكن حسان لم يفعل بل آثر الرحيل بصمت وهدوء…وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارىء سؤال: هل كان غياب الضحية كافياً كي ينسى الخائن عذاب الضمير ..؟

تقول الرواية أن أمير قد ظنّ في البداية أنه سوف يرتاح عندما يتخلّص ممن ينافسه على حبّ أبيه، ولكن الحقيقة، كانت على عكس ذلك، حيث أن أثر تلك الخيانة ظل قابعاً في نفس صاحبها، يؤرق مضجعه..

وهنا لا بد من تسجيل النجاح الباهر للكاتب الفذ الذي عمد إلى تعرية النفس البشرية فأمسك بالمبضع وراح يشرّح الدواخل الانسانية ويسلط الضوء عليها، فنراه يتفنّن في وصف التفاصيل الصغيرة، فيبدو وكأنه هو شخصّياً قد مرّ بالتجربة، حيث يتحفنا بتصوير مشاعر البطل الحيّة العميقة، بكل ما تحمله من تناقضات وتباين: حبّ وكراهية، حقد وانتقام، خيانة ووفاء.. يقوم بذلك بكل دقة ومهارة وإتقان، فيهزّ احاسيسنا لدرجة البكاء، بتصويره المبهر..

ولكن هل إن رحيل أمير وانغماسه في العمل والكتابة ينسية عقدة الذنب التي تشكلت في يفاعه؟

يقول الكاتب (في الصفحتين 92 و93) على لسان أمير، بعد أن فاز فوزه الساحق بمهرجان الطائرات الورقية: “ثم بدأ الجميع بالتصفيق، يطلقون الصيحات، يخبرونني كم جعلتهم فخورين،…..أنا وبابا أخيراً أصبحنا أصدقاء، ذهبنا إلى حديقة الحيوان، وشاهدنا الأسد مرجان، ورميت حجراً على الدب عندما لم يكن أحد يشاهد، وذهبنا إلى مطعم بيت الكباب بعدها،…يوم كامل مع بابا، وأنا أستمع إلى قصصه، أخيراً حصلت على ما كنت قد تمنيته طوال تلك السنين التي مضت… لكني الآن بعد أن حصلت عليها شعرت بفراغ، كهذا الحوض الذي كنت أمد رجلي فيه. وبعدها شاهدت حسان في الحلم، ففهمت طبيعة لعنتي الجديدة ، أنني سأنجو بما فعلت “.

فهل فعلاً ينجو أمير بما فعل، ويتخلص من عقدة الذنب تجاه صديقه؟ إن الجواب عن هذا السؤال يأتي لاحقاً في سياق الأحداث، حيث لا يلبث الكاتب أن ينقلنا إلى أجواء أخرى مختلفة، عندما تقع أفغانستان فريسة في فم التنين الروسي، الذي يجتاحها من دون هوادة، فيلجأ والد أمير ومعه ولده، للهرب ثم يهاجرا إلى أميركا ( سان فرنسيسكو) حيث تنعم جالية أفغانية كبيرة هناك بالاستقرار وطيب العيش..

 وتتطوّر العلاقة بين الأب وابنه في أميركا، حيث يعملان معاً، وفي نفس الوقت يقوم أمير بكتابة القصص، وتسير بهما الحياة في حضن الجالية، فيقوم الكاتب بالإضاءة على حياة الأفغان في أميركا ويتحدث عن طريقة عيشهم وتعايشهم سويا في الغربة، ومحاولة الحفاظ على تقاليدهم، وعن مكانة المرأة عندهم، ويتعرف على ثريا ( شمس يلدا) التي تصبح في ما بعد حبيبته ثم زوجته ومن دون أن ينجبا أولاداً..

 

وتتطوّر الأحداث وتتسارع في خط مستقيم شبيه بخط سير ترام كهربائي صمّم ليسير في خط مستقيم ، ولا ينحرف عن مساره لا يميناً ولا يساراً، فالكاتب لا يلجأ إلى لعبة خلط الأزمنة أو تداخلها، أو استرجاع الماضي ( الفيد باك) إلا لماماً…بل تسير الأحداث في رواية “عداء الطائرة الورقية” من بدايتها إلى نهايتها في خط تصاعدي..

ويشاء الكاتب التصريح عن حقيقة العلاقة بين الصبيين الصديقين، وكشف اللثام عن علاقة القربى التي تربطهما. وقد جاء ذلك على لسان “رحيم خان” صديق بابا  الذي تربطه بالصبي علاقة محبّة، وود، تشكلت في زمن طفولته، فيُعلِم أمير أن حسان هو أخيه غير الشقيق، وإنه توفي تاركاً خلفه طفله “صرهاب” الذي يعيش في ميتم..

يسارع أمير بالسفر عائداً إلى وطنه الأم بناء على دعوة رحيم خان، الذي يصارع الموت، وذلك للبحث عن طفل حسان، وفي نيته تبنيه واصطحابه معه إلى أميركا، تكفيرا عن خيانته لصديق عمره  ..

وهنا يأخذنا خالد الحسيني في رحلة شاقة ومتعبة في مدن أفغانستان، التي تعاني ما تعانيه من حكم طالبان الاستبدادي، ويصدم أمير بتحوّل وطنه الأم إلى هيلوكوست ديني تتحقق من خلاله أبشع الممارسات باسم الدين، حيث يفاجأ القارىء بآصف ابن الألمانية، وقد تحوّل إلى قائد نازي هتلري طالباني، يقتص بأبشع صورة من امرأة اتهمت بشرفها، بينما هو نفسه يمارس الشذوذ الجنسي مع الأطفال. وتشاء الصدف أن يكون صرهاب أحد ضحاياه…

أما الخاتمة، فهي قمة الإبداع الذي تتمتع به رواية الحسيني، والتي تسبغ على العنوان الشرعية المطلقة. فبعد أن نجح أمير بتبني ابن أخيه، واصطحابه إلى سان فرنسيسكو ليعيش معه ومع زوجته، يعود إلى ممارسة هواية طفولتة، ليدخل السرور على نفس ابن اخيه، فيطيّر طائرة ورقية، ويحاول اسقاط آخر طائرة منافسة، تماماً كما كان يفعل في الماضي هو وصديقه. ينظر أمير الى صرهاب ويكرّر ما كان حسان يقوله له: هل تريدني أن أعدو خلف الطائرة؟ ويردد نفس الكلمات التي كان يردّدها حسان “لأجلك أفعلها ألف مرة”.

تنتهي الحكاية، حيث يبدأ أمير الثلاثيني بالركض خلف الطائرة مزاحماً الأطفال…!

ما أروعها من رواية، تدور حول نفسها، كعقارب الساعة، لتلتقي النهاية بالبداية….

باختصار إنها رواية تستحق القراءة وتعيش في الذهن أمداً غير محدود ..

سلمت أناملك د. خالد الحسيني وإلى رواية أخرى ..

بير حسن 23/ 11/ 21 

*** 

 

*لطيفة الحاج قديح (كاتبة، باحثة وناقدة أدبية)

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *