بكائيات الوجوه

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة)

 الغموض حق. الغموض جريمة. فلا يزال المحققون يعملون بإستمرار، ليل نهار، على جلاء الحقيقة.  على إكتشافها. ومع ذلك فلا فائدة مما يكشف منها. فهو غير ذي أهمية. هو للتسالي فقط، وتقطيع المرحلة. وأما الحقيقة فستظل تتقمط قماطاتها الألف، حتى تحافظ على سرها.

 “الوجه الغامض” أعظم ما فيه، أنه يحفظ سره. ولهذا فهو حافظ الأسرار. له من عشب الغموض وورقه، ما يجعل منه تميمة عصية عن الفهم، سحرية.

 من غموض المعاني. إلى غموض النص. إلى غموض الشعر. إلى غموض السياسة. إلى غموض الموقف. إلى غموض الحل. إلى غموض الجريمة. إلى غموض الحسن. إلى غموض العطاء. إلى غموض المستقبل. كل ذلك يشي بوجه واحد للغموض، هو ما أسميه، كما غيري: غموض الوجه، الذي نتعرف عليه، في الوجه الغامض.

  وجه الغموض الذي يبز جميع الوجوه الغامضة الأخرى ويسمو عليها، هو وجه الموت نفسه. هو أعظم الوجوه الغامضة التي يقف الإنسان إزاءها مشدودا. مشدوها. وجه من وجوه الحرب التي تعرف بـ”الحرب الصاعقة”. غموض عظيم. وجوم عظيم. وجه في العمق، هو إذن، مكتنف بالغموض.

رسالة غامضة، من جهة ما غامضة، إنما هو الموت. لا يهم كثيرا، إذا ما كانت له نذر سابقة. لا يهم كثيرا، حديث الأطباء. ولا تهم كثيرا التقارير الطبية التي تحدثت عن نذر بالموت الوشيك، حين يقال عن الموت: إنه بسبب الأمراض المستعصية. إنه بسبب الأمراض القاتلة. الأهم من ذلك كله: وجه الموت نفسه. وجه الغموض فيه. هناك الحقيقة الخبيئة، التي لا تكشف عن وجهها. لأنها السر الخبيء. السر المصون.

 أي عالم هذا، الذي خرج منه ذلك الوجه الغامض وبسط معناه على هذا الوجه. ثم غاب لأيام وعاد ليبسط معناه على هذا الوجه الآخر. كيف يكون للوجه رسالة غامضة. كيف تكون للرسالة الغامضة وجه الغموض.

أبعد من الفقد هي تلك الرسالة الغامضة للموت التي تصل على حين غرة. تصل بلا موعد مسبق. تصل ولو بعد النذر التي أرسلتها. لأنهاالوجه الغامض

  كيف تأتي رسل الموت الجميل بلا موعد. كيف تختار الباب. كيف ترمي رسالتها غموضا جميلا، بكل غموض. ثم تعود عن الماضي. رمت عليه شرشفها الأبيض، كفنا غامضا، من بياض ثلج سابق. حلة عظيمة مهيبة، من نسيج واحد. وجه موت واحد. وجه غموض واحد، غاب بوجهه السابق في بياض  يوم، فتق الشفق. وصار وجه يومه. ينتظر حتى اليوم، وجه الغموض.

هي الأسماء تنظر دربها. تنظر دورها، حتى تأتيها هديتها. لا شيء يستقدم. لا شيء يستأخر. حين يحين الحين. وحين ينفتق  الغسق. يغيب فيه الوجه الغامض، في وجه الغموض.

 هو إذا، الوجه الغامض، يقوم بتوزيع رسائله ساعة يشاء، بلا إستئذان. يخرج من ثقوب الكون، يحمل بريده بلا موعد.  يصل بلا موعد. يرمي رسالته الغامضة، على الوجه الغامض، فينبعث نور، يضيء الحقيقة. وتظل تحتفظ بالغموض.

 ترى الموت، من بنيات الطريق. أم الوجه الغامض للطريق. لا فرق بين الطريق ووجهه، حين يكون الوجه صديقا للطريق. حين يكون الوجه ظلا للطريق.

 دحما دحما، ينزلق الوجه الغامض، في ثقب من ثقوب الغسق. بلا وداع، يكون الوداع. بلا بكاء، يكون البكاء. بلا شرح. بلا تفسير. بلا تأوييل: غاب عبدالكريم، في العبد الفقير. غاب عبد الله في العبد النذير. كلاهما غاب، بلا وداع، في الوداع الأخير.