قراءة في كتاب “الفلسفة ومرآة الطبيعة” لـ ريتشارد رورتي

Views: 960

وفيق غريزي

نحن مدينون بفكرة نظرية في المعرفة “المؤسسة على فهم للعمليات العقلية للقرن السابع عشر” بخاصة الى الفيلسوف جون لوك، ونحن مدينون بفكرة العقل، ككيان نفصل فيه حدوث العمليات، للحقبة الزمنية ذاتها، بخاصة الى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، ونحن مدينون بالفكرة التي تحسب الفلسفة محكمة العقل المحض تقضي باثبات مزاعم بقية الثقافة أو بطلانها للقرن الثامن عشر، بخاصة الى الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط، غير ان هذه الفكرة الكانطية تفترض تصاعدا عاما الى فكرة لوك عن العمليات العقلية وفكرة ديكارت عن الجوهر العقلي.

وعلاوة على ذلك، ظهر في القرن التاسع عشر شكل جديد من الثقافة، هو ثقافة الكاتب، تخص المفكر الذي كتب القصائد والروايات، والمقالات السياسية والنقدية لقصائد الآخرين ورواياتهم ومقالاتهم، فقد كتب ديكارت ولوك وكانط في حقبة زمنية، امكن فيها علمنة الثقافة بفضل نجاحات العلم الطبيعي. “. غير ان الذي حصل هو أنه في اوائل القرن الماضي صار العلماء بعيدين عن المفكرين، مثلما كان الحال مع اللاهوتيين، وحل الشعراء والروائيون محل الوعاظ والفلاسفة لمعلمين اخلاقيين للناشئة.. وكانت النتيجة أنه كلما ازدادت علمية الفلسفة ودقة لغتها قلت علاقتها ببقية الثقافات، وازداد ظهور لا عقلانية مزاعمها التقليدية “.

 

النشاط الانساني

إن هذا الكتاب عبارة عن نظرة عامة على بعض التطورات الحديثة في الفلسفة، وبخاصة في الفلسفة التحليلية من منظور مضاد للفلسفة الديكارتية والثورة الكانطية، وهدف هذا الكتاب هدم ثقة المتلقًي بالعقل بوصفه شيئا يجب ان يكون المرء وجهة نظر فلسفية عنه، وبالمعرفة كشيء ما يجب أن تكون، هناك نظرية حوله كما كان تصوره في الفلسفة منذ كانط، يكون لها أسس، وبالفلسفة كما تم فهمها منذ كانط. وبالرغم من أن الموًلف يبحث في حلول لمشكلة العلاقة بين العقل والجسد، فلم يكن عمله هذا بغية اقتراح نظرية، وانما لكي يشرح سبب عدم اعتقاده بوجود مشكلة. وانه ورغم مناقشته نظريات المرجع، فانه لم يقدم نظرية، ولم يقدّم سوى اقتراحات تختص بسبب كون البحث عن مثل هذه النظرية هو بحث ضال. ويرى الموًلف ان الفكرة المعروفة هي ان النشاط الانساني وبصورة خاصة البحث، اي البحث عن المعرفة، يحصل ضمن اطار يمكن عزله قبل الوصول الى نتيجة البحث، وهو عبارة عن مجموعة اقتراحات تكون بمعرفة قبلية، وربط الفلسفة المعاصرة بالتقليد الفلسفي الشامل، ديكارت ولوك وكانط. وفكرة وجود مثل هذا الاطار لا يكون لها معنى إلا إذا فكرنا بهذا الاطار على أنه مفروض من طبيعة الذات العارفة، أو من طبيعة ملكاته، أو من طبيعة الوسط الذي يعمل فيه.

ومن وجهة نظر المؤلف، فان احدى الطرق التي تساعد على رؤية كيف تتلاءم الفلسفة التحليلية وتندمج في النموذج الديكارتي – الكانطي، تتمثل في النظر إلى الفلسفة التقليدية على أنها محاولة للهروب من التاريخ، إي أنها محاولة ايجاد شروط لا تاريخية لأي تطور تاريخي ممكن. ومن هذا المنظور تكون الرسالة المشتركة لديوي وهايدغر رسالة تاريخية. فكل منهما يذكرنا بان الابحاث الخاصة بأسس المعرفة والاخلاق أو اللغة أو المجتمع، يمكن ان تكون ببساطة تبريرية، ومحاولات لتأكيد لعبة لغوية معاصرة معينة، أو ممارسة اجتماعية، أو صورة ذاتية.

 

معايير العقلي

المناقشات التي تدور في فلسفة العقل، عادة ما تنطلق من الافتراض أن امرىء لديه معرفة دائمة عن كيفية قسمة العالم الى ما هو عقلي وما هو فيزيائي، وأن هذا التمييز مألوف وحدسي فلا يحتاج الى برهان، حتى لو كان الانقسام بين نوعين من المادة(احدهما مادي والاخر لا مادي) فلسفيا ومحيرا، وان الحديث عن كائنات عقلية هو حديث عن نزاعات سلوكية، أو أنه حديث عن حالات عصبية، فانهما سيتعرضان لهجومين، إذ ينشأ عندئذ سؤال هو: اذا كان المذهب السلوكي أو المذهب المادي صحيحا، فهل يبقى شيء لا برهان عليه، مثل التمييز الحدسي؟

 ويبدو أن الموًلف لا يرتاب في أن الآلام وحالات المزاج، والصور والجمل التي تلمع امام العقل والاحلام، والهلوسات والمعتقدات، والمواقف، والرغبات، والنوايا كلهاعقلي، في حين ان تقلصات المعدة التي تسبب الالم، والعمليات العصبية التي ترافقه، وكل ما يمكن ان نحدد موقعه الثابت داخل الجسم يحسب لا عقليا. وفي عودته الى مقولات كانط، ويشرح أن العقلي هو زمني لكنه لا مكاني، بينما اللامادي ليس مكانيا ولا زمانيا، واللامادي هو اللغز الذي يتعدى حدود الحس، ويقول الموًلف : ” ويبدو ان هذا يعطينا تمايزا ثلاثيا دقيقا هو : الفيزيائي هو مكاني – زمني، والسيكولوجي ليس مكانيا لكنه زمانيا، والميتافيزيقي لا مكاني ولا زماني، وهكذا نستطيع ان نشرح الترادف الظاهري بين الفيزيائي والمادي بوصفهما خلطًا بين ما ليس بسيكولوجيا وما ليس ميتافيزيقا “.فتكون المشكلة الوحيدة في ان كانط وستراسون قدما حججا مقنعة تدعم الزعم باننا لا نستطيع ان نحدد الحالات العقلية الا كحالات اشخاص متموضعين في مكان.

وبما ان المؤلف تخلى عن مادة العقل فانه ملزم بان ينظر الى هذه الحجج نظرة جدية، وهذا يكمل تقريبا دائرة كلامه، لأنه يريد أن يعرف ما معنى القول أن بعض حالات الكائن المكاني مكاني، وبعضها ليس مكانيًا، فليس يجدي القول أن هذه هي حالات وظيفية، ذلك لأن جمال الانسان وبنيته وشهرته وصحته، هي حالات وظيفية، ومع ذلك “فان الحدس ينبئنا بأنها ايضا ليست حالات عقلية “.

نستنتج من كل ذلك أاننا “لا نستطيع ان نجعل اللامكانية معيارا  للحالات العقلية، ولو لسبب وحيد، الا وهو أن فكرة حالة هي فكرة مبهمة بما فيه الكفاية.

 

العلاقة بين العقل والجسد

قد نرغب في القول أننا وجدنا حلا لمسألة العلاقة بين العقل والجسد، لأن ما نحتاجه لنرى أن هذه المسألة غير معقولة هو “وبصورة غير معقولة”، أن نكون اسميين، أي أن نرفض رفضا قاطعا تشييء الصفات الفردية، عندئذ لن تخدعنا فكرة أن هناك كائنات تدعى الأنا، وهي لأنها ظاهرة لا تستطيع أن تكون فيزيائية، على حد قول المؤلف. غير أن الفلاسفة الذين خلقوا اللغة التي قدمت لنا مسالة العلاقة بين العقل والجسد، لا يستخدمون هذا المعجم أو اي شيء قريب منه، فاذا اردنا أن نفهم كيف حصلنا على الحدوس التي جعلتنا نعتقد بضرورة وجود مسالة فلسفية لا حل لها في مكان ما، في الجوار، وعلينا يقول المؤلف أن: “نطرح جانبا لغتنا الغريبة المضطربة، ونفكر بمعجم الفلاسفة الذين اعطتنا كتبهم تلك الحدوس”.

إن مسألة العلاقة بين العقل والجسد تختص فقط بعدد قليل من الافكار التي تشابكت عبر نشوئها في محطات مختلفة في تاريخ الفكر، لتنتج عقدة من المسائل المترابطة، فاسئلة مثل: كيف ترتبط حالات قصدية من حالات الوعي بحالات عصبية؟ وكيف تتعلق صفات ظاهرية مثل: الشعور بالألم بصفات عصبية؟ هنا جزءان مما سوف يدعوه المؤلف مسألة الوعي. وهذه المسألة مختلفة عن مسائل تعود الى ما قبل الفلسفة وتتعلق بالشخص، مثل: هل أنا حقيقة هذه الكتلة من اللحم والعظم؟ ومختلفة عن مسائل يونانية فلسفية تدور حول المعرفة، مثل: كيف يكون لنا يقين عن التغيير؟ يقول المؤلف في هذا المجال: “دعونا نسم مسألة الشخص مسألة يكون الانسان اكثر من اللحم، فقد كان لهذه المسألة صورة واحدة في التشوق السابق للفلسفة نحو الخلود، وصورة اخرى في التأكيد الكانطي والرومانسي على الكرامة الانسانية “.

 

ثنائية المادة والعقل

إن فكرة الفصل بين العقل والجسد تعني اشياء مختلفة، قبل ديكارت وبعده، فالابستمولوجيا الماديةالصورية، التي اعتبرت ادراك الكليات بمثابة التمثيل في عقل الانسان لما مثله الضفدع في جسده، استبدلت باطار الحدث القانوني الذي شرح التضفدع كماهية اسمية.

ويشير المؤلف الى أننا نحن الورثة المعاصرين للتمييز الديكارتي بين العقل والمادة، ولقد فقدنا التماس بفكرة الجوهر في تعريفها الخاص بالقرن السابع عشر. ولم تكن فكرة الوجود مفهومة عند العاديين من البشر اطلاقًا، ونجح كانط بجعلها غير مفهومة حتى عند الفلاسفة المحترفين، وهكذا، عندما نرتفع نحن الى الاخذ بالرأي المفيد وجود تمييز واضح بين صنف من الاشياء يمكن أن يوخذ في المكان وصنف آخر لا يقدر على ذلك، فنحن لا نكون صاعدين الى الأخذ برأي ديكارت الذي يقول ان العقل والمادة كائنان متمايزان لا يعتمدان على أي شيء آخر لوجودهما.

” وهناك العديد من الفلاسفة الذين يتفقون على اعتبار الكلام على مكان المادة والفكر لغوًا، ويؤكدون على أن جدول وعي من غير جسد لا يمكن، وكأن هؤلاء الفلاسفة راضين باعتبار الكائنات العقلية حالات لاشخاص وليس شذرات من مادة شبحية، ويجعل صفة اللامكانية علامة على الحالات الوصفية لابنية خاص لجزيئات معينة “.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *