رنة المقصلة

Views: 29

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 أينما تجولت في لبنان، لم تعد تسمع خرير الجداول. ولا تغريدة الحساسين. ولا شدو البلابل. ولا هسهسة الأنسام الليلية. ولا وقع الثلج. ولا المطر. أينما تجولت في لبنان، لم تعد تسمع شهقة الشمس في الصباح. ولا وقع خطوات القمر. ولا حفيف أوراق الشجر. أينما تجولت في الشوارع. ونزلت إلى الأسواق. ووقفت أمام أبواب المدارس. وتحت شبابيك العرائس. كيفما تجولت في القنن. ونزلت إلى بطون الأودية. ووقفت على ثرثرات الينابيع. وكركرات الحصى. ووشوشات الموج. وشرقطات النجوم. وهديل الحمام. وثغاء النعاج. ولا تسمع ترانيم الرهبان. ولا تلاوات القرآن. لم تعد تسمع إلا صوتا واحدا هامسا، يخرج من أعمق الأعماق: رنين المقصلة.

نعم! سيق لبنان سوقا إلى الحرب. جعلوا له مصيدة كبيرة. “زليقة” عظيمة.  تزلق إليها الأجيال. صارت أسماكه تنساق. تتقاطر. تنزلق. لا تعرف مدى المهاوي التي تهوي إليها. ولا تعرف الشباك التي تنتظرها. ولا تعرف الصيادين الكبار، ولا شركات الصيد. ولا تفقه شيئا عن علم الصيد: صيد الحيوان، في البر والبحر والسماء. صيد الإنسان. صيد القطعان، وصيد البلدان والأوطان.

 مسكين هذا الجبل الصغير لبنان.  مساكين تعساء، هم أبناؤه. لا يدرون اليوم ماذا ينصب لهم، في “التصفيات” الأخيرة. في الساعات الأخيرة من التصفيات. (napavalley.com)

 مسكين هذا الجيل الأخير. ذاق ما لم يذقه أهله من مرارة العيش، في عصور الحروب. وفي عصور المجاعات. وفي عصور القتل على الهويات. وفي عصور السحل والرمي الجماعي، والدفن الجماعي. وفي عصور التقطيع، والطمر في حدائق السرايات. ومن التغييب في بطون الوحوش. وفي قيعان البحار. وفي براميل الإسمنت. وفي غياهب الأقبية والسجون. وفي التعليق على الجسور على الأعمدة على النصب في الساحات. على الأشجار.

مساكين أهل لبنان. يمشون اليوم، مثل الصقيع. مثل البرد. مثل الموتى. مثل المجانين والمصابين والمجذومين والمهلوسين، إلى المقاصل.

 يسمعون رنين المقاصل من بعيد، فيهوون إليها مثل فراشات القناديل، مثل فراشات الضوء. مثل دبق الذباب. مثل بعوض المستنقعات.

مساكين هؤلاء، يهوون في القيعان، بلا رحمة. يتخبطون في أثمالهم. يرقصون من الجوع والبرد. لا يسمعون اليوم لا طبول الحرب. ولا أزيز الرصاص. ولادوي الإنفجارات. لا يسمعون اليوم إلا رنين المقاصل. لا يسمعون اليوم إلا وقع أقدام الجلادين. لا يسمعون إلا صليل السيوف. وهسيس الدماء في الأعناق. يقفون فوق الهوة، ينتظرون أن يروا رؤوسهم تهوي من رنة المقصلة. من رنين متصل للمقصلة. وما يسألون، حتى اليوم، لماذا نساق إلى المقصلة. لماذا لا ننام ولا نستيقظ، إلا  على رنة المقصلة. لا يسألون اليوم، لما إعدت لهم كل هذة المقصلة، وهم مجرد قطيع صغير من النعاج. من الأغنام.  لماذا عفوا عن ذؤبان لبنان، وإستيقظوا النعاج والحملان، إلى المقصلة! لماذا يرنون لهم  في آذنهم، كل يوم، رنة المقصلة!.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *