شلّال الحنين المتدفّق في كتاب “نجمة الصّبح” للأديبة والشاعرة لودي حداد

Views: 421

 أحمد الغمّاز

(ناقد أدبي وروائي أردني)

ربما لن يستطيع القارئ أن يخرج من تلك الورطة العاطفية، التي علقته بها لودي حداد وهي تتماهى مع اللون والصورة المخبأة في الذاكرة والتي أخرجتها تباعا، بدءا من بلدتها الجبلية الصغيرة الهادئة، المحيرمة أو نجمة الصبح، كما سماها المسنون، وأرى بأن التسمية جاءت منسجمة تماما مع رقة تلك القرية والتصاقها العضوي والروحي مع النجمات في ليلة صيفية صافية.

من هنا تبدأ لودي باجترار تلك المشاهد المخبأة في الذاكرة، ومن هنا يبدأ التعاطي مع الصور التي ذهب أصحابها لكنها بقيت ملتصقة على جدار القلب.

بأسلوب يقترب من الرواية التسجيلية أو السيرية، ترسم لودي بالألوان ذلك الأب الذي ظل شامخا متحديا الصعاب وهو يتحمل مسؤولية عائلة على صغره، هل كانت لودي وهي تكتب أبيها، كانت تضع يدها على وجعنا وهي تدخلنا رغما عنا إلى شِباك الذكريات الشرس؟ 

يقال بأن كل ما يكتب يبقى وكل ما يقال يذهب أدراج الرياح، وهي بذلك تريد أن لا تظل تلك الشخصيات حبيسة الذاكرة بل أرادت أن تعيد شخصياتها بلحمهم ودمهم إلى الورق، لتبقى كلماتها المرجع العاطفي لمن يبحث عمن رحلوا.

في نجمة الصبح ثمة توهج ما، ثمة بيوت ما زالت في الذاكرة، بأدراجها ونوافذها وأسوارها، ثمة حديقة خلفية زرعتها تلك الأم بالنباتات والزهور والنعناع، وهناك يدان معروقتان كانت تعجن وتخبر في الصباحات الباكرة قبل أن تصحو الحمائم والعصافير.

ترسم لودي حداد الفصول المتلاحقة بأسلوب روائي باذخ، وكما قلت سابقا بحنين جارف، وهي بذلك تقدم لوحة كاملة للقارئ، ففي الشتاء تندلق المزاريب طيلة الليل الماطر وتوقد مواقد الحطب، لتجعل من القارئ يتلمس الدفء من خلال العبارة الفاتنة.

تذهب لودي إلى تلك الشاعرية التي تطلبها السياق، فتبدو اللغة متوافقة مع كل تلك المشاهد، وهي بذلك تؤثث لأسلوب سردي يجمع بين الحكاية والشعر معا، وهذه التوليفة لم تأتِ استعراضا وإنما جاءت بعفوية إبداعية تسكن هاجس الكاتبة وهي تتنقل بخفة فراشة في كل فصل يحمل عنوانا له دلالته العاطفية.

شخصيات لودي في نجمة صبح هي شخصيات حقيقية، لكنها أعادت صياغتها من خلال الخيال وليس من خلال التصوير الفوتوغرافي، فالأب والأم والأشقاء والرفيقات، والسكير والكاهن، كل تلك الشخصيات أدخلت لودي شيئا من الخيال الذي لا يخرج عن الواقع وإنما يتداخل معه، فهي تكتب شخصياتها بمشاعر خاصة، قد تكون غير مرئية وفي الوقت ذاته تضعهم أمام القارئ بكامل تفاصيلهم.

المكان

اختارت لودي أن تستخدم شكلين من أشكال المكان، المكان الهندسي، والمكان الحميمي، فهي رسمت القرية بكل أبعادها الجغرافية، بأشجارها وجبالها وسمائها وأزهارها، بطرقاتها، رسمت البيوت والكنيسة بكل تلك الأبعاد التي قدمتها للقارئ لبرسم للمحيرمة شكلا ما في خياله، وهذه تقنية مهمة أجادتها لودي باحتراف، لتؤثث للمكان الحميمي الذي سيأتي لاحقا.

عبرت الكاتبة من خلال السرد والشعر والشاعرية عن مدى تعلقها العاطفي بذلك المكان الواضح في العبارة الأخآذة وهي تصف بلدتها بذلك الكم الهائل من الحنين.

في نجمة الصبح ثمة موسيقى كمان حزين، ثمة رؤيا سردية حقيقية تضع القارئ بحواسه وفكره أمام ذلك المكان الآسر وتلك الشخصيات الغائبة بأسلوب شفاف وبلغة تشبه تماما قطعة بيانو ناعمة.

“نجمة الصبح” كتاب مهم لكل من تطارده الذاكرة وتسكنه، لعل القارئ ينسحب رويدا رويدا من الواقع المر إلى الذاكرة التي تصبح مثل السير داخل حقول الكرز.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *