مفهوم حضاري شمولي لـ “الحداثة وما بعد الحداثة”

Views: 271

وفيق غريزي

يشكو العديد من الدارسين من غموض معنى الحداثة ومن تعدد وعدم تحدد مدلولاتها. واذا كان هذا الغموض والالتباس يرجع في جزء منه اما الى غموض ذهني او الى غياب العناء الفكري اللازم احيانا، او الى سوء نية مسبق ضد الحداثة، فان احد اسباب هذا الغموض هو كون هذا المفهوم مفهوما حضاريا يطال كافة مستويات الوجود الانساني، حيث يشمل الحداثة التقنية والاقتصادية، واخرى سياسية وادارية واجتماعية وثقافية وفلسفية.

مفهوم الحداثة هذا، اقرب ما يكون الى مفهوم مجرد او مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الاكبر بينها جميعا. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري المثالي، فًان الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعار ض بين الحداثًة والتحديث. فالمفهوم الاول، يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين المستويات المذكورة من خلال منظور اقرب ما يكون الى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدليا وتاريخيا منذ البداية من حيث. انه لا يشير الى القسمات المشتركة بقدر ما يشير الى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات والى طابعها التحولي.

المؤلف محمد سبيلا

 

الحداثة والمعرفة

تتميز الحداثة بتطوير طرائق واساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية الى المعًرفة التقنية. فالمعرفة التقليدية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية، فهي اقرب اشكال المعرفة الى النمط الشعري – الاسطوري القائم على تملي جماليات الاشياء وتقابلاتها وتماثلاتها ومظاهر التناسق الازلي القايم فيها. اما المعرفة التقنية بنظر مولف كتاب”الحداثة وما بعد الحداثة” محمد سبيلا، فهي نمط من المعرفة قائم على اعمال العقل بمعناه الحسابي، اي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية، النموذج الامثل لهذه المعرفة هو العلم او المعرفة العلمية التي اصبحت نموذج كل معرفة.

ان المعرفة الحداثية معرفة علمية بمعنى انها معرفة تقنية اي في خدمة التقنية، وبالتالي هي معرفة حسابية وكمية واداتية همها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة الداخلية والخارجية، على الانسان وعلى الطبيعة. ” او بعبارة ادق انهًا سيطرة عى الطبيعة عبر السيطرة على الانسان، وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الانسان والعلوم الانسانية ذاتها حين يختلط هم المعرفة والتحرر باستراتيجيات السيطرة “.

عقل الحداثة عقل اداتي والمعرفة الحداثية معرفة تقنية بمعنى انها اضفاء للطابع التقني على العلم، لكنها بنفس الوقت ومن حيث هي اضفاء للطابع العلمي على العلوم الانسانية والاجتماعية على وجه الخصوص، فهي اضفاء للطابع التقني على الثقافة ككل. فالمعرفة الحقة هي المعرفة الاختبارية لا النظرية التاملية، اذ ان الممارسة تحوز الاولوية القيمية والابيستمولوجية على النظرية.

وقد تميز فكر الحداثة وثقافة الحداثة بايلاء الانسان قيمة مركزية نظرية وعملية. ففي مجال المعرفة اصبحت ذاتية العقل الانساني هي الموسسة لموضوعية الموضوعات، وثم ارجاع كل معرفة الى الذات المفكرة او الشيء المفكر او الكوجيتو.

كتاب”الحداثة وما بعد الحداثة”

 

الوعي الفلسفي بالحداثة

انطلقت حركة الحداثة مع الاحداث التاريخية الكبرى: اكتشاف العالم الجديد من طرف كولومبوس عام 1492 , وسقوط بيزنطية 1453، واحداث علمية وتقنية هامة، الطباعة مع غوتنبرغ 1440، وفلكيات كوبرنيكوس 1526 , واكتشاف الدورة الدموية، واحداث فكرية النهضة الفنية في ايطاليا، واطروحات مارتن لوثر ( الاصلاح الديني )عام 1517، وظهور كتاب ” مقال في المنهج ” لرينيه ديكارت عام 1637.

هذه الاحداث التي يأخذ بعضها برقاب البعض ضمن دينامية كلية لم تتوقف مسيرتها المتزايدة السرعة ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي شكلت حسب راي الموًلف العلامات البارزة لسيرورة حضارية لم تنته اشواطها الكبرى الى الان. فما تزال الحداثة تشكل الافق المنظور للعالم الحديث حتى ضمن ما يدعى بما بعد الحداثة، الذي لا يعدو مرحلة ثانية من مراحل الحداثة، مرحلة ضاعفت فيها هذه الاخيرة سرعتها وعمقت منطقها.

وفي هذا الصدد يقول محمد سبيلا:

“اذا كان الوعي الفلسفي بالحداثة يعود بدون جدال الى هيغل، فان البراعم الاولى لهذا الوعي، وان بصورة غير واضحة، يعود الى فيلسوفين اخرين، اولهما رينيه ديكارت الذي ارتبط، عبر الكوجيتو بانطلاقة دينامية الفكر الحديث مقدما الاساس الصلب لفكر الحداثة، وثانيهما عمانوييل كانط الذي يعتبره البعض مفكر الحداثة وبورتها ومراتها بينما يعتبر الاخرون انه يشكل ردة القياس الى ديكارت وثورة كوبرنيكيةمضادة “.

ان هيغل يرى ان ماهية العالم الحديث تتركز في فلسفة كانط التي هي بؤرة هذا العالم، ونوع من التاويل الذاتي له، وان عصر الانوار الذي جعل من العقل صنما يعبد، ينعكس ويتبلور في فلسفة كانط. اما هابرماس فيؤكد ان كانط لم يفهم الحداثة كما هي، وان كان معماره الفكري قد عبر عن العالم الحديث. فالسمات الاساسية لهذا العصر تنعكس على الفلسفة الكانطية كما لو كانت مراة. واذا كان هابرماس قد اعتبر فلسفة كانط مراة لديناميكية الحداثة، دون ان يكون قد فهم جوهرها واليتها، فانه من زاوية اخرى، يعتبر هذه الفلسفة هي المنطلق الاول البعيد لما بعد الحداثة. فتميز كانط بين العقل والذهن هو، منطلق فقد التصور الذاتي الصرف للعقل، اي نقد للعقل الاداري وللعقل البارد والمتشيئ.

كولومبس…. واكتشاف العالم الجديد

 

الحداثة وفضاء التجربة

حققت الحداثة العملية التقنية الاف المعجزات اذ اكتشفت مجاهل الكون بمجراته اللامتناهية، ولا نهائيته في الزمان والمكان، ونمطه الدائم، وسياحته الفضائية اللامتناهية، واكتشفت الثنايا اللامرئية للمادة الجامدة من الكترونيات ونيوترونيات وما يكتنفها من حركية دائمة، واكتشفت ثنايا المادة الحية بمكوناتها الاساسية والثانوية لدرجة جعلتها تشارف التحكم في عناصر الحياة، مما مكنها من تسخير العديد من المخترعات لصالح الانسان، فقد طور التقدم التقني اشكال الانتاج المختلفة بما في ذلك انتاج بعض الكائنات الحية (الاستنساخ) وزود الانسان بقدرات وطاقات كانت في الماضي من قبيل السحر والطلاسم، وجعل الانسان يصبح فعليا سيد العالم، بل الادهى في الامريقول الموًلف: “هو ان التجربة الحداثية الغربية، رفعت شعار المساواة والتآخي بين البشر، اضافة الى شعارات التقدم والتحرر، وقد تحولت في جزء منها الى تجربة استعمارية، بل امبريالية، ثم عولماتية كما هو الشان اليوم. وذلك لان هذه التجربة قد اندغم فيها منذ بداياتها عنصران متنافران: التحرر والهيمنة، التقدم والسيطرة، السيطرة على الذات وعلى الاخر “.

لذلك لا يمكن ان نقول ان الحداثة الغربية قد حققت في جانبها العلمي والتقني ما كان منتظرا منها بل اكثر مما كان منتظرا منها،لكن هذه الايجابيات والانجازات باطنا اشكالا من الهيمنة الثقافية والسيطرة الاقتصادية والاستتباع السياسي للشعوب الاخرى، بل باطنت داخليا الفشل في تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الناس.

سقوط بيزنطية

 

ما بعد الحداثة والحداثة

يؤكد الموًلف محمد سبيلا ان الحداثة البعدية هي حداثة اعمق واوسع قدما لانها اصبحت اكثر مرونة، واكثر قدرة على احتواء نقائضها. وفي ذلك تجاوب عميق مع ماهية الحداثة نفسها كتجاوز مستمر، وقطيعة دايمة، وتنكر دووب لذاتها او حسب تعبير جميل لـ آلن تورين، ان العلامة الاكيدة على الحداثة هي الاشارات المناهضة او المضادة للحداثة التي تطلقها هذه الاخيرة. فالحداثة البعدية هي حداثة من درجة ثانية بالمعنى الجبري لا بالمعنى الحسابي، اي حداثة اثنين، انها حداثة تحاول ان تستبدل العقل الاداتي المسيطر بعقل مطاط ولزج، وان تزج القانون بالاخلاق، واخلاق المسؤولية باخلاق الضمير، والمجتمع الميكانيكي بمجتمع عضوي، والعقل بالحدس، والعلم بالاسطورة، والحقيقة بالجمال، والتقدم بالاصالة، والنثر بالشعر، والنقد بالعقل الى غير ذلك. وبعبارة اخرى حسب راي الموًلف: ان شق الحداثة البعدية ضمن الحداثة هو محاولة لاعادة التوازن الداخلي في الحداثة بعد ان طغى، بشكل مجحف، الطرف الاول المادي، الالي العقلاني، الاداتي ضد الطرف الثاني الغايي، الانساني الاخلاقي والجواني.

ولعل ما يميز الحداثة هو نفورها من كل مماهاة وتنميط. فالحداثة ثورةم ستمرة وتجاوز مستمر، وحركة اشكال لا تنتهي واعتدامية ايجابية لا قرار لها.

الحداثة في جوهرها نفي مستمر، وتجديد من اجل التجديد، يغدو في اطارها كل ما هو صلب سائلا ومتبخرا ولكن ذلك لا يعوق حسب قول الموًلف: ” امكانية تحديد السمات الاساسية للحداثة. ان حركة الحداثة كدينامية تاريخية ليست وليدة القرن الثامن عشر، فبالاحرى القرن التاسع عشر، في اوروبا، بل ان جذورها تمتد الى القرن الخامس عشر، وبعبارة موجزة فان الحداثة وديناميتها نشات واستمرت كحركة دينامية عصفت بالتدريج بكل البنيات والذهنيات العنيفة وساهمت في احداث نوع من القطيعة الجذرية مع كل ما هو تقليدي، ومؤدية الى بلورة تصور جديد للعالم مختلفًا كليا عن التصور التقليدي “.

غوتنبرغ

 

قطيعة ام استمرار

ان مسالة العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة اعقد بكثير مما يظن، ومن التصنيف السرع، والتحقيب المتعجل، الذي يوحي بوجود تحول كيفي وانتقال نوعي. يشير الموًلف الى انه اذا تحدثنا عن عصور فنحن ندور في سياق التاريخ والسوسيولوجيا، واذا تحدثنا عن ماهيات وتحولات فكرية، فنحن نفكر في اطار فلسفي،لذلك يستحسن ان نميز في كل من الحداثة وما بعد الحداثة بين مستويين: مستوى سوسيولوجي ومستوى فكري، وذلك حتى نتمكن اولا من الفهم وهو غرضنا الاول وحتى نتمكن ثانيا ولو جزئيا من رفع العديد من الالتباسات التي تطال هذه المصطلحات والتي يبدو انها من صميم وصلب الحداثة ذاتها.

ترتبط التسمية “ما بعد الحداثة” صراحة او ضمنا في المستوى الاول: بالتحولات السوسيولوجية، التاريخية التي داهمت المجتمعات الغربية المتقدمة منذ منتصف القرن الماضي، والتي تمثلت اساسا في ظهور ما اسماه السوسيولوجيون ” بالمجتمع الاستهلاكي “،او مجتمع الوفرة، اذ بدا ان نمط الحياة الاجتماعية الجديد يتميز لا فقط بتوفير ومراكمة راس المال، وبالتقتير على الانفاق، بل بنوع من التبذير والحث على الاستهلاك دفع البعض الى القول بان الاستهلاك هو محرك المجتمع ما بعدالحداثي.

يبدو ان ما بعد الحداثة هي تعميق لمسار الحداثة، او هي سرعة ثانية للحداثة، بمعنى انها استمرار لمنطق الحداثةولعمقها الصاير حيث هي نقد مستمر وتجاوز لذاتها. ما بعد الحداثة هي الحداثة سافرة، الحداثة بدون مساحيق وبدون اوهام.

كوبرنيكوس

 

العرب والحداثة

للحداثة استراتيجيات لا راد لفعلها، فهو تحويل للجواهر الى علاقات، وللماهيات الى سيرورات، والغايات الى وسائل، وفعلها اشبه ما يكون بذلك السايل المذيب لكل المواد فما ان يقع على اي موضوع حتى يحلله ويفككه، وينزع عنه الورود الجميلة التي كسته، ويفتت الاوهام الرايعة التي علقت به.

 وحسب اعتقاد الموًلف محمد سبيلا، لا تكاد الحداثة العربية تفلت من الديناميات، فهي اولا حداثة برانية وليست جوانية لانها لم تنشا وتترعرع في ج هذه التربة،بل ترافقت مع الاستعمار، ومع دخول الاجنبي ومن ثمة غربتها وغرابتها وغربيتها وخارجيتها. وهي ثانيا حسب اعتقادي حداثة عنيفة في طريقة حلولها بربوعنا، وعنيفة من حيث فعلها التفكيكي في كياننا الجوهري. انها عنيفة في نشوئها، وعنيفة في فعلها الحاضر، وهي ثلاث حداثة يختلط فيها التحرر بالسيطرة. فهي تحرر من ثقل التراث والتقليد، ومن ضوء العالم القديم، انها تحرر الفرد من ربقة التقليد وثقل الماضي، لكنها يقول سبيلا: ” تنزع عنه اغلال الماضي لتكبله باصفادالحاضر، فهي تعلن شعار الحرية والتحرر وتفتح امام الفرد طيف الوان من الاختبارات الممكنة، لكنها، وبنفس الحركة، تعود الى الالتفاف على حرية الفرد وقدرته على المبادرة لتدمجه في النسق “.

رينيه ديكارت
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *