الحداثة الشعرية بين مجلة “شعر” وندوة “خميسها” *

Views: 665

 سلمان زين الدين

   على الرغم من مرور خمسة وستين عاماً على انطلاقة حركة الحداثة الشعرية، بنسختها الأخيرة، مع صدور العدد الأول من مجلة “شعر” في كانون الثاني 1957، وعلى الرغم من الحبر الذي أريق فيها على مرّ السنين، فإن هذه الحركة بتمثّلاتها المختلفة لا تزال موضع اهتمام الدارسين ومؤرّخي الأدب، ولا يزال يُراق فيها المزيد من الحبر، ولعل كتاب “خميس مجلة شعر من الشفاهية إلى التوثيق والتدوين” للأب جاك أماتاييس السالسي، الصادر مؤخّراً عن “مؤسسة أنور سلمان الثقافية” و”دار نلسن”، في بيروت، هو آخر تمظهرات هذا الاهتمام وتمثّلات ذلك الحبر.

  اهتمام قديم جديد

  على أن اهتمام الأب السالسي بحركة الحداثة الشعرية ومحرّكها يوسف الخال ليس جديداً بل هو اهتمام قديم وإن كانت تعبيراته المنشورة لا تعود إلى أكثر من عقدين اثنين؛  ففي العام 2004، أصدر كتابه الأول “يوسف الخال ومجلّته شعر” الذي يدرس فيه سيرة الخال الثقافية وهوية المجلة ومنطلقاتها ومبادئها. وفي العام 2019، أصدر كتابه الثاني “صدى الكلمة / مقابلات مع يوسف عبد الله الخال”، ويشتمل على أكثر من سبعين مقابلة بين العامين 1955 و 1987، ويضيء فيه سيرة الخال الذاتية والثقافية ودوره المحوري في حركة الحداثة الشعرية. وفي العام 2022، يصدر كتابه “خميس مجلة شعر من الشفاهية إلى التوثيق والتدوين”، فَيكون ثالثة الأثافي، ويلقي المزيد من الضوء على تلك الحركة، من خلال دراسته محاضر ندوات الخميس التي كانت تُعقد على هامش المجلة، وبذلك، يدخل الأب السالسي في تأريخ حركة الحداثة الشعرية العربية بنسختها الأخيرة من الباب العريض، ويقدّم جهداً معرفياًّ تاريخياًّ يستند فيه إلى محاضر “الخميس” التي تشغل ثلثي الكتاب، ويشرب من رأس النبع مباشرة، ويشكّل جهده قيمة مضافة إلى الجهود الأخرى التي سبقته في هذا المجال.

 

  عوامل ذاتية وموضوعية

  في دراسته التي تمتد على خمسة فصول متفاوتة المساحة تشغل الثلث الأول من الكتاب، وتستند إلى الثلثين الآخرين وتنطلق منهما، يتناول السالسي في الفصل الأول  مشروع يوسف الخال الثقافي، بأضلاعه الثلاثة: الحركة والمجلة والندوة، والعوامل الذاتية والموضوعية الكامنة وراء تأسيسه في الخمسينيات من القرن الماضي؛ فنقرأ في الأولى إقامته في أميركا ما بين العامين 1848 و1955، واتصاله بالحركة الأدبية فيها، ولقاءه بالشاعر الأميركي عزرا باوند، واطلاعه على مجلة Poetry الأميركية، وتأثره بشارل مالك وأنطون سعادة، وإدراكه انسداد الأفق الثقافي العربي، ورغبته في التفاعل مع العصر. ونقرأ في الثانية السياق التاريخي الذي تشكّل حركة مجلة “شعر” إحدى تجلّياته الأخيرة، المسبوقة بتجلّيات أخرى تتمثّل في تأسيس: الرابطة القلمية في أميركا الشمالية 1920، العصبة الأدلسية في أميركا الجنوبية 1932، جماعة الديوان في مصر 1921، جماعة أبوللو في مصر 1932، الندوة اللبنانية في لبنان 1946، حلقة الثريا 1956، وصولاً إلى حركة مجلة “شعر” 1957 التي تبصر النور بنتيجة الزواج الشرعي بين العوامل الذاتية والموضوعية. 

  خميس المجلة

   يتناول في الفصل الثاني “خميس مجلة شعر”، الظهير العملي للمجلة، الذي أراده مؤسّسه “وسيلة أخرى تساعد على إنماء “حركة مجلة شعر” وإيصالها إلى الآخرين عن طريق البحث والنقاش وإيجاد شراكة حية بين العاملين في حقل الشعر العربي أينما كانوا” ( ص 25). ووازى بين “ندوة الخميس” وبين المجلة في الأهمية “لكونها المحترف، والمرصد، والمختبر لعرض المفاهيم الشعرية الحديثة ومناقشتها، وإذاعتها ووضعا موضع التطبيق” (ص 48). وبذلك، قامت بين الندوة والمجلة علاقة جدلية؛ الأولى تناقش محتويات الثانية وتشكّل بعض مناقشاتها مادة أولية يجري تصنيعها وإعدادها للنشر في الثانية، والثانية تنشر وقائع الأولى وما يتمخّض عن مناقشاتها من بحوث وتزوّدها بمواد جديدة للنقاش. على أن السالسي في تأريخه “خميس مجلة شعر”، الذي امتد عمله ثماني سنوات، تتموضع بين شتاء 1957 وخريف 1964، يميّز بين مرحلتين اثنتين؛ تستمر الأولى من كانون الثاني 1957 حتى آذار 1958، وهي مرحلة تمهيدية نظرية تعنى بوضع الأسس النظرية للشعر الحديث ومتعلّقاته، ويرتادها هيئة تحرير المجلة ومحبّو الشعر وزوار وضيوف وجامعيون، وتعقد جلساتها في منتدى أوتيل بلازا ونادي متخرجي الجامعة الأميركية. وتستمر الثانية من نيسان 1958 حتى خريف 1964، وهي مرحلة غنية بالتطبيق ومنفتحة على قضايا الفلسفة والفكر، ويقتصر روادها على أسرة المجلة والمعنيين فعلاً بالشعر، وتعقد جلساتها في منزل يوسف الخال. 

  مواجهة التراث 

  في الفصل الثالث، يتناول السالسي محورية التراث في اهتمامات المجلة والندوة، من منظور سلبي يتمثل في مواجهته وتجاوزه، ويتوقف عند موقف يوسف الخال وأدونيس منه، وهو موقف منحاز إلى التراث الغربي على حساب التراث العربي؛ ففي محاضرته التي ألقاها يوسف الخال في “الندوة اللبنانية” في 31 كانون الثاني 1957 بعنوان “مستقبل الشعر في لبنان”، نقع على مفارقة بين دعوته إلى “وعي التراث الروحي – العقلي العربي، وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة كما هي دون ما خوف أو مسايرة أو تردّد”، منجهة، ودعوته إلى “الغوص إلى أعماق التراث الروحي – العقلي الأوروبي، وفهمه، والإبداع فيه”، من جهة ثانية. وهي مفارقة تنطوي على نقد مضمر للأول واحياز معلن للثاني (ص 26). أمّا أدونيس فيدعو إلى النظر في التراث بروح حديثة في تعالقه مع الحضارات القديمة، من جهة، والتراث العالمي، من جهة ثانية. وإذا كان الخال يتخذ موقفاً جذرياًّ من التراث فيميز فيه بين ميت ينبغي إهماله وحي ينبغي تجاوزه، أي أنّه يدعو إلى التخلّي عنه في الحالتين، فإن موقف أدونيس من التراث أقلّ جذرية حين يدعو إلى رفض أشكال معيّنة وقيم معيّنة شرطاً للتقدم. ويمكن الاستنتاج، بالاستناد إلى هذين الموقفين ومجمل تصريحات شعراء المجلة والندوة، أنّنا إزاء رفض مزدوج للتراث؛ حضاري يشمل مظاهر الحياة العامة (ص 75)، وثقافي يشمل النظرة التقليدية إلى الأدب” (ص 76). ولا يقتصر توقف الأب السالسي عند يوسف الخال وأدونيس على هذا الفصل وحسب، بل يتعدّاه إلى الفصل الرابع، فيتناول دور يوسف الخال القيادي والتنظيمي في حركة الحداثة، وينوّه بدور أدونيس شاعراً ومنظّراً. ويدرج في الفصل الخامس والأخير بعض الوقائع الثقافية التي غابت عن محاضر “الخميس” واهتماماته.

  محاضر الخميس

  بالانتقال من الدراسة إلتي شغلت الثلث الأول من الكتاب إلى المحاضر التي تشغل الثلثين الآخرين، نلاحظ، في الشكل، أن جميع المحاضر نُشرت في حينه في جريدتي “النهار” و”الجريدة” ومجلة “شعر”، وأن المحضر الواحد يتعدّد نشره في الكتاب بتعدّد المطبوعات التي نشرته بتصرّف، وأن محاضر المرحلة الأولى تميل إلى الإيجاز فيما تجنح محاضر الثانية إلى الإطناب فتنسب الكلام إلى صاحبه، وأن الكلمة الفصل في النقاش كانت ليوسف الخال ومن بعده لأدونيس، وأن أنشطة “الخميس” تراوحت بين الأمسيات الشعرية ومناقشة الكتب وطرح القضايا والمحاضرات والدراسات وتكريم الراحلين والنقد الشفهي والكتابي وغيرها.

  ونلاحظ، في المضمون، أن محاور النقاش تتوزّع على مروحة واسعة من الموضوعات المتصلة بالتراث والحداثة والشعر الحديث و القصيدة الحديثة وموسيقى الشعر وغيرها، وتتعالق مع الإنسان وحريته في الاختيار والفعل. على أنّ رصانة هذه المحاور لم تحل دون الانزلاق إلى درك السخافة والحديث المجاني أو الجنوح نحو المشادة بين المتحاورين، في بعض الأحيان، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة الجلسات المرتجلة والعفوية، الأمر الذي يشير إليه شوقي أبي شقرا في رسالة شخصية إلى المؤلّف، بتاريخ 14 آب 2020، ” بذكره “أن “الخميس” كان يدور من خاطرة ومن عبارة صغيرة إلى حيث المادة الثقافية والشأن الجلل. وما كان يجري إنما هو بعض الارتجال وإلا بعض الأفكار وبعض الابتسامة”، ما يعني أن مادة النقاش قد تكون بنت ساعتها وأن الارتجال لم يغب عن طبيعة النقاش (ص 47). وهو ما يشير إليه أدونيس حين اعترض على نشر بعض الوقائع في الصحف من “أمور لا تهم الناس” (ص 47)، وحين طالب في اجتماع الخميس في 24 نيسان 1958 بأن يكون “ما يحكى ذا طابع جيد” وبعدم “نشر الأشياء السخيفة” ( ص 204)، ما يعني أن الحكي لم يخلُ من أشياء سخيفة. وهذه الإشارة إلى مجانية الحكي، معطوفة على اقتراحه إغلاق البحث في أدب جبران، في اجتماع الخميس 17 نيسان 1958، تسبّبت في مشادة بينه وبين يوسف الخال، زجره فيها الأخير بالقول: “عليك أن تأتي بشيء يحوّلنا عن السخف والبحث في السخف عوض أن تستاء من النقاش وتقترح إغلاق باب المناقشة” (ص 201). 

  إلى ذلك، كثيرة هي النتائج التي يخلص إليها الأب السالسي في دراسته المحاضر، غير أنه لم يستنفدها بطبيعة الحال، فتشكّل مصدراً مفتوحاً للدارسين ومؤرخي الأدب يخلصون منها إلى نتائج أخرى. وإذا كان المقام لا يتسع للتوقف عند هذه النتائج، فحسبنا الإشارة إلى إحداها المتعلقة بقصيدة النثر خاتمةً لهذه القراءة: “…يمكن القول إن أنسي الحاج كان أول من أثارت قصائده موضوع قصيدة النثر في “الخميس”، وشوقي أبي شقرا أول من نشر محاولة وصفها بقصيدة النثر، وأدونيس أول من كتب دراسة عن قصيدة النثر، وأنسي الحاج أول من نشر مجموعة من القصائد النثرية في “لن” مع مقدمة مستفيضة في هذا اللون الأدبي في كانون الأوّل 1960″ (ص 92). 

***

  * إندبندنت عربية، في 30 / 1 / 2022

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *